ارحل
بقلم عمر طاهر
ارحل لقد أصبح الموت مجانيا، جملة وقطاعى، وفقد كثيرون الشعور بصدمة هذه المصائب، تبلد إحساس كثيرين فى هذا البلد، ولم يعد منظر الأمهات الثكلى يثير فيهم أى تعاطف بعد أن أصبح المشهد مألوفا.
ارحل..
أحلم أن أكتب جملة مفيدة وأن لا أعيش بقية عمرى كاتبا معارضا ينتقد ويهاجم ويرثى ويلطم على وجهه بدلا من أن يكتب ما يمكن اعتباره حجرا فى بناء البيت الذى نحلم به.
ارحل..
وقعت الناس فى بعضها البعض، وأصبح بين الناس وبعضها ألف ثأر، زرعتم شرخا يكبر بمرور الوقت منذ الاستفتاء وحتى ندائكم الأخير للشعب أن يواجه نفسه بنفسه، ويأكل بعضه حتى تستقر الأمور، ما بين نعم ولا، ومسلم وقبطى، وتحرير وعباسية، ومحرضين ومواطنين شرفاء، ومطبلاتية ومندسين، وثوار وفلول يتحول الوطن إلى جزر صغيرة منعزلة والفضل لكم.
ارحل..
الموظفون يحيكون كفن الثورة، يتعاملون مع إرادة الشعب باللائحة والقوانين، تختبئون خلف سيادة القانون فى الوقت الذى تريدونه وتدهسونه إذا وقف عائقا فى طريقكم، تحاكمون المفسدين والقتلة كمتهمين فى جريمة شيكات، وتحاكمون الثوار كخونة وجواسيس، وبمرور الوقت تساهمون فى تثبيت أقدام من خلخلناهم، آلاف الموظفين فى خدمتكم، وبفضلهم وبالقانون قد يعود مبارك رئيسا للبلد فى أقرب فرصة.
ارحل..
الناس تذهب إلى عملها (إن كانت ما زالت تعمل) وهى خائفة على أهل بيتها، وأصبحت لا تمتلك حتى ثمن القفز فى قارب يهربون به إلى بلد أجنبى، مرضت الناس نفسيا وعصبيا، أصبح كلامنا كله للخلف ولا كلمة واحدة عن المستقبل تستطيع أن تمسك بها فى حواراتنا اليومية، من لم يمت شهيد الثورة مات شهيد الأنبوبة أو جركن البنزين أو قاطع الطريق الذى ضج من فقره وجوعه، العمل الأهلى أصبح محصورا فى جمع التبرعات لإطعام الناس ولا حملات التبرع لضحايا الحرب الأهلية فى الصومال.
ارحل..
أجمل من فينا يضيعون من بيننا، نذهب إلى المشرحة أكثر مما نذهب إلى زيارة أصدقائنا فى بيوتهم، لم يعد لدينا دموع لكل هذه القنابل، أصبحنا ندور حول الحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة حتى نعبر الطريق باتجاه أعمالنا، صوت أسراب سيارات الإسعاف أصبح مألوفا كنداء باعة البطاطا، ارحل صور الأطفال أصبحت مكللة بشريط الحداد القطيفة الأسود.
ارحل..
أخرجتوا أسوأ ما فينا، علَّمتوا الناس كيف يخونون وكيف يستسهلون الاتهامات وكيف يأكلون فطرتهم بأنفسهم حتى لا يتعاطفوا مع شهيد أو مصاب أو مسحول، تفاديا لأى تعاطف مع الثورة، اعوجت ألسنتنا من الحديث الفارغ فى السياسة، وضعفت أبصارنا من متابعة الشاشات المقسمة إلى أربعة نوافذ كل واحدة تنقل كارثة فى الوقت نفسه، ولم يعد هناك طعم لشىء.
ارحل..
الداخلية مشتتة ومنقسمة بسببكم، فالشارع لا يتحمل صنفين من الضباط فى وقت واحد، وجودكم يحسبه كثيرون منهم إهانة لهم وعبئا نفسيا مربكا، وكثيرون فاسدون من بينهم ينصبون لكم أفخاخا لا تصيبكم بسوء، ولكن تحرق قلوبنا على الأحياء والموتى.
ارحل..
لقد بدأ جيل المنافقين الجدد يتشكل، والتف حول وجودكم جهلاء ومدعون كما يلتف اللبلاب حول شجرة عجوز، يحاربون الفتنة وهم الفتنة، يهللون خوفا على البلد وهم أخطر ما فيها، ما بين رجل دين مدع ومحلل رياضى منافق وفلولى نصف تائب وأحمق لا شفاء له، أصبحت الوجوه المتراصة خلفكم فى الصورة عار على الميرى الذى ترتدونه.
ارحل..
فقد أصبح الميرى نفسه وتبعاته من مدرعات ودبابات أشياء مثيرة للامتعاض والريبة بعد سنوات كانت مثيرة للفخر والشعور بالجلال، بددتوا علاقتنا بأوضح ما كنا نمتلكه وحرمتونا من أن نودع إخوتنا الجنود كما استقبلناهم فوق أعناقنا فى الميدان.
ارحل..
لقد هج السائحون، ابيّض شعر أبناء جيلى، وقادة البلد ينافسون تامر حسنى فى التصابى، ولن أقول لك إنك كنت سببا فى اعتزال البرادعى، فهذا أمر ربما لا يهم كثيرين، لكنك كنت سببا فى اعتزال أبو تريكة ويا له من عار.
ارحل..
كنا نصدقكم عندما قلتم «الله المستعان».. وأتى دورنا لكى تسمعوها منا ولكن كما ينبغى، نقولها لكم كما قالها سيدنا يعقوب لإخوة سيدنا يوسف عندما أتوا له بقميصه وعليه دم.. «والله المستعان على ما تصفون».