ها هو ابنها يكبر يوما بعد يوم.. إنه فلذة كبدها.. وهو وحيدها الذي تعلقت عليه آمالها بعد الله -عز وجل-.. عملت خادمة في مدرسة للبنات من أجل توفير المال لابنها.. ربته تربية دلال.. وفرت له كل ما يريد..
متى أراك رجلا كبيرا أستغني به عن الناس؟!!
تحمله وتضمه إلى صدرها.. أنت حياتي..
كم حرمت نفسها لتطعمه، وكم آثرته على نفسها في الملبس.. وانتظرت طويلا لتسمع أخبار نجاحه في الثانوية العامة..
زفت البشرى لجاراتها.. أخذت تفاخر بنباهته وذكائه.. وقبل في الجامعة.. وعظمت فرحة الأم..
أنت الآن رجل كما كنت أتمنى.. الحمد لله..
لم يبق إلا القليل وأحصل على الشهادة يا أماه..
وبعدها نفرح بزواجك من ابنة خالك التي انتظرت طويلا.. أصابه الذهول.. حدّق بأمه.. ماذا؟!
ألم تخبرني أنك تتمنى الزواج بها من قبل يا بني..!!؟
ولكنها لا تناسبني.. إنها لا تفكر كما أفكر.. إنها غير متعلمة..
ماذا تعني يا بني؟!!
لن أتزوج من ابنة خالي يا أمي..
(.. وكم كانت الصدمة عنيفة.. ليس لأمه فحسب.. بل لابنة خاله التي انتظرت تخرجه بفارغ الصبر.. كم ردت من الخاطبين لأجله!!.. وها هو يقلب لها ظهر المجن.. بكت طويلا عندما علمت بالأمر..
وتحملت الأم تلك الصدمة.. وتخرج ابنها.. وحصل على عمل في المدينة.. وطلب من والدته الانتقال معه إلى هناك.. وبيع البيت.. واشترى بثمنه بيتا سجله باسمه.. وتعلق بفتاة مغرورة كانت تسكن الجوار..
صارح أمه برغبته في خطبتها.. فرحت الأم التي انتظرت كثيرا لترى ولدها وقد أصبح رب أسرة..
وتزوج من الفتاة.. وسكنت معه وأمه في بيته.. ومرت الأيام.. وبدأت الزوجة بالشكوى من الأم.. جعلت تظهر الضجر من تصرفاتها.. صرّحت لزوجها بما يدور في خلدها..
لقد أصبحت حياتي جحيما بسبب أمك..
ماذا تعنين؟ إما أنا وإما هي في البيت..
إنها أمي.. وأنا ألست زوجك.. من ينفعك أكثر..
أنا لا أحب أن تغضبي.. ولكن اصبري حتى أجد حلا..
(.. تتأفف الزوجة وتتضجر..
الأم لا تتوقف عن خدمة ابنها وزوجته.. ويرزق ولدا جميلا.. وتسهر جدته على راحته بينما لا تهتم أمه به كثيرا..
جعلت الزوجة تخطط للتخلص من أم زوجها.. أخبرت زوجها بأنها تشتمها وتضربها وتؤذيها.. بدأ الزوج يغضب من أمه.. فكر كثيرا بطريقة للتخلص منها..
شعرت أمه بذلك.. تسللت ليلا من البيت وغادرته لبيت أحد أقاربها..
مرت الأيام وولدها لا يسأل عنها.. شعرت بشوق له ولولده لزوجته.. دفعها الشوق للعودة لرؤية أحبائها.. ظنت أن هذه المدة كافية لإزالة الشحناء من صدر زوجة ابنها عليها.. طرقت الباب.. انتظرت قليلا.. ظهر وجه زوجة ابنها..
من.. أنت.. ما الذي جاء بك إلى هنا أيتها الحرباء..!! لقد كنا في سعادة وسرور..
مهلا يا ابنتي.. مهلا..
ماذا تريدين منا..؟
أريد رؤيتكم فقد اشتقت لكم..
لا نريد أن نراك..
ويأتي ولدها.. ويشاهد أمه أمام باب منزله.. يشعر بالضيق.. يرحب بها ببرود.. يدخلها بيته.. يواجه غضب زوجته بحرج..
ما الذي جاء بك يا أمي؟
تنظر إليه وتتذكر كيف ربته.. تتذكر تلك الأيام العصيبة التي قضتها بجانبه ترعاه.. ظنت أنه سيكون منقذها مما هي فيه من التعاسة والشقاء.. أنفقت كل ما لديها من أجله.. باعت ذهبها وحليها ليتزوج بمن يريد.. رضيت بأن يسجل البيت باسمه ولم يشارك في شرائه بقرش واحد..
يا للخسارة.. ماذا تقولين يا أماه..
لا شيء يا ولدي.. ولكن.. ولكن ماذا؟
إلى أين أذهب؟
(.. ويفكر ابنها.. ويبحث الأمر مع زوجته..
أمي.. هيا بنا لنذهب..
إلى أين يا ولدي.. سنزور بعض الأصحاب..
إذا كان هذا يرضيك فلا مانع لدي..
ويأخذها إلى دار للعجزة.. وتدخل معه دون أن تدري.. ويتركها هناك ويعود لزوجته التي سرها ذلك كثيرا.. يهرع ابنه إليه..
أبي.. أبي.. أين جدتي.. أريد رؤية جدتي.. تصرخ به أمه.. لا تذكر جدتك بعد اليوم.. أفهمت...
أريد جدتي.. إني أحبها..
.. وتطلب الزوجة من زوجها زيارة صديقة لها ليحتفلا بمناسبة سعيدة لها.. ويستقلا سيارته.. وينطلق بها إلى حيث تريد.. ويلوح أمام ناظريه مشهد أمه البائسة.. يتذكر تلك الأيام التي عانت فيها من أجله.. يتذكر كيف ألقى بها في دار العجزة كخرقة بالية.. تجحظ عيناه.. يشعر بصداع.. تصرخ زوجته..
انتبه.. انتبه.. وتصطدم السيارة بشاحنة كانت تمر بجانبها..
وتهرع سيارة الإسعاف.. ويحمل الجرحى.. وتلفظ الزوجة أنفاسها قبل أن تصل المستشفى.. ويصاب الزوج بالشلل.. وينجو طفلهما..
يصحو الزوج من إغمائه.. يصرخ بأعلى صوته..
أمي.. أين أمي.. اخرجوا أمي من دار العجزة..
.. تتسلل دموع والدته.. تضع كفها على رأسه..
عافاك الله يا بني..!!
ولكم تحياتي