حين زار مفتى مصر القدس فإنه أهان نفسه كواحد من أهل العلم، وأهان دار الإفتاء التى يرأسها، وأهان المؤسسة الأزهرية التى ينتسب إليها، وأهان البلد الذى ينتمى إليه. وحين عاد من زيارته وحاول أن يبرر فعلته فإنه أهان أيضا عقولنا وافترض فينا البلاهة والغباء. ذلك أننى أستغرب على رجل من أهل العلم أن يدعى أنه بزيارته أوصل رسالة المقدسيين الداعية إلى إغاثة المسجد الأقصى من مخططات التهويد، وكأن التحقق من ذلك «الاكتشاف» الذى انفرد به المفتى كان لابد له من أن يذهب بنفسه إلى المسجد الأقصى لكى يشاهد بعينيه ما يجرى هناك. ولم أفهم أى غيبوبة انتابته بحيث لم يوازن بين ذلك الهدف الذى لا يضيف شيئا إلى معارف العامة (فما بالك بالخاصة) وبين المفاسد والفتنة الكبرى التى يمكن أن تترتب على فعلته. ناهيك عن إنه بذلك فتح الباب لكل شخصية عامة لكى تمارس التطبيع متذرعة بحجة توصيل رسالة المقدسيين وربما أيضا توصيل رسالة الفلسطينيين فى الأرض المحتلة.
من ناحية أخرى، فإن القيام بمثل هذه الزيارة لا يدخل فى عمل المفتى حتى أزعم أنه يعد تجاوزا من جانبه أساء فيه إلى دار الإفتاء، التى لم يقل أحد إن من شأنها أن تمارس الاجتهاد السياسى فى الأمور العادية، فما بالك بقضية معقدة فشل فيها رجال السياسة. وللأسف فإن الزيارة لم تمثل صفحة سوداء فى سجل الرجل فحسب ولكنها باتت أيضا صفحة سوداء فى سجل دار الإفتاء التى يفترض أن تنأى بنفسها عن التورط فى مثل هذه الأفعال.
ويظل مستغربا أن ينسى الرجل أنه منتسب إلى مؤسسة الأزهر التى تعد منارة للعالم الإسلامى ورمزا لحلمه فى وحدة الأمة على الصعيدين الوجدانى والدينى من ناحية والثقافى من ناحية أخرى. وبدلا من أن يتبنى موقفا حازما يليق بمقام الأزهر، من قبيل الدعوة إلى تحرير القدس مثلا، فإننا وجدناه قد دخل فى لعبة صغيرة، ظاهرها حمل رسالة المقدسيين، وباطنها التسليم باحتلال الإسرائيليين. وقد كان بوسعه إذا أراد أن يتواضع أن يطالب الإسرائيليين بالسماح للفلسطينيين بالصلاة فى المسجد الأقصى سواء كانوا تحت سن الأربعين من أبناء فلسطين 48 أو كانوا من أبناء الضفة الغربية، إلا اننا وجدناه يتجاهل هذا الشق ويحبذ السياحة فى القدس فاتحا الباب لغيره من الشخصيات العامة فى العالم العربى والإسلامى لكى يتوافدوا على إسرائيل بحجة الصلاة فى الأقصى.
كما بدا الأزهر صغيرا فى هذه الزيارة حتى تجاهل المفتى رمزيته فإن مصر التى يعد المفتى أحد واجهاتها بدت صغيرة أيضا. حتى رأيت فى زيارته صورة مصر العاجزة فى عصر مبارك، التى دأبت على ممالأة الإسرائيليين وموالاتهم، ولم أر مصر الفتية التى رفعت رأسها واستردت كرامتها بعد الثورة. إن مفتى مصر ليس مفتى أى بلد، ولكنه رمز البلد الكبير الذى إذا كان قد ذل أو انكسر يوما ما، إلا أنه رصيده من المهابة والمكانة لم ينفد بعد. ولك ان تتصور كم مشاعر الإحباط والانكسار التى يمكن أن تشيع فى أوساط العرب والمسلمين حين طالعوا خبر زيارة مفتى مصر بجلالة قدره للقدس وهى تحت الاحتلال.
لقد استغبانا الدكتور على جمعة وافترض فينا البلاهة حين قال بعد عودته إن زيارته كانت شخصية، وإنه لم يكن يمثل دار الإفتاء أو الأزهر. كما انه استغبانا حين قال ان الزيارة كانت مفاجأة، وانها رتبت على عجل، ولذلك لم يتمكن من الاستئذان ولم يخبر أحدا.
وهو كلام غير مقبول. ذلك أن الشخصية العامة طالما هى فى المنصب لا تستطيع أن تنفصل عن المنصب الذى تحتله. إن كل ممارساته محملة على منصبه. والمكان الوحيد الذى يمكن ان توصف فيه ممارساته بأنها شخصية ومعزولة عن منصبه، هو بيته الخاص. أما إذا خطا خطوة واحدة خارج البيت فهو محمل بمنصبه لا يستطع منه فكاكا، شاء أم أبى.
وأغلب الظن أنه كان يضحك علينا ويفترض فينا السذاجة حتى قال انه فى زيارته لم يخالف الشرع أو الدين، وكأن المطلوب أن يكون هناك نص من القرآن والسنة يمنع زيارة القدس المحتلة. ولست أشك فى أن الرجل يعرف جيدا أن الأمر لا يحتاج إلى نص. ولكن الإباحة والحرمة فيه مرهونة بنتائج الترجيح بين المفاسد والمصالح، فإن كانت الأولى فشبهة الحرمة قائمة وإن كانت الثانية اكتسب التصرف حصانة شرعية.
إن اسوأ ما فى الزيارة ليس فقط ان مفتى مصر قام بها، ولكن أيضا انها تعطى انطباعا للجميع بأن إسرائيل حريصة على كفالة حرية الأديان، وانها بذلك مؤتمنة على القدس التى يمكن أن تصبح مفتوحة للجميع فى ظل الاحتلال، الذى أكسبته الزيارة ثقة واحتراما.
الملاحظة الأخيرة على الزيارة ان «المطبعين» وحدهم رحبوا بها واعتبروها عملا شجاعا وخطوة بناءة لتعزيز الثقة بين العرب والإسرائيليين (فى ظل استمرار الاحتلال بطبيعة الحال)، وهذا الاعجاب والتودد للمفتى ليس فى صالحه، ليس فقط لأنه يسىء إلى صورته وسمعته فى الدنيا، ولكن أيضا لأن المرء يحشر يوم القيامة مع من يحب، كما يقول الحديث النبوى. الأمر الذى يعنى أن لعنة الزيارة لن تطارده فى دنياه فقط ولكنها مرشحة لملاحقته فى الآخرة أيضا