الحج في إيران إما لمكة أو لكربلاء
المواطن الإيراني لا يحمل من الاختلافات عنا سوى الاختلافات الطبيعية بين أبناء الشعوب والثقافات المختلفة، وهذا أمر بديهي يفرض نفسه، واختلاف الطقوس التعبدية وطرق الاحتفال الديني للإيراني أمر لا يدعو للدهشة؛ فالواقع يقول باختلاف الطقوس بين الديانات المختلفة، بل وبين المذاهب التي قد يتضمّنها الدين الواحد.
دعونا إذن نتعرّف على بعض أبرز مظاهر الحياة الدينية للإيراني...صلاة الجمعة الإيرانية بالطوب وماء الورد والمدفع الرشّاش
لصلاة الجمعة عند أهل السُنة أهمية عالية، حتى بين غير المنتظمين في أداء باقي الصلوات، وهي كذلك عند الشيعة، وإن كانت طقوسها أكثر تعقيدًا في إيران، وبالذات طهران. فبينما تكون لدى السُنة مكوّنة من خطبتين يتخللهما دعاء أو استغفار، ثم ركعتين كركعتي الصبح، تكون ذات مراسم خاصة لدى الإيرانيين؛ فهي بالنسبة لهم ليست مجرّد صلاة جماعية، يجدّد فيها المسلمون العهد مع الله وجماعة المسلمين، بقدر ما هي وسيلة لتوصيل تعليمات كبار "آيات الله" للعابدين؛ باعتبار أن "آيات الله" -وعلى رأسهم المرشد الأعلى- هم بمثابة الواسطة بين الله وعبده، فضلاً عن أنها علامة على انتهاء فترة التقية (إخفاء الشيعة مذهبهم خوفًا من بطش أعدائهم)؛ إذ لم يكن الشيعة يقيمونها منذ اختفاء إمامهم الثاني عشر، وحتى أعادها الإمام الخميني في إعلان منه عن إنهاء التقية وإشهار دولة الشيعة.
وشخصية الخطيب تكون مجهولة ومعتمة حتى لحظة صعوده المنبر، فهو ليس مجرد خطيب بل هو شخص يشغل منصبًا مهمًا يعيّنه وليّ الأمر بنفسه بقرار سيادي؛ لخطورة مهمته في توجيه الجمهور الإيراني وفق خطط قياداته الدينية. يصعد الخطيب منبره الفسيح ويُحيّيه المصلّون بالتكبيرات، ويلقي خطبته التي تتخلّلها من حين لآخر هتافات: "مرك بر أمريكا.. مرك بر إسرائيل.. مرك بر ضد ولاية الفقيه" (الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. الموت لمن هو ضد ولاية الفقيه)، وعادة ما يتزعم تلك الهتافات رجل مسئول عن النظام في المسجد (نظام نماز)، وعادة ما يتّكئ الخطيب على مدفع رشّاش، أُسوة ببعض الخطباء الذين اعتادوا الاتكاء على السيف كرمز للجهاد المستمرّ.
ثم تُقام الصلاة، ويقف الإمام في مستوى منخفض عن المصلين كرمز لغيبة الإمام الثاني عشر في أحد الكهوف. وأمام كل مُصَلٍّ قطعة من الحجر من أرض كربلاء -موضع استشهاد الحسين رضي الله عنه- يضع عليها جبهته عند السجود. وبعد الصلاة يرشّ أحد خدّام المسجد ماء الورد على المصلين وهو يهتف "بركات!".
الأعياد الإيرانية بين عيد الفطر و"الغدير" والصراخ والعويل
يحتفل الإيراني الشيعي بعيدَي الفطر والأضحى، والمولد النبوي الشريف، ومولد الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه (الإمام السادس للشيعة)، وكذلك يحتفلون بـ"عيد الغدير"، وهو ذكرى ما اعتبروه تسليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الولاية على المسلمين من بعده للإمام علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- حين قال الرسول حديثه الشريف: "من كنتُ مولاه، فعليّ مولاه" عند غدير "خم".
