بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمدُ لله، والصَّلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فلو جلس أحدُنا يتأمل في صلاةِ المسلمين لوجد أنَّ كلَّهم يأتي بمعظم الأركان المطلوبة في الصلاة؛ كتكبيرةِ الإحرام والقيام والركوع والسجود، ولكنْ في الوقتِ ذاته كثيرٌ من المصلين يُخِلُّ بركنٍ عظيم لا تصح الصلاة إلا بالإتيان به؛ وهو ركن الاطمئنان، بالرَّغم من أنَّ هذا الركنَ يصاحبُ معظمَ الأركان الأخرى؛ بمعنى أنه لا بد من الاطمئنان في القيامِ والركوع والسجود والجلوس.
والمراد مِنَ الاطمئنانِ في الصلاة: السُّكون بقَدْرِ الذِّكر الواجب، فلا يكون المصلي مطمئنًا إلا إذا اطمئنَّ في الرُّكوع بِقَدْرِ ما يقول: "سبحان ربِّي العظيم" مرَّة واحدة، وفي الاعتدال منه بقَدْرِ ما يقول: "ربَّنا ولك الحمدُ"، وفي السُّجود بقَدْرِ ما يقول: "سبحان رَبِّي الأعلى"، وفي الجلوس بقَدْرِ ما يقول: "رَبِّ اغفِر لي"، وهكذا.
قال ابنُ حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج": "وضابطُها أن تسكُنَ وتستقِرَّ أعضاؤُه".
وقد جاء في "صحيحِ البخاري" من حديثِ أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه -: (فإذا رفع رأسَه استوى حتى يعودَ كلُّ فقارٍ مكانَه)، وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: (فكان إذا رفع رأسَه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا)، فهذه الأحاديث وما شابهها تدل على أنَّ الاطمئنان هو الاستقرار في مواضع الصلاة، وعدم العجلة بالانتقالِ إلى الركن الذي يليه إلا بالبقاء قليلًا حتى يرجع كلُّ مفصلٍ وعظمٍ إلى مكانه.
والأصل في ركنِ الاطمئنان ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلى، ثم جاء فسلَّم على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فردَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - السلام قال: ((ارجع فصل، فإنَّك لم تصل))، فرجع الرجلُ فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسلم عليه، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وعليك السلام))، ثم قال: ((ارجع فصل، فإنَّك لم تصل))، حتى فعل ذلك ثلاثَ مراتٍ، فقال الرجلُ: والذي بعثك بالحقِّ ما أحسن غير هذا فعلِّمني، قال: ((إذا قمتَ إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتِك كلِّها)).
فهذا الحديثُ الشريف المعروف بحديث المُسيء صلاته؛ نسبةً لهذا الرجلِ وهو خلاد بن رافع - رضي الله عنه - هو العمدة في بابِ الاطمئنان في الصلاة، وقد تبيَّن لنا أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما أمرَ هذا الرجلَ بإعادةِ صلاته بسبب إخلاله بالاطمئنان - أنَّ الاطمئنانَ ركنٌ لا تصحُّ الصلاة إلا به.
بعض الآثار والأقوال الدالة على أهمية هذا الركن:
• رأى حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - رجلًا لا يتم ركوعَه ولا سجوده، فقال له: "ما صليتَ، ولو متَّ لمت على غير فطرةِ الله التي فطر عليها محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ صحيح البخاري، وفي روايةِ النَّسائي: أنَّ حذيفةَ - رضي الله عنه - قال له: "منذ كم تصلي هذه الصَّلاة؟" قال: منذ أربعين عامًا، قال: "ما صليتَ منذ أربعين سنة"؛ سنن النسائي الكبرى.
• كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - إذا رفع رأسَه من الركوعِ قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي؛ صحيح البخاري.
• قال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لا يقيم صلبَه في الركوعِ والسجود فصلاتُه فاسدة، لحديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تجزئ صلاةٌ لا يقيمُ الرجلُ فيها صلبَه في الركوع والسجود))؛ فتح الباري لابن رجب.
• يقول الشيخ عطية سالم - رحمه الله -: "نخاطبُ بعض الناس الذين تراهم يركعون ولا يطمئنون في ركوعهم، فترى الواحدَ منهم كأنه ينفض شيئًا عن ظهرِه، وكذلك الجلسة بين السجدتين، ويقولون: مذهبنا أنه ركنٌ خفيف، فنقول: ليس في الأركانِ خفيف وثقيل، فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يركع حتى يطمئنَّ راكعًا، ويرفع حتى يستقرَّ ويعود كل فقارٍ في مقره، ويعود كلُّ عظمٍ في مكانه، والحركة الخفيفة ليست استقرارًا "؛ (من دروس شرح الأربعين النووية).
• يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "فالذي يفعل هذا؛ أي: لا يطمئنُّ بعد الرُّكوع - صلاتُه باطلة؛ لأنَّه ترك رُكنًا مِن أركان الصَّلاةِ"، إلى أن قال: "والآفةُ التي جاءت المسلمين في هذا الرُّكن: القيام بعد الرُّكوعِ، وفي الرُّكنِ الذي بين السجدتين كما يقول شيخ الإِسلام: إنَّ هذا من بعضِ أمراء بني أميَّة، فإنهم كانوا لا يطيلون هذين الرُّكنين، والنَّاسُ على دين ملوكهم، فتلقَّى النَّاسُ عنهم التَّخفيفَ في هذين الرُّكنين، فظنَّ كثيرٌ من النَّاسِ أنَّ ذلك هو السُّنَّة، فماتت السُّنَّةُ حتى صار إظهارُها من المنكر، أو يكاد يكون منكرًا، حتى إنَّ الإِنسان إذا أطال فيهما ظَنَّ الظَّانُّ أنه قد نسيَ أو وَهِمَ"؛ الشرح الممتع على زاد المستقنع.
مسائل فقهية متعلقة بركن الاطمئنان:
مسألة: ما حكم قضاء ما مضى من الصلواتِ بسبب الجهل بركن الطمأنينة؟
الجواب: يقول الإمامُ ابن تيمية: "فهذا المسيء الجاهل إذا علم بوجوبِ الطمأنينة في أثناءِ الوقت فوجبتْ عليه الطمأنينةُ حينئذٍ، ولم تجب عليه قبل ذلك، فلهذا أمره بالطمأنينة في صلاة ذلك الوقت دون ما قبلها"؛ مجموع الفتاوى (22/44).
ويقول الشيخ ابن عثيمين: "الجهل هو: عدم العلم، ولكن أحيانًا يعذر الإنسان بالجهلِ فيما سبق دون ما حضر؛ مثال ذلك: ما ورد في الصحيحين من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً جاء فصلى صلاة لا اطمئنان فيها، ثم جاء فسلم على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال له: ((ارجع فصل، فإنك لم تصل))، كرر ذلك ثلاثًا، فقال له: والذي بعثك بالحقِّ لا أحسن غير هذا فعلمني، فعلمه، ولكنه لم يأمره بقضاءِ ما مضى؛ لأنَّه كان جاهلاً، إنما أمره أن يعيدَ الصلاة الحاضرة"؛ لقاء الباب المفتوح لابن عثيمين.
مسألة: ما حكم الاقتداءِ بالإمامِ الذي لا يطمئن في صلاتِه؟ وما العمل إذا اكتشفنا ذلك أثناء الصلاة؟
الجواب: يقول ابن عثيمين: "إذا كان الإمامُ لا يطمئنُّ في صلاتِه الطمأنينة الواجبة، فإنَّ صلاتَه باطلة، لأنَّ الطمأنينة ركنٌ من أركانِ الصلاة، وقد ثبت في الصحيحين وغيرِهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً جاء فصلَّى صلاةً لا يطمئن فيها، ثم جاء إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسلَّم عليه فرد عليه السَّلام وقال: ((ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ... الحديث))، فبيَّن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ هذا الرجلَ لا صلاةَ له؛ لأنه لم يطمئن، وكرره ثلاثًا ليستقرَّ في ذهنه أنَّ صلاته غير مجزئة، ولأجلِ أن يكونَ مستعدًّا تمام الاستعداد لتلقي ما يعلمه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإذا كان كذلك فإنَّ هذا الإمام الذي لا يطمئن في صلاتِه لا تصحُّ صلاته، ولا يصح الاقتداء به، وعليه أن يتقي الله - عزَّ وجلَّ - في نفسِه وفي من خلفه من المسلمين، حتى لا يوقعهم في صلاةٍ لا تنفعهم، وإذا دخلتَ مع الإمام ثم رأيته لا يطمئنُّ فإنَّ الواجبَ عليك أن تنفردَ عنه، وتتم الصلاة لنفسك بطمأنينة حتى تكون صلاتك صحيحة، وهذه المسألة أعني: عدم الطمأنينة؛ ابتلي بها كثير من الناس في هذا الزمن، ولا سيما في الركنين اللذين بعد الركوعِ وبين السجدتين، فإنَّ كثيرًا من النَّاسِ من حين ما يرفع من الركوع يسجدُ، ومن حين ما يقومُ من السجدةِ الأولى يسجد الثانية بدون طمأنينة، وهذا خلاف هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخلاف ما أمر به الرجلَ الذي قال له: ((ثم ارفع حتى تطمئن قائمًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا))، وكان أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصلِّي فيطمئن في هذين الركنين، حتى يقول القائل: قد نسي من طول ما يطمئن فيهما، عكس ما عليه النَّاسُ اليوم، نسأل الله لنا ولهم الهداية؛ فتاوى نور على الدرب لابن عثيمين.
هذا ما تيسَّر جمعُه فيما يتعلق بهذا الركن المهم من أركان الصلاة، وأسأل الله أن يهدينا والمسلمين جميعًا إلى سواءِ السبيل، وصلَّى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الموضوع منقول من دراسة للدكتور / باسم عوض
أسأل الله أن يجعلنا ممن يصلون فيحسنون فيحبهم الله
وأن يقبل منا صلاتنا
وأن يعيننا على تأديتها على الوجه الى يرضيه