ومن هنا كانت البداية
*************
وبعد أن حبب الله إلي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم الخلاء والتأمل في عظمة
الخالق والبعد عن ما يحدث في مكة من لغو الناس وحديثهم الباطل كان يذهب إلي
غار حراء في جبل النور علي مبعدة نحو ميلين من مكة وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع
وعرضه ذراع وثلاثة أرباع من ذراع الحديد فيقم فيه شهرا رمضان ويقضي وقته في
العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراء قدرة مبدعة وهو غير مطمئن
لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية ولكن ليس بين يده طريق
واضح ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه وكان اختياره صلي الله عليه وسلم لهذه العزلة
طرفاً من تدبير الله له ... ولما اكتمل أربعون سنة من عمره وهي رأس الكمال وقيل لها
تبعث الرسل بدأت طلائع النبوة تلوح وتلمع فمن ذلك أن حجراً بمكة كان يسلم عليه
ومنها أنه كان يري الرؤيا الصادقة فكان لايري إلا جاءت مثل فلق الصبح ...
ولنستمع إلي عائشة الصديقة رضي الله عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت
نقطة بداية النبوة قالت عائشة رضي الله عنها: أول ما بدئ به رسول الله صلي الله عليه
وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يري رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح ثم
حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه أي يتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل
أن ينزع إلي أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلي خديجة فيتزود لمثلها حتي جاءه الحق وهو
في غار حراء فجاء الملك فقال : اقرأ قال "ما أنا بقاررئ " قال : "فأخذني فغطني حتي
بلغ مني الجهد , ثم أرسلني فقال : اقرأ , قلت ما أنا بقارئ , قال فأخذني فغطني
الثانية حتي بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ , فقلت ما أنا بقارئ فأخذني
فغطني الثالة ثم أرسلني فقال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق *
اقرأ وربك الأكرم * ) فرجع بها رسول الله صلي الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل علي
خديجة بنت خويلد فقال "زَملُوني زَملُوني " فزملوه حتي ذهب عنه الروع فقال لخديجة
"مالي؟ " فأخبرها الخبر " لقد خشيت علي نفسي " فقالت خديجة : كلا والله ما
يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين علي
نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتي أتت ورقة بن نوفل ابن عمها وكان شيخ وقور يكتب
الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد
عمي فقالت له خديجة : يابن العم اسمع من أبن خالك فقال له ورقة : يابن أخي ماذا
تري ؟ فأخبره رسول الله صلي الله عليه وسلم خبر ما رأي فقال له ورقة: هذا الناموس
الذي نزله الله علي موسي يا ليتني فيها جَذَعا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال
رسول الله صلي الله عليه وسلم : " أو مخرجي هم ؟ " قال : نعم لم يأت رجل قط بمثل
ما جئت به إلا عُودِيَ وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفي
وَفَتَر الوحي ....