كانت «جمعة الحساب» حدا فاصلا.. خرجت القوى المدنية يومها إلى ميدان التحرير تحاسب الرئيس على وعود المائة يوم، وتعترض على سياسات الحكم خاصة فيما يتعلق بوضع الدستور، وزاد من الاحتقان مهرجان البراءة لكل المتهمين فى موقعة الجمل.. فجأة نزل الإخوان المسلمون الميدان، فحدثت الاحتكاكات المتوقعة، التى كان من نتائجها تحطيم المنصة، وحدوث إصابات عديدة، وإحراق أتوبيسات كانت قد نقلت فى الصباح أعضاء الجماعة من الأقاليم، وبدأ بعدها تبادل التهم بين الجانبين.. الإخوان أنكروا فى البداية وجودهم فى الميدان، وعندما اعترفوا بدأت تصريحاتهم فى التضارب، مرة يقولون إن الميدان ليس حكرا على أحد، ومرة يـّدعون أنهم لم ينزلوا للاعتداء على معارضى الرئيس، لكن للاحتجاج على أحكام «الجمل» وعلى عودة النائب العام لموقعه، وفى مرات أخرى وجه أقطابهم الاتهام بالاعتداء على الطرف الثالث الذى لم نعد نسمع به منذ تولى الدكتور مرسى الحكم.
قد يكون فى بعض ذلك، أو حتى فى كل ذلك، شىء من الصحة، لكن المؤكد أن السبب فى كل ما جرى هو نزول الجماعة إلى ساحة تعلم مسبقا أنها تعج بالخصوم.. تقدير خاطئ للموقف كان من الممكن أن يسوّى لو تحلت الجماعة بالشجاعة واعتذرت.. هذا ما انتهينا إليه عندما اجتمعنا نحن، شركاء الرئيس فى «الجبهة الوطنية لحماية الثورة»، لنحاول رأب الصدع بين القوى الوطنية.. قدّرنا أيضا أن الاحتقان بلغ بالقوى السياسية حدّا ربما يستدعى أن يقوم الرئيس بنفسه بمبادرة للم الشمل طرحنا لها عددا من البدائل.
أظن أنه آن الأوان لكشف بعض ما كان خافيا فى الكواليس.. الجبهة فى واقع الأمر لم تكن جبهة سوى فى أيام الرئاسة الأولى.. وقتها اجتمع بها الرئيس، وغمرها الحماس، فأخذت تقدم مقترحات تلو الأخرى للرئاسة.. بعد ذلك انقطعت كل مسالك الاتصالات حتى إننا بعد نحو شهر فقط من تولى الدكتور مرسى منصبه عقدنا مؤتمرا صحفيا فى 28 يوليو نعلن فيه احتجاجنا.. تحدثنا عن غياب الشفافية والوضوح مع الشعب، وعن التلكؤ فى تنفيذ وعود الرئيس التى تعهد بها، وطالبنا بتنفيذ تلك التعهدات، وفى مقدمتها تحقيق التوازن فى تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور.
لم يتبدل شىء بعد هذا المؤتمر، بل إن المشكلات تفاقمت بتشكيل حكومة هشام قنديل، التى افتقرت إلى المعايير التى تم الاتفاق عليها مع الرئيس.. كتبت هنا فى «المصرى اليوم» مقالا فى 5 أغسطس أقول فيه: «إن الناس يحملوننا مسؤولية الاختيار، ومسؤولية خداع الرأى العام، الذى أوحينا إليه باتفاقنا مع الدكتور مرسى بأن الأمور ستسير على نحو أفضل.. اليوم، بعد تشكيل الحكومة على النحو الذى شكلت به، وبعد النكوص عن التعهدات التى أعلنت فى اتفاق الشراكة فى فيرمونت فإننا لا نستطيع أن نتحمل مسؤولية هذه الشراكة، بل إنها فى واقع الأمر لم تعد قائمة».. كان عنوان المقال «أنعى إليكم الشراكة مع الرئاسة»، وفى ختامه قلت إنه بالرغم من خيبة الأمل فسوف تظل الجبهة التى تمثل ضمير الوطن تتابع وتراقب وتساهم وتحاسب، لكننا بعد إجهاض العهود لم نعد شركاء.
