ورغم
أن المشهدين قد يتشابهان شكلًا إلا أن ثمة فارق جوهري في الحقيقة بين عمر
سليمان المدفوع بدافع ديكتاتوري وبين الشاب المثقف الذي ينطلق غالبًا –
بمعرفة أو بدون معرفة منه – من التصوّر الأفلاطوني للجمهورية، والذي يقصر
حق التصويت في الانتخابات على محبي الحكمة والمعرفة، أو من يمكن تسميتهم
بلغة اليوم “المثقفين”.
غالبًا
قد عانى أفلاطون الأمرين من إرادة شعبية رأى فيها أصوات العامة تتبعثر على
موائد العصبيات القبلية أو العواطف الدينية أو الاحتياجات الاقتصادية وما
إلى ذلك، ولأن تقرير مصير الشعوب أمر “مفيهوش هزار” ومن الأهمية بمكانٍ قد
يغيب عن تقدير الناخب العادي وهو يدلي بصوته لمن أعطاه أكياس السكر أو وعده
بالجنة، رأى أفلاطون أن يقتصر حق التصويت على أولئك الذين يمتلكون وعيًا
كافيًا، المتجردين من المصالح الشخصية، الساعين نحو القيم العليا والمبادئ
المُثلى، على أن يتمتع الشعب كله بسائر حقوق المواطنة.
ورغم
أن التصور الأفلاطوني قد يبدو الأمثل خصوصًا لمن مرّ بتجربة مريرة مثل
تجربتنا مع الانتخابات، إلا أنه تصور مثالي أكثر من اللازم، فإذا تجاوزنا
وافترضنا جدلًا وجود معيار ملموس وواضح لتحديد الشخص “محب الحكمة والمعرفة”
– وهذا غير ممكن لأنه أمر نسبي، فلا أحد يملك هذا المعيار ولا أحد يملك
الحق في وضعه – فإن هذا التصور يفترض في “محبي الحكمة والمعرفة ” مثالية
تامة، منزوعة الأطماع والغرائز البشرية،
فمن يضمن أن هذه القلة المثقفة من المجتمع إذا تركز حق التصويت
في يدها لن تعمل من خلاله على تحقيق مصالحها الشخصية؟
( ضع لميس جابر في ذهنك كأحد محبي الحكمة والمعرفة وستفهم ما أعني فورًا)
ثم ان ميزة الديمقراطية أن الشعب يتحمّل نتيجة اختياره صوابًا كان أو خطأً،
ويبني على تجاربه حتى يصل إلى ما قد يكون أقرب الاختيارات للصواب، أما إذا
أخطأت النخبة المثقفة في اختيارها فما ذنب الشعب حتى يتحمل نتيجة خطئها؟
والشعب
الذي لا يختار حكامه ولا يملك حق تغييرهم، بل يفرضون عليه دون اختيار منه
لن يطالب بحقه مهما ظُلم، وسيظل للأبد يرى مسائل محاسبة الحكام وتغييرهم من
الأمور المحرّمة عليه.
لن
أكفر إذن بالإرادة الشعبية طريقًا أسلم للديمقراطية، ولا بالديمقراطية
طريقًا أمثل للحكم حتى وإن كان أطول من غيره، وربما على أسوأ تقدير أكفر
بتوقيت الثورة.
ومن
هنا أنا أرفض بشدة نفي الشرعية عن البرلمان، وأرفض مقولة أن الشعب المصري
غير مؤهل للديمقراطية -أيًا كانت دوافعها- فلا يوجد في الدنيا ما ينزع
أهلية الديمقراطية عن شعب، فالديمقراطية حقٌ للشعوب.
ربما يكون الشعب المصري غير ديمقراطي، هذه حقيقة
لا شك فيها، إلا أن أفضل طريقة لجعل الشعب المصري ديمقراطيًا هي أن يُحكم
بالديمقراطية، فيعرف مزاياها ويعرف قيمة اختياره، لا أن يمارس عليه مزيد من
الديكتاتورية والوصاية والاستبداد، وبالتجارب سيتعلم الشعب المصري من
أخطائه، وعلى النخبة المثقفة أن تدفع بالشعب المصري في اتجاه أكثر وعيًا
لتقصّر الطريق.
وعلى
الناحية الأخرى، فإن أولئك الذين يتغنون آناء الليل وأطراف النهار
بالديمقراطية وشرعية البرلمان ينسون -أو يتناسون- أن أهم دعائم الديمقراطية
أنها تعطي لك الحق في المعارضة، فما إن تنتقد سيادتك البرلمان حتى تجدهم
يصرخون في وجهك “مش عاجبك اختيار الشعب؟ مش هي دي الديمقراطية اللي كنتوا
عاوزينها؟ جايين دلوقتي تعترضوا على اختيار الشعب؟