رواية
العزبة
تأليف
دكتور
مـحمـــــد مـحـفــــوظ
(….شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض ….)
(سورة الأنعام ــ الآية 112)
لم يدفعنى إلى هذا العالم اللامرئى ، إلا حبى للقراءة .
ولطالما
راوغت رغبتى الجامحة فى قراءة هذا النوع من الكتب ، والتى كانت تطالعنى
دائماً على أرفف المكتبات ، وعند بائعى الصحف على الأرصفة .
والمدهش
.. أن هذه الكتب كانت منتشرة بأعداد ضخمة وأسعار معقولة . وكان هذا يدفعنى
دائماً للتعجب . فكيف تتم مصادرة كتابات بعض المفكرين بواسطة بعض المؤسسات
الدينية ؟ بينما تُترك هذه الكتب التى يختلط فيها اليقين بالخرافة ،
والحقيقة بالخيال ، والدين بالدجل والشعوذة .
وكنت
دائماً أهتم بقراءة عناوين هذه الكتب . وأتأمل الرسومات على أغلفتها ،
بألوانها الفاقعة الصارخة ، وملامح رسوماتها الممسوخة ذات الأنياب والقرون
والعيون الحمراء . وكنت كلما هممت بالتقاط أحد تلك الكتب لأتصفحه أو لأطلع
على فهرسه ، يتملكنى خوف غريزى وخجل عقلى سرعان ما يجعلانى أحيد عن تلك
الرغبة . فكيف أسمح لنفسى وأنا أؤمن بثقافة العقل أن أنحدر إلى هذا الدرك من ثقافة الخرافة . وكيف
أخاطر بالاتصال بعالم مجهول تماماً ، بينما أنا أعانى فى وسط عالمنا هذا
رغم علمى بالكثير عن تفاصيله ودقائقه . كيف أطمئن بالمجهول ، بينما يأكلنى
القلق فى الظاهر المعلوم .
ولكن
.. كما يقول المثل الدارج "الحذر لايمنع قدر" . ففى إحدى سفرياتى للقاهرة
لقضاء أمر شخصي . أدى الروتين الحكومى إلى اضطرارى للإقامة بإحدى
اللوكاندات حتى اليوم التالى . وفى حجرتى باللوكاندة أثناء وضع حقيبتى
بالدولاب ، وجدته أمامى .. فيبدو بأن النزيل السابق بالغرفة كان قد تركه
سهواً . كان كتاباً من الحجم المتوسط ، تنطبق عليه كافة مواصفات تلك الكتب
من الألوان الصارخة على الغلاف ، والملامح الشيطانية . وكان عنوانه من
كلمة واحدة …. "الجن" .
* * * *
ما
اجتمعت أنا وكتاب فى مكان ، إلا وكانت ثالثتنا القراءة . ولقد كان الجو
مهيأ لذلك تماماً . فوحدتى فى الغرفة ، وطول ليل الشتاء ، وإدمانى للقراءة
، دفعتنى إلى التخلى عن حذرى وخوفى وخجلى . ولم أنم إلا وكنت قد انتهيت من
قراءته .
* * * *
أضفت
إلى مكتبتى رفاً جديداً . فبالإضافة إلى رف لمؤلفات النقد الأدبى ، ورف
للروايات والقصص والأشعار ، ورف للمؤلفات السياسية ، وآخر للكتابات
الفكرية ، وآخر لمؤلفات الاتصال و الإعلام . فقد أفردت رفاً جديداً لكتب
"عالم الجن" . ولطالما كنت أشعر بالخجل الشديد وأنا أخرج من إحدى المكتبات
و فى يدى كتاب عن "عصر المعلومات" وكتاب آخر عن "الجن" .