لم تعلن الجبهة رسميا فض الشراكة، وعاد الأمل يراودها - بعد أن أنهى الرئيس الحكم العسكرى يوم 12 أغسطس - فى أن يتحرر من القيود ويصحح الأوضاع، إلّا أن شيئا من هذا لم يحدث.. حتى بعد أن عين الرئيس فريق مساعديه ومستشاريه اتضح أنهم بلا مسؤوليات محددة.. جاء بعدها حساب المائة يوم، فلم يستطع الحكم تقديم شهادة مقنعة.. تحرش الحكم بالصحافة مرات، وتعدى على حرياتها.. أعلن عن حوار سمى زورا «الحوار المجتمعى» حول سياسات اقتصادية لا تعبر عن إجماع وطنى، ولا تؤدى إلى عدالة اجتماعية.. تغولت الجماعة فى زهوها بالحكم، فداست على ما فى طريقها (فى بورسعيد سطوا على مشروع لمئات من شباب المحافظة «بورسعيد 2020»، ونسبوه إلى برنامج النهضة).. وعندما حانت الفرصة لتصحيح تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور بتصعيد عدد من الأعضاء الاحتياطيين جاء الاختيار ملتبسا لا يشى بنية حقيقية للحسم.. بعدها طرحت الجمعية مسودة الدستور على الرأى العام على نحو مرتبك زاد من الاحتقان والغضب.. تخبطت الرئاسة بعد ذلك فى التعامل مع النائب العام، ثم كان يوم جمعة الحساب، فاستكبر المتسببون فى أحداثها ولم يقدموا الاعتذار الواجب.. وأخيرا كانت الطامة: خطاب الرئيس لبيريز الذى وصفه فيه بـ«الصديق العظيم».
فى كل ذلك لم يكن للجبهة قول.. كانت الاتصالات مع الرئاسة تكاد تكون منقطعة، إلّا إذا حضر ممثل لها اجتماعا أو آخر دون أن يكون لحضوره صدى.. وانخفض مستوى تمثيل الإخوان فى الاجتماعات، وامتنع أقطابهم حتى عن الرد على المكالمات الهاتفية.. ثم تعثرت الاجتماعات ذاتها، ونادرا ما كان يحضرها نصاب الأعضاء القانونى.. لم يحدث ذلك سوى يوم الثلاثاء الماضى.. كنا نحو عشرين عضوا حول مائدة عشاء.. ورغم أننا أجهدنا أنفسنا فى النقاش فإن معظمنا كانوا يعلمون أنه العشاء الأخير.. كنا قد توصلنا إلى أن الجبهة أصبحت مجرد كيان كرتونى، أو فى أفضل الأحوال، مصدّا يتلقى عن الحكم الضربات، دون أن يستطيع ردها.
ستكشف الأيام القادمة عن الموقف الذى يمكن أن تتخذه هذه المجموعة من أبناء الوطن الشرفاء التى أبت على نفسها فى اتفاق فيرمونت إلّا أن تتخذ فى العلن الموقف الذى يرتضيه ضميرها فى اللحظة الفارقة.. لم نذهب فى الخفاء لنلتقى بـ«شفيق» كما فعل بعضهم، ولا بعثنا برسائل إلى مرسى وراء أبواب مغلقة.. لا.. رغم أن عددا منا كان فى معسكر اليسار، فإننا أيدناه أمام أعين محطات التليفزيون العالمية جميعا، بعد أن تواعدنا معه على عهود وجدنا أنها فى صالح الوطن.. لكنه لم يستطع الوفاء بالوعد، فحاولنا أن نحثه وصحبه على ذلك ولم ننجح.. نعم، نعترف بالفشل ولا نجد فى ذلك ما يعيب.. العيب أن نستمر فى خداع أنفسنا، ومن ثم فى خداع الناس.
هذه رؤيتى للمشهد، ومع ذلك فأنا لست مفوضا بالحديث نيابة عن أحد.. لا أملك سوى رأيى، وها أنا أعلنه.. أعلن لمن وثق بى يوم 22 يونيو اعتذارى عن مساندة الرئيس، وأتمنى له رغم ذلك النجاح فى مهمته، لأن فى نجاحه منجاة للوطن.. وأعلن انسحابى من الجبهة، هذا إذا كانت لا تزال قائمة عند نشر هذا المقال