"كارتر"
ووالده إبراهيم
في عام 1979 قام الرئيس أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم
بيجين بالتوقيع على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في البيت الأبيض
برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. وحينها سادت في إسرائيل حالة من
التفاؤل والتوقعات بقدوم عصر جديد –حسب ما تشير صحيفة هاآرتس الإسرائيلية-
وهو ما دفع آنذاك زوجين بسيطين من عرب إسرائيل يدعيان "إبراهيم كدسا"
وزوجته "هياتم" إلى إطلاق أسماء الزعماء الثلاثة (السادات وبيجين وكارتر)
على الثلاثة توائم الذين أنجباهما. وهو الخبر الذي تصدّر وقتها عناوين
الصحف في إسرائيل.
تقول "هياتم" إنها كانت ترغب في تسميتهم "محمد
ومحمود ويوسف"، إلا أن الطبيب اليهودي الذي أشرف على عملية الولادة اقترح
عليها تسميتهم بأسماء الزعماء الثلاثة (مهندسي عملية السلام)، فوافقت
تفاؤلاً بهذا الحدث الذي توقّعت أن يغيّر شكل المنطقة، بينما يذكر والدهم
أنه هو الذي فكّر في تسمية أبنائه بأسماء الزعماء الثلاثة؛ لأن اتفاقية
السلام بين مصر وإسرائيل زرعت في قلوب الجميع الأمل وإمكانية التعايش
الثنائي.
ولكن بعد سنوات من هذا الأمل والتفاؤل عادت وسائل الإعلام
الإسرائيلية لتسليط الضوء على هذه الأسرة؛ لمحاولة التعرف على ما وصل إليه
حال هؤلاء الأطفال، والعجيب –وفقاً لهاآرتس- أن حال هؤلاء الأبناء الثلاثة
تدهور تماماً مثل حال اتفاقية السلام الموقّعة بين مصر وإسرائيل، فـ"بيجين"
و"السادات" تورطا في أنشطة إجرامية؛ لدرجة أن "السادات" اتُّهم بارتكاب
جريمة قتل، بينما يعمل "كارتر" في سوبر ماركت؛ للإنفاق على العائلة. ووصفت
وسائل الإعلام الإسرائيلية هذا الأمر بأنه "الأمل الذي تم دفنه".
ولكن
لم تتوقف القصة عند هذا الحد، بل عادت وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ عدة
أسابيع بإعادة تسليط الضوء مرة أخرى على هؤلاء الأشخاص الثلاثة التي أطلقت
عليهم (توائم السلام الثلاثة) وتمثّلت المفاجأة الكبرى في أن أحوالهم
ازدادت تدهوراً –وهو الأمر الذي يرى المعلقون الإلكترونيون الإسرائيليون
(التوك بوكر) أنه أمر طبيعي نتيجة ازدياد تدهور العلاقات الإسرائيلية
المصرية- حيث قُتل "بيجين كدسا" نتيجة تعرّضه لإطلاق نار من قبل بعض
الأشخاص الذين يوجد بينه وبينهم بعض المشاكل، بينما يقضي "السادات" عقوبة
السجن بسبب جريمة القتل التي تورّط بها في السابق، بينما حال الأسرة بوجه
عام هو حال يرثى له؛ فالأب طلّق والدتهم منذ عدة سنوات وتزوّج بأخرى، بينما
الأم مريضة، وشقيقهم الأكبر "عابد" البالغ من العمر 33 عاماً يعاني هو
الآخر من بعض الأمراض.
وبالطبع لم تفوّتْ وسائل الإعلام الإسرائيلية
هذه القصة، واستغلتها للتأكيد على المزاعم الصهيونية بأن اليهود مستضعفون
ومقهورون بينما العرب جبابرة، وقامت جريدة هآارتس بربط أصل اسم كل واحد من
الثلاثة بمصيره، فعلّقت على هذا الأمر قائلة: "الذي يحمل الاسم اليهودي
(بيجين) قُتل، والذي يحمل الاسم العربي (السادات) قاتل، بينما ثالثهما الذي
يحمل الاسم الأمريكي (كارتر) فهو يتفرج عليهما".