ولكن إدمانى للقراءة كان ينتصر دائماً على إحساسى بالخزى والخجل . ولو أن
ذلك لم يمنعنى من الالتزام بقيد صارم آليت على نفسى عدم التفريط فيه . حيث
قررت منذ الكتاب الأول ألا أنزلق إلى ساحة التجريب ، أو وفقاً لمصطلحات
تلك الكتب "التحضير" . فلقد قرأت كثيراً عن تحضير الجن واستدعائه
واستخدامه ، أو إخراجه من جسد الممسوس والمربوط والمسكون . ورغم شغفى
بالقراءة إلا أننى لم أجد داخلى أى رغبه فى تجاوز القراءة إلى التجربة .
فلقد كان عقلى يأبى أن ينزلق إلى أبعد من ذلك . وكنت أنا نفسى أرفض أن
أستبدل إيمانى بالعلم بشغفى بالخرافة .
* * *
لا
أستطيع أن أحدد بدقة متى بدأت أشعر بتلك الأشياء . ولا شك أنها بدأت
مبكراً ، ولكننى كنت فى البداية لا أوليها اهتمامى ، وتتغلب مشاغلى
وأفكارى عليها . ولكن بمرور الوقت بدأت أشعر بأننى مراقب . فأينما جلست أو
سرت داخل المنزل كنت أشعر كأن أحداً يتبعنى أو أن عيوناً متلصصة ترقبنى
وتترصد خطواتى ، ثم بدأت الأمور تتطور . فلقد كنت أشعر ليلاً أثناء النوم
أن ثمة يداً تتحسسنى . وفى البداية كنت أعتقد بأننى أحلم . ولكن تكرار
الأمر وتطوره إلى درجة استيقاظى لأجد نفسى عارياً ، جعلنى أدرك بأن هناك
شيئاً غير عادى يحدث لى . ولقد دهمنى اعتقاد جازم بأننى جننت ، ولكن
إشفاقى على نفسى جعلنى أفسر الأمر بطريقة سيكولوجية ، دفعتنى إلى الاقتناع
بأننى أصبت بانفصام فى الشخصية أو بداء السير أثناء النوم . ولقد سيطر علىّ هذا التفسير السيكولوجى إلى حد شروعى فى البحث عن طبيب نفسى لأعرض عليه حالتى .
ولكنها .. لم تجعلنى أسير فى هذا الطريق إلى النهاية ، فلقد ظهرت لى .
* * * *
ــ أنا …. نورجان ..
هكذا
قالت لى فى أول لحظة لظهورها . ووقتها أدركت بأننى جننت تماماً ، وأن
انفصام الشخصية والسير أثناء النوم أمنيات غالية بالقياس بما أنا فيه .
ولقد سمرنى الرعب فى فراشى ، وسرت رعشة بجسدى كله ، وعرفت وقتها معنى أن
يقف شعر الرأس .
ــ أنا …. نورجان ..
هكذا قالت مرة ثانية ، إلا أننى كنت قد بدأت أشعر بدوار شديد ، وأيقنت بأننى فى طريقى لأن أفقد الوعى .
* * * *
تكررت
مرات ظهورها . وبعد معاناة بدأ الأمر يصبح مألوفاً لى بعض الشىء . ولم
أصدقها فى البداية عندما صرحت لى بأنها من الجن ، لأننى كنت قد سلمت
تماماً بفكرة سقوطى فى بئر الجنون . ولكن بمرور الوقت لاحظت بأن تعاملاتى
مع أسرتى ومع الآخرين لم يطرأ عليها أى اختلاف ، بالإضافه إلى أن مستوى
أدائى فى العمل لم يتعرض لأى اهتزاز أو اضطراب . ولذلك بدأت أتعامل مع
الأمر على أنه ظاهرة خارقة ، قد يصعب على العقل فهمها ، ولكن يمكنه
التعامل معها.
