يرتفع أذان المغرب لتخلو شوارع القاهرة تماماً. تبدو العاصمة وكأنها أقفرت من البشر الذين تبتلعهم منازلهم إلى حين. تختفى السيارات التى كانت قبل قليل تذرع الطرق ذهاباً وإياباً. يسود الصمت والهدوء أحياء المحروسة وضواحيها بصورة يصعب وصفها. دقائق لا تطول كثيراً، إذ لا تكاد عقارب الساعة تتحرك فى اتجاه دورانها الطبيعى بعد أذان المغرب حتى يتسلل الناس من منازلهم واحداً تلو الآخر. بعضهم يتخذ من المساجد قبلته ليصلى التراويح وما تيسر من صلاة القيام، والبعض الآخر يختار التجول فى الشوارع لشراء مستلزمات المنزل، أو الجلوس على المقاهى بعد أن أرغمته درجة الحرارة المرتفعة على الاختباء فى المنزل طوال النهار، وحين يرتفع أذان الفجر إلى عنان السماء معلناً بدء صيام يوم جديد، تصبح عبارة «الصلاة خير من النوم» التى يرددها المؤذن خلال الأذان عصية على الفهم، ففى النهاية لا أحد ينام فى شوارع القاهرة فى ليالى رمضان حتى صلاة الفجر.
فى ميدان أبوالريش القريب من المستشفى الشهير الذى يحمل الاسم نفسه رص بائعو الفواكه أقفاصهم فى عناية بالغة على جانب الميدان. بنفس الطريقة التى اعتادوا أن يرصوها بها فى الأيام العادية، يزيدون عليها فروعاً من أسلاك الكهرباء تحمل لمبات مضيئة تنير الميدان كله وتحيل ليله الذى بلغ منتصفه للتو إلى «عز الظهر». بين الأقفاص يسرح عمال المقاهى حاملين على صوانيهم أكواب الشاى الأسود الثقيل ليعين بائعى الفاكهة على السهر حتى الفجر. يقف بائع صغير السن خلف مائدة خشبية تعلوها عبوات الزبادى إلى جوار إناء لبن كبير، لا ينادى البائع الصغير على بضاعته اعتماداً على ما يبدو على هيئته التى تدل على مهنته. يتزاحم عليه عدد من المارة ليشتروا منه، قبل أن ينفضوا مرة أخرى، ليعاود غيرهم الازدحام والانفضاض حتى «يجبر»، ويبيع كل بضاعته وينصرف راضياً.
أسفل كوبرى أبوالريش، لم تشأ مكتبات سور الأزبكية للكتب القديمة أن تحرم نفسها من السهر مع الساهرين رغم أن الساعة تجاوزت الواحدة صباحاً، ورغم أن تلك المكتبات لا يطرقها طارق فى العادة بعد التاسعة مساء، يستغل أصحاب المكتبات ذلك الوقت فى تنسيق الكتب ورصها على الأرفف، وتنظيف المحيط أمام مكتباتهم وحولها استعداداً لاستقبال الزبائن فى الصباح، وأثناء النهار.
تزدحم مقاهى المنطقة بالرواد بصورة كبيرة، ينتشرون داخل وخارج المقهى وهم يلعبون الطاولة أو الدومينو، ويسلون أنفسهم بمشاهدة مسلسلات رمضان التى تزخر بها الفضائيات العربية، يطوف بينهم عمال المقاهى فيغيرون حجر الشيشة، ويضعون طلبات على الموائد، ويحاسبون زبوناً طلب الحساب، فتصبح المقهى رغم جلوس الرواد على مقاعدهم أشبه بخلية نحل لا تتوقف فيها الحركة لحظة واحدة.
من ميدان أبوالريش، إلى شارع المدبح حيث يسهر الجزارون وباعة اللحوم فى جماعات يغسلون أوانيهم التى يعرضون فيها بضائعهم من حلويات اللحوم و«الكوارع» و«الفشة» فى الصباح، يستغرقهم الحديث فى صفقات البيع والشراء فيبدون وكأنهم يحاولون قتل وقتهم حتى أذان الفجر. نكهة مختلفة تظهر فى شارع السد الموصل لميدان السيدة زينب. يقف بائع فول على جانب الطريق مرتدياً مريلته القصيرة، يحرك يده بسرعة رهيبة ليتمكن فى وقت قصير من تقريب كيس بلاستيك لفوهة قدرة الفول، ثم يعمل مغرفته داخل القدرة ليخرج منها حبات الفول ويضعها داخل الكيس، ثم فى النهاية يربط الكيس ويناوله لسيدة تقف أمامه، تسرع بدورها لتتمكن من إعداد وجبة السحور التى لا تكتمل دون طبق الفول الشهير.
