إذا كان أَعْظَمُ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ، كما روى الترمذى عن نبينا الكريم، فإن الإمام أبو حنيفة النعمان هو أعظم المجاهدين في التاريخ الإسلامى، فقد عايش الإمامُ أبو حنيفة أبغى الملوك والممالك وصدح بما رآه حقا، عاش الإمام أبو حنيفة اثنين وخمسين عامًا من حياته فى العصر الأموى وثمانية عشر عامًا فى العصر العباسى، أدرك فيها الدولة الأموية فى قوتها وعنفوانها، وكان لا يرى أى شرعية لها، ثم فى تحدرها وانهيارها، وأدرك الدولة العباسية وهى دعاية سرية تجوس خلال الديار الفارسية، وأيدها كرهًا فى بنى أمية، ثم أدركها، وهى حركة تغالب الأمويين وتنزع الملك من أيديهم ثم تحمل الناس عليه بالرغبة والرهب كما يقول الإمام أبو زهرة، لقد صدم الإمام أبو حنيفة فى العباسيين، فقد أيدهم ليرفعوا ظلم الأمويين وبطشهم وتجبرهم فكانوا أنكى وأضل سبيلا.
لذلك تحول الإمام إلى عشقه القديم، إلى تأييد العلويين، يروى البزازى فى المناقب أنه حين خرج زيد بن علىٍّ على هشام بن عبد الملك عام 112هـ قال أبو حنيفة: «ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر. فسئل لمَ تخلفت عنه فقال: حبسنى عنه ودائع الناس عرضتها على ابن أبى ليلى فلم يقبل فخفت أن أموت مجهلا». لقد كان أبو حنيفة من أهم مصادر الشرعية لثورات العلويين، بينما كان فقهاء السلطان يكفرون من يسىء إلى بنى أمية بالكلام. وقد أرسل أبو حنيفة إلى زيد معتذرا عن عدم المشاركة معه «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لخرجت معه، لأنه إمام حق ولكن أعينه بمالى»، وأرسل إليه بعشرة آلاف درهم، مع رسول وقال له ابسط عذرى له.
يقول الزمخشرى فى الكشاف: «وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سرا بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة، كالدوانيقى وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابنى عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتنى مكان ابنك».
ولقد تعددت خروجات آل البيت اعتراضا على حكم العباسيين، وقد أيد أبو حنيفة كل ثوراتهم، إلا أن كل ثوراتهم قوبلت بالعنف العباسى والدموية والنهاية المأساوية للعلويين، وحين تلاشى أمل التغيير بتأييد الثورات بدأ أبو حنيفة فى إعلان عدم الاعتراف بشرعية العباسيين، فرفض التعاون معهم بأى شكل يروى الزمخشرى «كان أبو حنيفة يقول فى المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادونى على عدّ آجره لما فعلت». وحين علم النظام بذلك أخذوا يدعونه إلى المناصب المختلفة وهو يرفض تمام الرفض دعوة لبيت المال ثم للقضاء ثم لحمل خاتم الدولة، وأن لا ينفذ أى قرار إلا بإذنه، كل ذلك وأبو حنيفة يرفض ويجلد ويتعذب فى صبر وثبات على المبدأ.
لكن ما كان يفتّ فى عضده ويحزنه غاية الحزن هو كلام علماء السلطة فيه، فقد أخذوا يهاجمونه ويطعنون فى علمه ودينه، ووصلت بهم الحال إلى أن أغروا به السفهاء والعوام يسيرون خلفه سابين مهينين، والإمام لا يرد، وحين زاد هجوم عدوه اللدود عليه قال فى أسى «إن ابن أبى ليلى ليستحل منى ما لا أستحله من حيوان»، إنها عبارة تنبئ عن قدر المرارة التى كان يشعرها الإمام من إساءات فقيه الأمويين ابن أبى ليلى، لقد كانت انتقادات بعضهم لأبى حنيفة إدانة كبيرة للمنتقد.
يروى الخطيب البغدادى فى «تاريخ بغداد» عن ابن عيينة يقول: «لم يزل أمر الناس معتدلا حتى ظهر أبو حنيفة بالكوفة، فنظرنا، فوجدناه من أبناء سبايا الأمم»، إن وجه النقد ليس لعلم أو دين وإنما لأنه من الموالى (المسلمون من غير العرب) إنها عنصرية فجة من رجل محسوب على العلم.
لقد كان فقهاء السلطان يخشون فقدان مكانتهم عند الأسياد، وقد بدؤوا بالفعل يفقدونها أمام هذا الفقيه المفكر. يروى المكى: «أنه حين أراد ابن هبيرة أن يكتب بينه وبين الخوارج عهدا بالصلح قال لابن أبى ليلى وابن شبرمة، اكتباه فكتباه فلم يرضه ابن هبيرة، فقيل له إن بالكوفة رجلا نظارا فى مثل هذه الأمور، قال فبعث إليه، فلما صار إليه دفع الكتاب إليه فلم يرضه أبو حنيفة، وقال كله خطأ إلا ما ذكر من أسماء الله تعالى، فقال له ابن هبيرة فاكتبه فكتبه فأعجبه، فكان ذلك أول يوم فضل فيه أبو حنيفة على ابن ابى ليلى وابن شبرمة».