ولعل
الحقيقة التى لايمكن إنكارها هى .. أنها جميلة ، بل فاتنة ، ولو أننى
أدركت بعد ذلك أنها متوسطة الجمال بمقاييس عالمها . إلا أنها بمقاييسنا
رائعة الجمال . ولقد أيقنت عند رؤيتى لها بأن معظم الكتب التى قرأتها عن
أبناء جنسها لاتستحق إلا الحرق . وأنها لاتحوى إلا أكاذيب وخزعبلات . لأن
الحقيقة الأساسية التى لايمكن إغفالها ، هى أن لغاتنا وكافة رموزنا
البشرية لايمكنها أن تصف هذا الخلق المغاير . قد يمكن أن ننقل الانطباعات
والمعانى ونختزلها إلى كلمات . لكن الأوصاف لايمكن بأى حال أن نجد لها فى
لغاتنا أو رسوماتنا أية كلمات أو مراد فات أو ملامح أو ألوان . إنها أوصاف ليس لها شبيه فى عالمنا المعروف … عالم البشر .
* * * *
كان
الجنس أحد المعالم الهامة فى علاقتنا ، ولكنه لم يكن كل شىء فيها . فقد
كان مجرد حضورنا معاً يمنح كلينا إحساساً مفعماً بالدفء والأمان . هل هو
الاختلاف التام فيما بيننا الذى يجعل عمر الدهشة بلا نهاية ؟ فيتجدد
دائماً الشعور بالانبهار الذى يقضى على أى مشاعر بالملل .. لا أدرى , ولكن
الجنس أيضاً كان شيئاً مغايراً . لايمكننى الوصف ، فهو فعل يختلف تماماً
عما يمارسه البشر . ولكنه كان يتمثل فى إحساس جارف بالانغماس فى لذة طاغية
، تمنح النشاط والحيوية أكثر مما تجلب الوهن والخمول . كأنها نوع من
ممارسة الحياة بشكل أفضل ، بل هى أفضل الأشكال . ولذلك كانت فترات الصمت
تطول بيننا ، أكثر كثيراً من فترات الاتصال . ولعلنى أقول الاتصال ، لأنه
كان تخاطباً من نوع غريب . فكل منا يتحدث لغته ولكن الآخر يفهمه ، كأن
مترجما يجلس بيننا فيترجم لها لغتى ويترجم لغتها لى . ولكن رغم ندرة جلسات
حديثنا ، إلا أننى كنت دائماً أحاول التقاط كل ما يمنحنى المزيد من
المعرفة عن عالمها وأحداثه وأحواله . ولقد فهمت منها بأن عالمهم لايوجد
تحت الأرض كما يعتقد بعض البشر ، ولا على سطحها ، ولا أعلاها أو أسفلها ،
أو حتى بجوارها أو بعيداً عنها على كوكب آخر . ولكنه عالم موازٍ ، يوجد فى الزمان ولا
يوجد فى المكان . ولقد أثارت مسألة الفصل بين الزمان والمكان بيننا جدلاً
سفسطائياً . فكل مناحقاً يفهم لغة الآخر . ولكنه لايفهم رموزها ولا
خلفياتها الاجتماعية والفلسفية ، أو حتى قوانينها الطبيعية والوضعية .
ولكن بمرور الوقت بدأ كلانا يدرك بأنه لاسبيل إلى فهم ما هو فوق الفهم ,
وبدأنا نكتفى بروعة مواجهة الجديد واللامعقول .
ولكن
يوماً بعد آخر ، بدأت أتوق إلى رؤية هذا العالم الذى أسمع عنه منها فقط ،
ولا أراه إلا بعين خيالى . ولقد ترددت كثيراً قبل أن أصارحها برغبتى هذه ،
وذلك لشكى فى جواز حدوث ذلك أصلاً ، ولخوفى من تأثير ذلك حال حدوثه على
بنيتى الإنسانية . ولكن رغبتى غلبت ترددى وصارحتها بذلك , فعبَرت عن
ترددها بعض الشيء ، لخوفها من انكشاف أمر علاقتها بى وسط أبناء جنسها .
ولكننى تعهدت لها بأننى سألتزم بكافة محاذيرها . لخوفى عليها أولاً ،
ولرغبتى الصادقة فى استمرار علاقتنا ثانياً .