ولكن هل شبح
تدهور علاقات السلام بين مصر وإسرائيل هو الذي ألقى بروحه الشريرة على
التوائم الثلاثة "بيجين" و"السادات" و"كارتر"، وأدى إلى تدمير حياتهم؛
انتقاماً منهم بسبب أسمائهم التي أُطلقت عليهم نسبة إلى مهندسي اتفاقية
السلام؟ أم إن هناك أسباباً أخرى مغايرة تماماً؟
صورة للتوائم الثلاثة والأم ومنزل العائلة
و"بيجين" شاباً
أنا من جهتي أقول إن تدهور حالة هذه الأسرة ناتج عن
أسباب أخرى خارجة عن إرادتهم بالفعل، وهي أسباب ناجمة عن الكيان الذين
يعيشون فيه، وطريقة معاملة السلطات الإسرائيلية معهم باعتبارهم عرباً
وليسوا يهوداً، وهذا الاستنتاج لم أطرحه اجتهاداً مني ولكن تضمّنه بالفعل
بشكل ضمني وغير صريح التحقيق الصحفي الذي أجرته مراسلة صحيفة هاآرتس "روني
سيجيل" والتي شملت لقاءات مع المحيطين بالأسرة، وإلقاء الضوء على المنطقة
التي يعيشون بها في مدينة "اللدّ".
حيث يتضح من هذا التقرير
الصحفي أن هؤلاء الثلاثة هم مجرد مثال لما يعانيه عرب 48 بوجه عام من
إهمال وتمييز عنصري من قبل السلطات الإسرائيلية، وعدم تمكنهم من الحصول
على أبسط حقوقهم كآدميين، ورغم أنهم يحملون بطاقات هوية إسرائيلية إلا أن
الدولة العبرية تنظر إليهم باعتبارهم مواطنين درجة ثانية، ليس لهم أي حقوق
على الدولة، على الرغم من أنهم في الحقيقة هم أصحاب الأرض الحقيقيون،
وليسوا نازحين مطرودين من مختلف بقاع الأرض مثل اليهود.
ففي بداية
جولة "روني" التقت الصحفية الإسرائيلية بـ"منال" –ابنة عمة الثلاثة- التي
أكدت أن القتيل "بيجين" كان شاباً طيباً وعطوفاً؛ لدرجة أنه كان يوزّع
طعامه على القطط، ولكنه رغم ذلك كان يرى أن الطريق أمامه مسدود، وأن
المستقبل غامض، فهو وأشقاؤه لم يكن لهم منزل محدد، منذ أن كانوا أطفالاً،
ولم يلعبوا مثل باقي أقرانهم، ولم يكملوا تعليمهم، وكانت أسرتهم –ولا
تزال- تعاني الفقر الشديد. وتضيف أنه وإخوته لم يتمكنوا من الزواج؛ بسبب
عدم قدرتهم على توفير نفقات الزواج رغم تخطيهم الثلاثين عاماً.
كما أن بلدية "اللد" قامت في الثمانينيات بهدم منزلهم، وأجبرتهم على مغادرة
المكان، ومنحتهم تعويضاً صغيراً لا يكفي لشيء، ولم تتمكن الأسرة من شراء
منزل بديل بهذا المبلغ الصغير، وصُرفت النقود في الطعام ودفع فواتير
الكهرباء وإيجار شقة.
وهنا توضّح الصحيفة أن هذا الإجراء لم
يستهدف أسرة "كدسا" فقط، بل جاء ضمن خطة إسرائيلية عامة كانت تهدف إلى طرد
السكان العرب مما يُعرف بحي القطارات بمدينة "اللد"، وذلك لإقامة مشروع
سكني استثماري لليهود مكان منازل هؤلاء العرب.
أما عن وصف
التقرير للإحياء العربية الموجودة بمدينة "اللد" –وهو المحيط الذي نشأ به
الثلاثة– فهو لا يختلف كثيراً عن وضع باقي الأحياء والمناطق العربية التي
يقطنها العرب في إسرائيل. حيث يشير تقرير الصحيفة إلى أن تلك الأحياء
تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة والخدمات الاجتماعية، فمثلاً لا يوجد بها
صرف صحي، ومياه المجاري تغرق شوارعها معظم الأيام، علاوة على الفقر الشديد
الذي يعاني منه سكان تلك المناطق؛ نتيجة عدم توافر فرص عمل مناسبة. الأمر
الذي حوّل تلك الأحياء –بشهادة الصحيفة الإسرائيلية- إلى بؤر للإجرام؛
نتيجة لحالة الإحباط والقهر التي تسود سكانها، أضف إلى ذلك انتشار الجهل
والفقر.
وفي النهاية يمكننا القول على ضوء هذا التقرير إن وجه
إسرائيل الحقيقي مغاير تماماً للزعم الذي تحاول ترويجه في العالم بأنها
واحة الديمقراطية والتقدم في الشرق الأوسط، وأنها قطعة من الغرب في
المنطقة...