فى ميدان السيدة زينب يتزاحم رجال ونساء وأطفال داخل صوان بيع الفوانيس، يفاصلون فى أثمانها ويفاضلون بين أشكالها، ويجرب لهم البائع عدداً منها، لا يقتصر الزحام فقط على خيام الفوانيس، وإنما يمتد إلى مقاهى الميدان التى تزدحم عن آخرها، وتجبر عمال المقاهى على أن يفرشوا مقاعد على الأرصفة، ويخرجوا بها إلى حرم الطريق فيكادوا أن يغلقوه بمقاعدهم، ويوقعوا السيارات العابرة فى فخ الشلل المرورى الذى يتكرر فى أكثر من موضع من شارع بورسعيد وميدان السيدة.
لا يختلف الأمر كثيراً فى شارع تحت الربع الموصل لمنطقة الغورية القديمة، فرغم أن اليوم هو الأحد الذى تغلق فيه ورش تصنيع الفوانيس والمقاعد الخشبية بالشارع أبوابها، إلا أن الزحام لم يخفت، يتجلى فى جلوس عدد من العمال على مقاعد يحتسون المشروبات الساخنة والباردة ويدخنون الشيشة ويقتلون الوقت بالدردشة والتسامر حتى الفجر. وفى منطقة الغورية لا تغلق محال الملابس الجاهزة المنتشرة فى الشارع أبوابها حتى رغم تجاوز الساعة الواحدة والنصف صباحاً، يمنى البائعون أنفسهم بزبون «نصف الليل» يقبل عليهم وهو فى طريقه من أو إلى المنزل ليشترى منهم احتياجات أسرته من ملابس العيد.
من بعيد يتسلل صوت مسحراتى يتجول بين المنازل وهو يعلق ميكروفوناً فى رقبته وبيده كراسة صغيرة مدون بها على ما يبدو أسماء السكان، وبصحبته فتاة تمسك فى يدها طبلة توقع عليها لحناً مميزاً. ينطلق صوت المسحراتى منادياً على سكان أحد المنازل كل باسمه، يظهر أهالى المنزل فى شرفاتهم وهم يحثون المسحراتى على ترديد أسماء أطفالهم، فى حين يتحلق حوله أطفال الشارع ويطلبون منه بدورهم أن ينادى عليهم فى ميكروفونه. ينهى المسحراتى مهمة النداء على السكان الساهرين فى شرفاتهم، ويبتلعه شارع آخر جانبى مظلم هذه المرة ليبدأ بداخله من جديد.
أما شارع الأزهر فينقلب فيه الحال كثيراً إذ يبدو الشارع وكأن الوقت فيه تبدل فأصبح الثانية ظهراً بدلاً من الثانية صباحاً. يتجمع المواطنون على المقاهى والمطاعم التى تقدم وجبات اللحوم المشوية والحمام والدواجن، وساندويتشات الكبدة والسجق والفول والفلافل. يدور عمال المطعم فى همة ونشاط بين الزبائن ليقدموا لهم الوجبات الساخنة قبيل دقائق قليلة من انطلاق أذان الفجر، يجلس معظم هؤلاء الزبائن على خلفية تواشيح الفجر المنبعثة من مسجدى الأزهر والحسين، تداعب الآذان وتفتح النفوس وتهيئها للصلاة بعد قليل. يحاول بعضهم أن يسجل اللحظة بصورة فوتوغرافية يلتقطها له زملاؤه تظهر فيها من خلفه بوابة مسجد الأزهر أو مئذنة الحسين، غير أنها لا تسجل صوت التواشيح فى تفاصيلها.
داخل جامع الأزهر يتمدد عدد من المصلين على السجاد فى الصحن الرئيسى منتظرين انطلاق صوت المؤذن، بينما يملأ البعض الآخر أروقة المسجد وهم يقرأون القرآن، وينتشر عدد آخر لا بأس به قادم أو ذاهب للحمام والميضأة. يرتفع صوت المؤذن للسماء وكأنه يناجى الله. يتوقف قليلاً قبل أن يردد فى صوت واثق «الصلاة خير من النوم»، لا يدرى فى اللحظة التى تتردد فيها عبارته أن مئات المصلين الذين يتوافدون على المسجد ليؤدوا الصلاة كانوا منذ دقائق قليلة ساهرين فى الشوارع والمطاعم المحيطة بالمسجد، ولم يكونوا نائمين.