* * * *
اختلقت
رواية عن رحلة سفر ينبغى قيامى بها ، لأبرر غيابى لأسرتى . وتقدمت بطلب
للحصول على إجازة من العمل . وكنت كلما اقترب الموعد الذى حددناه لانتقالى
معها إلى هناك ، ينتابنى إحساس بالهلع ، سرعان ما يجعلنى أقرر ضرورة
إلغائى لهذه المغامرة المجهولة التى أقامر فيها بحياتى. ولكننى كلما
التقيت بنورجان أجدنى أخجل من إظهار خوفى أمامها وأتجاهل تماماً ما عزمت
عليه من قبل .
ولقد
مرت الأيام سريعاً . ووجدتنى وجهاً لوجه مع ذلك اليوم الموعود وأسقط فى
يدى ، فلم يعد هناك مفر ، ولم يبق لى إلا الظهور بمظهر المتماسك المقدام .
وأخذت أبرر لنفسى بأن مواجهة المجهول لكشف غموضه وأسراره تستحق كثيراً من
المغامرة والمقامرة . ومادامت قد انقطعت كل خيوط التراجع، فليس أمامى إذن
إلا الارتحال لاستكناه غيب ذلك الكائن فى الزمان بلا مكان . الارتحال إلى…
عالم الجن .
* * * *
ما
إن صافحت نفسى واقع هذا العالم المحجوب ، حتى أدركت مدى قصور الخيال
الإنسانى. ومحدودية العقل البشرى فى قدرته على الهروب من الواقع المحيط
للتحليق فى عالم الخيال . وانغماس فرشاة الرؤية الإنسانية فى ألوان الأرض
وترابها فلا تبتكر خطوطها إلا تكرارات ممسوخة من الأصل الخلاب . ولقد مرت
بمخيلتى أعظم منجزات السينما العالمية فى مجال الخيال العلمى ، وأخلد
الملاحم الأدبية الأسطورية . وحاولت مقارنتها بهذا العالم العجيب ، فكانت
أشبه بخيال شاحب باهت تخترقه الأنظار ، وسط تكوين حقيقي صارخ الأوصاف
والملامح ، حاد الجوانب والقسمات ، فاقع الألوان والظلال ، نابض بالقوة
والروعة والجلال .
إن
الأرض تجذبنا فلا نرى أبعد من تحت أقدامنا ، والواقع يحاصرنا كفقاعة صابون
لانرى إلا صورتنا المنعكسة على جوانبها اللامعة ، بينما الكون من خارجها
يموج باللامعقول واللاموصوف .
يمكننى نقل الانطباع , يمكننى نقل المعنى , ولكننى أعجز عن الوصف ، فاللغة وعاء لما نعرفه، وعاء يتفتت عند مواجهته لغير المعروف .
ولقد
غمرنى هذا العالم المحجوب بلا معقولية تفاصيله ودقائقه ، فوجدتنى أغوص فى
إحساس دافق بالدهشة ، دهشة تختزل كل تفكير وتحوِّل العقل إلى كتلة هلامية
تختزن الصور والمرئيات ، ولا تمتلك أية قدرة على الاستدلال والمقارنة
والتحليل والاستنباط . كما اكتشفت أننى لم أعد أتذكر أى شىء عن عالمى ،
فذاكرتى انمحت تماماً ، ولم أعد أدرك إلا أننى غريب عن هذا العالم الجديد
، ولكننى ابن لعالم قديم ومألوف أصبحت لا أتذكر عنه شيئاً .
ولقد
سارعت نورجان بانتشالى من ذهولى ، بإفهامى بأن عقلى البشرى لايمكنه أن
يستوعب كل هذا الجديد وغير المألوف دفعة واحدة ، بدون أن يتخلص تماماً من
كل القديم المعهود . ولن يطفو عالمى البشرى على سطح ذاكرتى ثانية ، إلا
بعد استيعابى لتفاصيل هذا العالم الجديد . ولكن بمجرد استردادى لذاكرتى
البشرية ، فإننى سأنتقل مرة أخرى إلى عالمى البشرى خلال وقت قصير .