إن الروايات لتوضح أن حالة من الصَّغَار كانت تنتاب فقهاء عصره أمامه. يروى المكى «ضرب أبو حنيفة فى السجن ضربا شديدا، وكانوا قد أمروا بذلك، وكان ابن أبى ليلى وابن شبرمة فى المسجد فأُخبرا بذلك فأظهر ابن أبى ليلى الشماتة، فقال ابن شبرمة ما أدرى ما تقول، هذا الرجل أشفق على نفسه منى ومنك على أنفسنا، فنحن نطلب الدنيا وهو يُضرب كى يأخذها فيأبى».
وحين خرج إبراهيم بن عبد الله بالبصرة يدعى لنفسه الخلافة بلغ المنصور أن أبا حنيفة والأعمش كتبا إليه، فكتب على لسان إبراهيم كتابا وأرسله إلى أبى حنيفة فأخذ الكتاب وقبله، فقرر المنصور التخلص من أبى حنيفة ولكن كيف يمكنه ذلك؟ فلجأ إلى الحيلة القديمة، عرض عليه المنصور أن يوليه القضاء ويخرج القضاة من تحت يده إلى جميع البلدان الإسلامية، عرض ذلك وهو يعلم تماما أنه سيرفض، وحين رفض بالفعل هدده بالحبس فأصر على الإباء فحبسه، وكان يخرجه كل يوم فينادى عليه ويجتمع الناس ويضربه عشرة أسواط، ويطوف به فى السوق، وظل على ذلك حتى ضرب مئة وعشرين سوطا، وفى اليوم الأخير كما يروى المكى دفع إليه قدحا ليشربه فأبَى، وقال لا أشرب لأنى أعلم ما فيه، ولا أعين على قتل نفسى، فطرحوه أرضا وصبوه فى فيه، فاخضر وجهه من السم، فجاء إلى المنزل فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.
ولما مات نودى فى الناس بموته فازدحموا عليه حتى امتلأت المدينة من بابها إلى بابها الآخر. يقول الراوى فلم نقدر على دفنه إلا بعد العصر من الزحام، وجاء المنصور فصلى على قبره ومكث الناس يصلون على قبره عشرين يوما، ويروى المكى أن رجلا من المحدثين كان يقع فى الإمام فقيل له إنه أفضل أهل زمانه فلا تقع فيه، فمات ذلك المحدث فما صلى عليه سوى ثمانية أنفس، بينما صلى على أبى حنيفة خمسون ألفا.
لقد كان اغتيال هذا الفقيه المفكر النبيل بسُمِّ المنصور أهون بكثير من اغتياله الثانى الذى تم على يد محدِّثى عصره، فقد شنوا عليه حربا ضارية، فبعد وفاة الجسد لا بد أن يموت فكره وفقهه، فوجدنا كتب المحدثين وقد مُلئت حقدا وغلا وكراهية للرجل فقد خالفهم، وعقوبة من يخالفهم دائما الإقصاء والتشويه.
ولنر نماذج للتشويه والتدليس والحقد والغل والحسد من المحدثين (السلفيين الآن) تجاه أبى حنيفة، يروى الحافظ البغدادى وأغلب الروايات القادمة منه عن محمد بن شجاع بن الثلجى قال: قال أبو حنيفة: «لما أردت طلب العلم جعلت أتخير بين العلوم وأسأل عن عواقبها، فقيل لى تعلم القرآن، فقلت إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس فى المسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك فى الحفظ، فتذهب رياستك، قلت فإن سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن فى الدنيا أحفظ منى، قالوا إذا كبرت وضعفت يرمونك بالكذب فيصير عارا عليك.. قلت فإن تعلمت الفقه، قالوا تسأل وتفتى الناس وتطلب للقضاء فلزمت الفقه وتعلمته». إن الرواية لرجل يتاجر بدينه ويبحث عن أى المجالات أربح لهذه التجارة لا لعالم زاهد مثل أبى حنيفة، ومع ذلك فالرواية موضوعة، لأن فيها محمد بن شجاع بن الثلجى، قال ابن عدى: «كان يضع الحديث وينسبه إلى أهل الحديث يثلبهم بذلك»، إن فى سند الرواية كذاب أشِر، ولكن نقلها المحدثون كرها فى أبى حنيفة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ويروون عن إسماعيل بن عيسى بن على قال: قال لى شريك: «كفر أبو حنيفة وزعم أن الصلاة ليست من دين الله»، وهذا والله منتهى الإفك ولا يصدقه عقل على الإطلاق ومع أن الرواية موضوعة، ففيها شريك بن عبد الله «تكلم فيه العلماء كثيرا وضعف يحيى بن سعيد حديثه جدا» إلا أنها مُرِّرت ورويت للتقليل من قدر أبى حنيفة.
ويروون عن ابن أسباط يقول: قال أبو حنيفة: (لو أدركنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركته لأخذ بكثير من قولى)، ورغم سخف الرواية وسقوطها فإن راوييها محبوب بن موسى الأنطاكى ويوسف بن أسباط ضعيفان لا يحتج بهما.
إن هذه ليست النهاية فقد رأينا أمويا كبيرا كالإمام الألبانى يضعف أبا حنيفة بناء على هذه الترهات وشبيهاتها، وأمويا آخر متعصبا يصدر كتابا كاملا ليثبت ضعف أبى حنيفة، وعماده فيه حقد أسلافه الذى ورثوه له على أنه دين الله.
وفى الأخير….. ولأن الله لا يصلح عمل المفسدين فقد صار المذهب الحنفى المذهب الرسمى للدولة العباسية التى حاربوه لكسب ودها، بل ولدول كثيرة على مدار التاريخ الإسلامى، وحتى فى زمننا هذا ما من زواج يتم إلا ويباركه ذكر مولانا الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان