هناك شروط صارمة لنشوء أي حضارة......حيث لا بد من توافر مجموعة من المعطيات المناسبة تحفز الإنسان للقيام بمحاولات للاستكشاف و الإبداع لتلبية احتياجاته و الوصول إلى مستوى حياة أفضل و هو جوهر القيام بالفعل الحضاري الذي يتجلى بالمظاهر الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الفكرية.
إذ تنشأ الحضارات نتيجة التفاعلات بين الإنسان و الطبيعة المحيطة به و الأوضاع المكونة لهذه الطبيعة.
و قد اعتبر الوطن العربي بموقعه الاستراتيجي, وتحكمه باقتصاد العالم مركز نشوء أعظم الحضارات, التي أمدت العالم بالكنوز .... و قد اخترت سورية لتكون المثال الأول الذي يظهر فضل الوطن العربي على البشرية:
شكلت سورية قلب المثلث الحضاري الذي يضم اليمن ووادي النيل و بلاد الرافدين, صاغت فيه نمطها الفكري الخاص عبر التنوع اللغوي لمكتشفات أوغاريت , و الاقتصادي الهام من خلال موقع ماري التجاري و الإنساني و الحضاري بفرض منطق التعايش و التواصل السلمي في دورا أوروبوس (الصالحية)....فعلى أرضها ظهرت أول أبجدية (أبجدية رأس شمرا) في أوغاريت بالقرب من اللاذقية "ساحلنا الرائع" .
و حققت وثائق (إبلا) ثورة في معارفنا التاريخية عن الشرق الأدنى في الألف الثالث قبل الميلاد و أكدت التفاعل الحضاري عن طريق التجارة ففيها اكتشف أول عقد تجاري في التاريخ .
و كذلك مملكة (ماري) بموقعها و معابدها و تماثيلها و العدد الهائل من الرقم الطينية التي تعكس موضوعاتها الاقتصادية و السياسية التبادل الحضاري بين بلاد الرافدين و بلاد الشام.
و من أهم المواقع الأثرية التي عبرت عن التفاعل الحضاري في العصور التاريخية القديمة:
أوغاريت....- و قد تكلمنا عنها سابقاً – و هي من أهم المدن التي أنشأها العموريون, تقع على بعد خمسة عشر كيلو متراً شمال مدينة اللاذقية, و قد اكتشف فيها مدينة عظيمة لدولة امتدت حدودها بين الساحل السوري وذرا الجبال الساحلية.
و كشفت عن القصور الملكية الثلاثة و معبد الإله بعل و الأحياء السكنية و كنوز لا تقدر بثمن أغنت متحفي اللوفر في باريس والوطني في دمشق و متحفي حلب و اللاذقية, و قد كتبت هذه الرقم بلغات مختلفة منها الهيروغليفية و الأكادية و السومرية و الحثية و القبرصية.و هذا التنوع اللغوي في مكتشفات أوغاريت يؤكد التفاعل و التواصل بين الحضارات المختلفة (وادي النيل, بلاد الشام, العراق, آسيا الصغرى, قبرص).
أما الموقع الأثري الثاني الذي ظهرت فيه التفاعلات الحضارية فهو:
دورا أوربوس ( الصالحية): و قد تبين أن موقع دورا أوربوس يمتد على مساحة 73 هكتاراً و قد شكلت قديماً نقطة حدودية بين الإمبراطورية الفارسية شرقاً و البيزنطية غرباً فاجتمعت فيها الديانات المختلفة حيث شيدت فيها الكنائس المسيحية إلى جانب المعابد الوثنية.
كما اكتشف حديثاً أن أول أثر لوجود إنسان على وجه الأرض ظهر في سورية في موقع(تل مريبط). و قد اكتشف أدوات إنسانية تعود للعصر الجيولوجي الرابع بموقع(ست مرخو) في محافظة اللاذقية الذي يعد أقدم موقع أثري في قارتي آسيا و أوروبا .
و بذلك نرى أن سورية لطالما كانت –عبر تاريخها- منارة للخير و العدل و التقدم و القيم و المثل العليا, و هذا ما دفع العالم القديم (Andree Parot) إلى القول: (إن لكل إنسان متحضر موطنين: موطنه الأم وسورية)و لا أعتقد أن هناك عبارة أبلغ لتصف واحداً من أعظم البلدان العربية.
دمتم .....