ولقد
أراحنى هذا التفسير . فتأهبت لفتح أبواب ذاكرتى الفارغة على مصراعيها
لتستوعب هذا الفيضان الهادر لعالم تدب فى كافة أوصاله حياة مجهولة ، حياة
لا أدرى ــ حتى الآن ــ عن كنهها شيئاً .
* * * *
الأحوال
ما
إن حللت بهذا البلد ، وجبت أقطاره ، إلا وقد أحطت بمجمل أحواله دون
التفاصيل . فثمة جو ثقيل خانق يخيم على الأنحاء وينشر ذيوله فى الزوايا
والأركان . بينما يبدو الانكسار وتظهر المذلة كأحجار ثقيلة معلقة فى أعناق
الرائحين والغادين . ويقفز الذهول كمطرقة تضرب كل الوجوه فينطلق الشرود
كحبل طويل من العيون يلف كل عابر وكل مقيم .
ولقد أحاطت الفوضى بكل شيء . فلا معنى للنظام أو الالتزام . فالأمور تسير وفقاً لقواعد عشوائية لا يحكمها إلا التسيب والإهمال .
ولقد
أدركت بأن للفقر ملامح لا تخطئها النفس الذكية رغم اختلاف العوالم
والأحوال . فلقد أقام الفقر دولته فى هذه البقاع ، وسيطرت الفاقة والحاجة
على النفوس ، حتى صار الكل يتقاتل من أجل النجاة من الموت جوعاً … ولكن
وسط كل هذا الشقاء تتناثر هنا وهناك أبهة وفخفخة تصدم العقول ، وتتجاوز كل
حدود الممكن والمتاح ، فكأن أصحابها زهزهت لهم الدنيا ، وهم لا يقنعون إلا
بالمزيد والمزيد .
وعلمت
من نورجان بأن هذا البلد يقع فى وسط هذا العالم ، الذى تمتاز أطرافه
الزمانية الشمالية والغربية وبعض الجنوبية والشرقية بالقوة والتقدم
والرفاهية . بينما يسيطر التخلف والضعف والفقر على بلدان أزمان الوسط
والجنوب والشرق . ويبرر الشياطين تردى أحوال تلك البلدان لسابق استعمارها
من دول الأطراف . بينما يقرر الصالحون بأن خيرات الله ونعمه ــ بتلك
البلدان ــ لو تم توزيعها بالعدل لعاش الكل فى بهجة ونعيم .
وسردت
لى نورجان التاريخ المعاصر لهذا البلد ، الذى كان فى السابق تحت حكم
النظام الملكى . إلى أن تمكن مجموعة من الثائرين من تدبير تمرد أطاح
بالملك ، وتحولت البلاد إلى الحكم الجمهورى . وأصبح قائد هذا التمرد بمرور
الوقت بمثابة رمز محزن للثورى الطاهر الذى أفسدته السلطة . فانقلب على
كافة رفاقه ومعاونيه ، ورفض تسليم الحكم للصالحين ، وركز كل السلطات بين
يديه، وزج بالبلاد فى عدة حروب ومغامرات وعداوات ، أزهقت الأرواح ،
والتهمت الأرزاق ، حتى صار الصالحون يطلقون عليه فى أواخر أعوام حياته
وبعد مماته " مستشار إبليس" . وورث الحكم من بعده تلاميذه وعصبته ، فحولوا
البلد إلى تركة ينهبون خيراتها ، ويوزعون على العباد شرورها . واستمرت
الأحوال حتى تسلم مقاليد الأمور الحاكم الحالى ، والذى وإن اختلفت وسائله
وطرقه ، فإن محصلة حكمه ما كانت إلا امتداداً لسلسال واحد تشعب بخفاء فى
كافة مؤسسات الحكم والسلطة ، وحين تنبه الصالحون ، كانت البلد بالكامل قد
سقطت فى قبضة الشياطين الذين تحلقوا حول المناصب حتى لاينفذ إليها أحدٌ
غيرهم ، وإن سارت الأمور أحياناً على غير ما يشتهون ، ودانت الأمور لأحد
الصالحين ، فسرعان ما كانوا يدبرون له المكائد والمؤامرات ، حتى يخرج من
منصبه بفضيحة تظل تلاحقه إلى آخر الزمان .
