مع تساقط الطُغاة فى بُلدان الوطن العربى، الواحد بعد الآخر، يظل أكثرهم دموية وتخلفاً، العقيد الليبى مُعمّر القذافى، حالة فريدة، لا يُماثلها فى الجنون، إلا الإمبراطور الرومانى نيرون، الذى أحرق روما، وهو يعزف على قيثارته، مُستمتعاً بمُشاهدة ألسنة النيران من شُرفة قصره على أحد تلال روما السبعة.
ففى مُقابلة مع الإعلامية الشهيرة «كريستيان أمانبور» للقناة التليفزيونية (ABC)، منذ أيام (٢٧/٢/٢٠١١)، وبعد أسبوعين من اشتعال الثورة فى كل أرجاء ليبيا، أكد القذافى أنه لا يزال المحبوب الأول والفريد للشعب الليبى، ولكل أفريقيا، وأن ما يحدث من «شغب فى ليبيا، هو مُجرد سلوك صِبيانى، من تدبير مُشترك بين أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة فى كهوف طورا بورا على الحدود الأفغانية الباكستانية من ناحية، والرئيس الأمريكى باراك أوباما، فى البيت الأبيض بالعاصمة واشنطن من ناحية أخرى».
وسواء يعتقد القذافى ذلك فعلا فى قرارة نفسه، أو يُحاول كسب تعاطف شعبه والرأى العام الدولى، فإن الرجل ظهر لكل من رأى أو سمع هذا اللقاء التليفزيونى، شخصاً مأساوياً من فرط انفصاله عن الواقع المحلى والإقليمى والدولى، وكأنه مُخدّر تماماً، أو كمن يعيش على كوكب آخر، غير أرضنا الكروية!
ومأساة القذافى، مثل كل من سبقوه من طُغاة، أنه أحاط نفسه بدائرة من المُنافقين، الذين ضلّلوه، على امتداد اثنى وأربعين عاماً على قمة السُلطة فى ليبيا.
أصدر القذافى من «كتابه الأخضر» هذا، مئات الألوف من النُسخ، بالعربية، وترجمات له بكل اللغات الأجنبية. ووجد القذافى من المُنافقين العرب والأجانب، ممن أجزل لهم العطاء، فنافقوه، وعقدوا مؤتمرات وندوات لمُناقشة مضمون الكتاب الأخضر والترويج له. وصدّق القذافى أنه فريد عصره، وأن ليبيا بلد صغير (مليون ورُبع كيلو متر مُربع وخمسة ملايين نسمة) لا يتناسب مع قيادته العملاقة. لذلك حاول الاتحاد مع مصر، ثم مع تونس، ثم مع السودان، ثم مع الجزائر، ثم مع المغرب. ثم حاول أن يوحّد كل أفريقيا، وأن يكون رئيساً لها، دون أن يأخذه أحد مأخذ الجَد.
وعند هذه المرحلة الأفريقية فى شطحات القذافى، أعلن على الملأ فى مؤتمر صحفى كبير أنه «سيرحل هو وليبيا، من العروبة والعالم العربى، وسيتوجه شطر أفريقيا جنوب الصحراء»!
وصدّقه بعض المُثقفين العرب من دُعاة القومية العربية والوحدة العربية. فسارعت وفود منهم، من مشارق الوطن العربى ومغاربه، تناشد الأخ العقيد مُعمرّ القذافى، أن يُراجع قراره، وأن يعود إلى العروبة والوطن العربى!! وتحدّاهم القذافى، وقال فى تصريح له، إنه مُستعد لمُناظرة علنية مع أى مُثقف أو سياسى عربى لإقناعه بصواب ما فعل. وأخذت «قناة الجزيرة» الأمر محمل الجَد. وظلّت تبحث لعدة شهور عن مُثقف أو مُفكر عربى لمُساجلة الأخ العقيد. ولم تكن الصعوبة فى نُدرة من يستطيع مُناظرة الرجل، ولكن التوجس من أن يُصيبهم سوءاً على يديه أو على يد أعوانه. ففى تلك الأثناء كان الزعيم الشيعى اللبنانى «الإمام موسى الصدر»، قد ذهب إلى ليبيا تلبية لدعوة من القذافى، ثم اختفى من الوجود. كذلك حدث نفس الشىء لأحد وزراء الخارجية الليبيين السابقين المُعارضين، وهو السيد منصور الكخيا.
وأخيراً أقنعنى الدكتور فيصل القاسم، صاحب برنامج «الاتجاه المُعاكس» على قناة الجزيرة الفضائية بُمناظرة القذافى. ولكنى اشترطت أن تكون المُناظرة على «أرض مُحايدة»، أو بالأقمار الصناعية (فيديو كونفرانس) كل فى موطنه. وهو ما حدث بالفعل.
وفى هذه المُساجلة الفريدة بين مُثقف عربى ورئيس دولة، كرر القذافى ادعاءه «بأفريقية» ولا «عروبية» ليبيا، وكان ردى عليه من شقين. الأول، هو أنه لا تعارض بين «الأفريقية» التى هى «جُغرافياً»، و«العروبة» التى هى لُغة ولسان وثقافة. ثم إن مصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، تقع فى أفريقيا وتعتز بأفريقيتها، وبعضويتها فى مُنظمة الوحدة الأفريقية.
قال العقيد، ماذا يفعل لى العرب، وأنا أواجه الإمبريالية الغربية، والهيمنة الأمريكية؟ فسألته بدورى، وماذا فعلت أنت للعرب؟ هل حاربت.. أى فى مواجهاتهم مع أعدائهم وخصومهم غير العرب سواء كانت إسرائيل أو إيران أو إثيوبيا أو أمريكا؟ هل قمت ببناء جامعة أو مدرسة، أو مستشفى أو مصنع، أو طريق، فى أى بلد عربى خارج ليبيا؟
حينما لم يكن العقيد القذافى قادراً على الردّ، كان يظل ينظر إلى سقف الخيمة، التى أصرّ أن يبقى فيها أثناء المُناظرة. وأخيراً، سألت الرجل إن كان قد استفتى الشعب الليبى فى قرار الرحيل عن الوطن العربى والخروج من الجامعة العربية؟ وظلّ الرجل يسأل ماذا تقصد باستفتاء الشعب الليبى... أنا أعرف الشعب الليبى.. والشعب الليبى يعرفنى، ويُحبنى، ويتبعنى، حيثما أذهب به!! قلت له إذا كنت فعلاً تعتقد ذلك، فلماذا لا تستفتى الشعب الليبى فى وجود مُراقبين عرب ودوليين، حتى يتأكد الجميع من الإرادة المُستقلة لأغلبية أبناء الشعب الليبى؟ وظل العقيد يُردد أن الشعب الليبى وهو وليبيا، شىء واحد. والغريب أننى سمعته يُردد نفس «الوهم» على أنه حقيقة إلى اليوم. وهذا ما كان يعتقده نيرون فى روما قديماً... وهو نفس ما صدّقه نيكولا شاوسيسكو، جلاّد رومانيا حديثاً، حتى أعدمه شعبه فى ٢٥ ديسمبر ١٩٨٩ فهل سيكون مصير القذافى مثل شاوسيسكو؟
والله أعلم