قطاع كبير من المصريين رأيه أن الحكومة عندها حق تمنع
وتبني جدارًا حاجزًا بيننا وبين غزة، وخدنا إيه من الفلسطينيين، وخلينا في
حالنا، وهمه اللي ودونا في داهية ومثل هذا الذي تسمعه، ولكن للأمانة نفس
هذا القطاع سوف تجده متحمسًا جدًا للتهوين من مقتل الأقباط في جريمة
طائفية وربما يقولك يستاهلوا ما همه اللي عملوا وسووا واستقووا (واغتصبوا)
وح يخوتوا دماغنا بسبعة ماتوا. هذا القطاع من المصريين موجود فعلاً ومنتشر
جدًا، لكن الحقيقة أن وعيه حصاد خليط من أكاذيب الحكومة والمتطرفين وعقله
جاهز للتحامل والاستعلاء المثير للشفقة ومجهز للتشاحن النفسي مع الآخر
الأضعف أو الذي لا يقدر علي رد إيذائه وهو قطاع غاضب وناقم علي وضعه
الاقتصادي وربما الاجتماعي ومش طايق نفسه ومن ثم تظهر عدوانيته وغوغائيته
ضد الضعفاء والأقليات سواء الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة أو أقباط مصر
في الصعيد والدلتا.
لنركز اليوم علي ما جري في رفح، ويدهشك طبعًا أن
الإعلام الحكومي والفضائي الخاص يبرز باهتمام واسع مستحق جريمة إطلاق رصاص
علي جندي مصري يستشهد علي الحدود بفاعل مشتبه في كونه فلسطينيًا، لكن
الإعلام الحكومي نفسه يضع في فمه خشبة ويخرس عندما يقتل الإسرائيليون
جنديًا مصريًا علي الحدود، فهل استشهاد مصري برصاص إسرائيلي مسألة عادية
لا تستحق الغضب والاهتمام والاستنفار؟ أم أن هذا تعبير في منتهي المباشرة
الفجة عن تخوف وتردد وضعف سياسي حكومي مصري أمام إسرائيل واستقواء
واستئساد أمام حكومة حماس في غزة؟ أي مراجعة شبه أمينة للمعالجة الإعلامية
الحكومية تكشف عن تلك المهزلة المأساوية أو المأساة الهزلية.
الحاصل أن موقف الحكومة من حصار غزة مخزٍ فعلاً، لكن
إدارتها ودفاعها عن موقفها أكثر خزيًا، فالحكومة تشارك الصهاينة
والأمريكان في حصار غزة وتجويع الشعب الفلسطيني وتطلب من حماس تسليم نفسها
تقريبًا لإسرائيل وأن تتحول إلي منسق أمني أقرب للعميل كما حكومة رام الله
التي تتباهي بأنها تتعاون أمنيًا مع الاحتلال في مشهد يعيدك للحروب
الصليبية حين كان حكام عرب ومسلمون خدمًا لأمراء الإمارات الصليبية!
المشكلة هنا أن الحكم في مصر يريد إقناع الشعب
الفلسطيني في غزة بأنه يحاصره لمصلحته، والعجيب أنه بينما يطالب حكم مصر
شعبه بالتوحد معه وحوله يطالب الشعب الفلسطيني بالتخلي عن حماس والتعامل
معها باعتبارها تهدد حياته ومستقبله، وفي هذا السياق الفاشل تأتي إجراءات
فضلاً عن أنها رديئة وغير أخلاقية فإنها استفزازية من الحكومة المصرية علي
طريقة بناء جدار فولاذي لمنع الأنفاق التي تمد غزة بالحياة، طبعا الأنفاق
غير شرعية لكن الحصار أيضا غير شرعي وغير إنساني وغير أخلاقي واللجوء
للأنفاق حل للهروب من الحصار والاحتلال والذي يريد قطع الأنفاق عليه أن
يقطع الحصار وينهي الاحتلال وليس عليه أن يهدم مصدر حياة الشعب
الفلسطيني.. والمصيبة أنه يريد إقناعه بأن هذا لمصلحته!! كذلك ما جري من
فضيحة سياسية وإعلامية بمنع النشطاء ومنع قوافل الإغاثة من المرور
بالأراضي المصرية والعبور إلي غزة دون أدني مراعاة لمشاعر الشعب الفلسطيني
المحاصر الذي تريد مصر أن تعاقبه علي اختياره حماس بمنع التضامن الدولي
معه. الحكم المصري هنا يخاصم الشعب الفلسطيني ويخسر غزة الشعبية، نحن لا
تفرق معنا حماس ولا فتح (أنا شخصيًا من مناصري الجبهة الشعبية وهي فصيلي
المفضل في فلسطين المحتلة) ولكن ما يهمنا هو الشعب الفلسطيني والذي يقول
نظامنا المصري كذلك مُلحًا إنه يهمه.. طيب لماذا تعاقبه إذا كنت تناصره؟
ولماذا تجعله يدفع ثمن حماس إذا كانت حماس قد أخذت شعبها رهينة فأنت أيضا
يا نظام يا ناصح تتعامل مع نفس الشعب علي أنه رهينتك ضد حماس، تسيبوا
أسيب!! مما جعل الشارع الفلسطيني يعتقد وعنده حق أن النواب الأتراك الذين
تركوا برلمانهم في أنقرة لفك حصار غزة أقرب وأرحم وأكثر عطفًا وتضامنًا
ودعمًا من النواب المصريين الذين سبوا للفلسطينيين الملة والدين في مجلس
الشعب المصري، ثم كان الاهتمام الكبير والحسام (!!) والذكي (!!) للخارجية
المصرية والإعلام الحكومي في الدفاع عن موقف الحكومة الخائب بطريقة أكثر
خيابة تتلخص في أن غزة تهديد للأمن القومي المصري فوصل طبعًا للمواطن
الفلسطيني أن الحكومة المصرية تعتبره خصمًا وعدوًا ومهربًا للمخدرات (لاحظ
أن الإسرائيليين يدخلون مصر بالآلاف دون أن تعوقهم أي عوائق أمنية، بينما
نتهم الفلسطينيين بتهريب المخدرات) كما تحولت الخارجية بتصريحاتها إلي أسد
علي الفلسطينيين بينما يرونها هناك نعامة أمام الإسرائيليين فكان طبيعيًا
أن يتم شحن الوسط الفلسطيني واستعداء مهاويس في غزة وعناصر متطرفة في
محيطها ضد الحدود المصرية ومن بينها عناصر قد تعتبر إجراءات مصر موالاة
للأعداء ومشاركة في الاحتلال تجيز ما لا يجوز شرعًا ودينًا وأخلاقًا،
فضلاً عن اختراق جواسيس لإسرائيل في الساحة الفلسطينية يمكن أن يستثمروا
الأزمة إلي جانب الخلاف بين حماس وفتح يفتح مساحة للعب الخطر في أحشاء
العلاقة بين مصر وشعب غزة. إذن حكومة مصر توفر مناخ التوتر بمعالجات
استرضائية لأمريكا وتطمينية لإسرائيل، بينما تزرع حقول الكراهية بينها
وبين الشعب الفلسطيني والتي ندعو الله ألا يأتي أبدًا موعد حصادها!