وشرحت
لى نورجان كيف توصلت بلدان الأطراف الزمانية المتقدمة إلى نظرية فريدة
لنظام الحكم، تتيح لكافة القوى المجتمعية إمكانية الوصول للسلطة ، من خلال
أسلوب الانتقاء أو الاختيار أو الانتخاب الحر. ولكى يتم ذلك الانتخاب فى إطار كامل من الحرية والاستقلالية ، توصلت تلك النظرية إلى ما يسمى بدولة المؤسسات ، وتمثل
تلك المؤسسات كافة الأفرع الرئيسية التى ينتظم منها بناء أية دولة ، فهناك
المؤسسة الشعبية التشريعية ، ومؤسسة القضاء والعدل ، ومؤسة الحكم والإدارة
، وأخيراً مؤسسة الإعلام التى أفرزتها العقود الأخيرة نتيجة تقدم وسائل
الاتصال . وتمارس كل من تلك المؤسسات دورها فى الرقابة على المؤسسات
الأخرى، وهدفها النهائى هو تحقيق الرفاهية للشعب ، والذى بدونه ما كانت
لتوجد الدولة . فأى قرار أو هدف لا يرعى مصلحة الشعب هو فى مضمونه خيانة
لآماله وتطلعاته ، ولا يسعى إلا لخدمة مصالح صانعيه . وبذلك أصبح الحكم فى
الدول المتقدمة حكماً مقيداً غير مطلق ، لايقتصر على فئة معينة أو طبقه
معينة أو اتجاه سياسى معين . فهو حكم من يختاره الشعب ليحقق ما يريده
الشعب بواسطة الشعب .
وقد
استعارت بعض دول أزمان الوسط والجنوب والشرق هذا النظام الفريد . ولكنها
طبقته كشكل أجوف بلا مضمون . فالانتخاب الحر تحول فى تلك الدول إلى انتخاب
موجه يتم من خلال التلاعب بإرادة الناخبين . والمؤسسات التى تراقب بعضها
البعض تحولت إلى مؤسسات تتواطأ مع بعضها البعض لخدمة مصالح الفئة الحاكمة
. وتوارت مصلحة الشعب وآماله أمام
مصلحة رموز السلطة ورغباتهم ، حتى أصبح نظام الحكم فى تلك الدول صورة
معدلة من صور الحكم المطلق الذى يقتصر على فئة معينة ، ولا سبيل إلى
انتقال الحكم منها إلى أية قوة مجتمعية أخرى بالوسائل السلمية . ولذلك
بزغت بتلك البلدان جماعات الجائرين كتنظيمات سياسية مسلحة ، تدبر
الاغتيالات السياسية وتمارس العنف بهدف الإطاحة بالسلطة .
…. اتهمتُ نورجان بعد كل ما سمعته منها بالتشاؤم . فالأوضاع فى بلدها لا يمكن أن تكون بمثل هذا السوء وتلك البشاعة . ولا شك بأن ما لاحظته بنفسى من فاقة وفقر ، يرجع إلى أسباب وظروف متداخلة و متعددة ، وليس إلى مجرد فساد السلطة ، وصارحتها بأننى لن أقتنع إلا بما
يؤكده لى تحليلى الذاتى وتجربتى الشخصية ، لأننى أعتز باستقلالى الفكرى
ولن أستسلم لمجرد تحليلها الخاص للأمور . والحق أننى قلت ذلك بلسانى فقط ،
لكى أظهر أمامها بمظهر المفكر الحر صاحب الرؤية . ولكننى بداخلى كنت
مقتنعاً بصحة كل ما قالته رغم أننى لم أعاينه بنفسى . فثمة شعور دفين كان
يطفو بين الحين والآخر إلى سطح عقلى ، ليؤكد لى بأننى عشت يوماً ما هذه
الظروف والأحوال من قبل ، وإننى كنت أردد يوماً ما نفس تلك الأراء
والأفكار ، ولكننى لا أتذكر متى كان ذلك ، ولا أين ؟ فلقد أصبحت غريباً فى عالم جديد ، أعرف ــ كلما مر الوقت ــ عنه شيئاً ، بينما عالمى القديم الذى جئت منه، أصبحت لا أذكر منه شيئاً .