أما أبرز مناسباتهم فهي تلك المرتبطة بالحزن على معاناة آل البيت، واستشهاد الحسين بن علي -رضي الله عنهما- وكثير من آل بيته في كربلاء، وهذا في ذكرى عاشوراء. فيحتفلون بذكراه بإقامة مواكب الحزن الجنائزية التي من أشهر مظاهرها ممارسة البعض طقوس جلد النفس بسلاسل حديدية، ولطم الصدور بقبضات اليد تكفيرًا -حسب اعتقادهم- عن خطيئة أسلافهم، حين تخلّوا عن الحسين، وتركوه لجنود يزيد بن معاوية يسفكون دمه. كما يقومون بتنظيم مشهد تمثيلي في الشارع لواقعة كربلاء، يقوم فيها أحدهم بدور الحسين الشهيد، بينما يقوم الآخرون بدور قتلته، ويتخلّل العرض هتافات من المشاهدين معادية لقتلة الحسين، خاصة في المشاهد التي تظهر فيها شخصية يزيد بن معاوية.
ثم بعد أربعين يومًا من عاشوراء، يحتفلون بيوم الأربعين، وهو إحياء لذكرى عذاب آل الحسين، عندما تم أسرهم، ونقلهم في قافلة طويلة من العراق إلى دمشق عاصمة الأمويين، في هجير الصحراء.
وخلال الأيام العشرة الأولى من شهر المحرم، تكون مظاهر الحداد الكئيبة مسيطرة على إيران، وترتفع في أنحاء طهران الرايات السود علامة على الحداد العميق.
وأغلب الإيرانيين يصومون يوم عاشوراء، ثم بعد الإفطار يتجمّعون في الحسينيات (دور المناسبات) ليحيوا ليلة عزاء الحسين، ويستمعون للمنشد يقصّ بأبيات حزينة قصة الحسين، حتى يبكي الحضور بحرقة وسط تكرار المنشد أن "من لم يبكِ على الحسين لا يدخل الجنة".
وفي ليلة النصف من شعبان -ذكرى ميلاد المهدي المنتظر وفق المعتقد الشيعي- تجري احتفالات مناسبة داخل البيوت؛ حيث يتجمّع الأقارب والأصدقاء في مجموعات في بيوت بعضهم، ويستمعون لأحدهم وهو يقصّ قصص الأنبياء حتى يصل لسيرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وتسليمه الولاية للإمام علي -رضي الله عنه- ويقصّ قصص مصارع آل البيت، بينما يبدأ الندب والبكاء والنواح بين الحضور.
الحج في إيران إما لمكة أو لكربلاء
والإيرانيون يهتمون بزيارة الأماكن المقدّسة في مذهبهم، كلٌ قدر استطاعته المادية والجسدية، فيزورون كربلاء ليتذكّروا مصرع الحسين، ويزورون النجف الأشرف قرب الكوفة؛ حيث مرقد الإمام علي -كرّم الله وجهه- ويتوجّهون للمشاهد المقدّسة؛ حيث مراقد أئمتهم وأوليائهم.
وكما يُلقّب أهل السّنة مَن يُؤدّي فريضة الحج بـ"الحاج"، يطلق الإيرانيون الألقاب على مَن يزور الأماكن سالفة الذكر، فيقال لمن يزور المشاهد "مشهدي"، ومن زار كربلاء "كربلائي"، ومن ذهب للنجف الأشرف "نجفي"... وهكذا.
خليط ديني عجيب.. تلك كانت إيران
الحياة الدينية الإيرانية نستطيع أن نصفها بأنها "متمحورة حول الفرد والحدث"، فمحورها في الجماعة هو "الفقيه"، ومحورها في العقيدة "آل البيت"، ومحورها في التاريخ "استشهاد آل البيت خاصة الحسين"، ومحورها في المستقبل "عودة الإمام المهدي".. والممارسات الدينية للإيراني يغلب عليها طابع الحزن؛ لارتباطها بالذكريات الأليمة للشيعة، وهي مسألة مشتركة بينهم وبين أصحاب الديانات المرتبطة بفكرة الاستشهاد، كالعقيدة المسيحية القائمة على فكرة صلب السيد المسيح عليه الصلاة والسلام، وحتى العقيدة الفرعونية القديمة المرتبطة باستشهاد أوزوريس على يد "سَت"..
ولكن هذا لا يعني تسليم العقل للصورة النمطية الجامدة عن الإيراني، كشخص يعيش حياته محاصرًا نفسه بين إحياء الذكريات الحزينة، والأمل في عودة المهدي المنتظر؛ فالرجل الإيراني -كأي إنسان- له جوانب حياته المختلفة؛ الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، بكل ما فيها من هموم، وطموحات، وأزمات، ونجاحات، وإخفاقات، وإن كان لحياته الدينية تفرّد أو خصوصية، فهذا مما يقتضي الاقتراب والفهم قبل إطلاق الأحكام، سلبًا أو إيجابًا.