عفا الله عن رجال يتكلمون في أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وعن روايته للحديث فهم يغمزون ويلمزون ويتكلمون عن كثرة روايته، مع انه صحابي جليل شهد له رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بالصدق، ودعا له، وكان رجلا قد هاجر إلى الله ورسوله وكان من الزم الصحابة له وكان يدور معه حيث دار حرصا على الحديث وروايته، ويأخذ عنه ويروي عنه بكل أمانة وصدق.
والحديث عن صحابة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) (ومنهم أبو هريرة رضي الله عنه) لا بد أن يكون بأدب وعلى علم وأسس صحيحة لا يخدش صحابيا ولا يغمز بأحد منهم، لأن النبي (صلي الله عليه وسلم) حذرنا من ذلك عندما قال: «الله الله في أصحابي، فلو انفق أحدكم مثل احد ذهبا ما بلغ مد حدهم ولا نصيفه» وقد لاحظت بكل أسف أن هناك أحاديث تدور عن روايته للحديث وكثرتها ولو ردها هؤلاء إلى علماء الحديث ورجاله لعلموا الحقيقة وعرفوا صدق الصحابة وأمانتهم في الرواية، لأنهم تربوا على يد رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وسمعوا منه، واخذوا عنه، وتعلموا منه أهمية الصدق، وقد حذرهم من الكذب عليه حين قال: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
وعلينا أن نعلم أن أبا هريرة صحابي جليل، صحب رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وكان قريبا منه، وقد أحبه رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، ودعا له بالحفظ، وكان رضي الله عنه زاهدا في الدنيا، ومن أهل الصفة، وكان حريصا على سماع الحديث من النبي (صلي الله عليه وسلم)، وكثيرا ما كان يتحمل آلام الجوع حتى لا يفوته شيء من الحديث النبوي الشريف.
وقد صحب النبي (صلي الله عليه وسلم) وحفظ الكثير من أحاديثه، وآتاه الله قلبا واعيا، وحفظا دقيقا، وعرف بالصدق والإيمان والتقوى، والمروءة، والأخلاق، ولهذا فإنه أمر مؤسف أن نلاحظ بين وقت وآخر تهجم بعض المستشرقين، فقد حذا بعض من لا علم له بالحديث حذو هؤلاء المستشرقين، وصدقوا أقوالهم في الطعن في الصحابة الكرام، والطعن في الحديث الشريف، والتشكيك في روايته، وكثير من هؤلاء الطاعنين من المسلمين الذين لم يدرسوا حياة هذا الصحابي الجليل دراسة صحيحة، ولم يعرفوا حقائق ناصعة عن روايته ودقته، ولهذا فقد أخذوا بكل أسف يغمزون ويلمزون، وهذا أمر خطير لأن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: «من آذى أصحابي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله... الحديث» ومن هنا فإننا نلاحظ أن بعض هؤلاء الطاعنين قد أسرفوا على أنفسهم وعمدوا إلى اتهام أبي هريرة رضي الله عنه بالإكثار في رواية الحديث النبوي، وانه قد روى الآلاف من الأحاديث عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، واتهامه بأنه أسرف في الحديث، وهذا أمر غير صحيح، بل هو تزوير وتدليس على هذا الصحابي الجليل الذي خدم الحديث النبوي وأخلص في روايته، وانقطع له، وصحب رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وكان يتحمل ألم الجوع حتى لا يفوته شيء من حديث رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وقد اخرج البخاري عنه انه قال: «والله الذي لا اله إلا هو أن كنت لاعتمد على الأرض بكبدي من الجوع، وأشد الحجر على بطني».
لقد كان رضي الله عنه حريصا على العلم، وشهد له النبي (صلي الله عليه وسلم)، فقد روى ابن كثير في البداية والنهاية أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال له: «إلا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟»: فقلت له أسألك إن تعلمني مما علمك الله.
وكان كثير الحفظ لا ينسى، فقد دعا الله فقال: اللهم إني أسألك علما لا ينسى وقد أمن الرسول (صلي الله عليه وسلم) على دعائه. وروى البخاري ومسلم، قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله إني لأسمع منك حديثا كثيرا أنساه. قال (صلي الله عليه وسلم): «ابسط رداءك» فبسطته، ثم قال: ضمه إلى صدرك» فضممته، فما نسيت شيئا بعد ذلك.
«وهذه ميزة مهمة لهذا الصحابي الجليل فقد روى ابن حجر في الإصابة: أنه جاء رجل إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه فسأله، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة، فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ندعو الله ونذكره، إذ خرج علينا رسول الله (صلي الله عليه وسلم) حتى جلس إلينا فقال: عودوا للذي كنتم فيه، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي فجعل رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يؤمن على دعائنا، دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سأل صاحباي وأسألك علما لا ينسى، فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): آمين.. فقال زيد وصاحبه: ونحن يا رسول الله نسأل علما لا ينسى... فقال سبقكم بها الغلام الدوسي. (يعني أبا هريرة). فأبو هريرة إذن محفوف بالعناية الإلهية، والدعوات النبوية، فإذا أضفنا إلى ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة في الدلالة على حبه لرسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وحرصه على نوال شفاعته الخاصة التي لا ينالها إلا الذين سبقت لهم الحسنى من الله فكانوا أسعد الناس بهذه الشفاعة، وهم الذين تكون شفاعته (صلي الله عليه وسلم) بهم شفاعة تشريف وتكريم وعلو درجات، وقرب من رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وليست شفاعة من ذنوب أو شفاعة من كبيرة أو كبائر وقد كان جواب النبي (صلي الله عليه وسلم) شهادة عظيمة منه لأبي هريرة رضي الله عنه.
والسبب في إكثاره من الحديث وعدم نسيانه طول الصحبة، وملازمته لرسول الله (صلي الله عليه وسلم) وتأمين الرسول (صلي الله عليه وسلم) على دعائه ودعاء الرسول له (صلي الله عليه وسلم). فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة انه قال: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) والله الموعد، إني كنت امرءا مسكينا اصحب الرسول على ملء بطني.
«ولو حسبنا عدد أيام صحبته للنبي (صلي الله عليه وسلم) لوجدنا أنها تبلغ أكثر من ألف وأربعمائة وستين يوما ولو قسمنا ما روي عنه من الأحاديث الشريفة على هذه الأيام وجدنا أنه يروي كل يوم ما يقارب ثلاثة أحاديث ونصفا، وفي كل مائة يوم 367 حديثا أو أنه كان يحفظ مائة حديث في كل سبعة وعشرين يوما، فهل يستغرب أن يحفظ أبو هريرة رضي الله عنه كل يوم أربعة أحاديث مع ما رأينا من قصة الكساء، وقصة الدعاء، وما رأينا من حرصه على العلم، وحرصه على حفظ الأحاديث الشريفة، ومع ما رأينا من انقطاعه لخدمة النبي (صلي الله عليه وسلم) وسماع أقواله، وزهده في الدنيا، وعيشه مع أهل الصفة، وصبره على الجوع في سبيل ذلك.