* * * *
الحاكم
ما يتردد عن سيرته الذاتية والعملية ، وعن قدراته الذهنية والجسدية
، وكفاءته القيادية والإدارية ، وعلاقاته الأسرية والشعبية ، كلها محض
أكاذيب , تروجها كتائب الإعلام التابعة لجهاز الحكم. والتى تستخدم أحط
الأساليب الشيطانية للوصول إلى مآربها , وتقوم سياستها القذرة فى بناء
السيرة الذاتية للحاكم على جمع حقائق صغيرة جداً وخلطها بأكاذيب كبيرة
جداً ، بحيث تصبح الحقائق الصغيرة دليلاً على صدق الأكاذيب الكبيرة .
وباستخدام أساليب التكرار والتذكير والمطاردة والملاحقة اليومية للعقول ،
واصطناع المواقف والقصص وردود الأفعال ، تتحقق بمرور الوقت السيادة للسيرة
المصطنعة ، بينما تتوارى فى الخفاء السيرة الحقيقية .
ولكن
لأن المعرفة قوة . ولأن المعلومة الخطيرة تضفى على ناقلها مهابة وجلالاً
.فإن صانعى الأكاذيب أنفسهم هم مسربو الحقائق . ولئن تم ذلك فى أضيق نطاق
، داخل حجرات النوم على صدور المومسات والغوانى ، أو على ظهور الشواذ
والمراقيع . إلا أن ذلك يتيح دائماً للحقيقة أن تظل على قيد الحياة ، ولكن
لا يكتب لها الانتشار إلا بعد رحيل الحاكم وزوال عصره وسلطانه .
ولقد
علمت من نورجان بأن أصوله المتواضعة والتى تصورها دائما كتائب إعلامه
باعتبارها مدعاة للفخر والزهو ، كرمز للكفاح والعزيمة والقدرة على ارتقاء
سلم المجد من القاع حتى قمة السلطة ، تلك الأصول تمثل أحد نقاط الضعف
الخطيرة فى سيرته الذاتية . فلقد كان والده مرتشياً يتاجر بحقوق العباد
التى بين يديه بحكم عمله كموظف صغير فى جهاز تابع للدولة . وتمكن بفضل
خدماته غير الشرعية لبعض المقربين والمنتفعين فى زمن الملكية ، من أن يضع
ابنه على أول الطريق الذى يتيح له الانتقال لطبقة أخرى . كما استثمر أيضاً
صلاحياته هذه فى زمن الجمهورية لتدعيم مستقبل ولده ، حتى تمكن من إسناد
أول منصب قيادى له فى مجال عمله . ولقد كان هو يبارك دائما ما يفعله والده
، لإدراكه لمدى أهمية ذلك كوسيلة للارتقاء السريع . فكان يستفسر منه
دائماً عن أسماء من لهم مصالح فى عهدته، حتى ينتقى من بينهم الشخصية
المناسبة التى يمكن أن يجنى من ورائها دفعة إلى الأعلى , حتى أصبح هذا
الارتقاء السريع مدعاة للدهشة والتساؤل بين أقرانه . فقد صعد من وسطهم
بسرعة البرق إلى أعلى المناصب ، رغم عدم تمتعه بأية ميزة نادرة أو موهبة
فذة . ولإدراكه بكل ما يتردد عنه فإنه ما إن تولى منصب الحاكم ، حتى أرسل
فى نفس يوم توليه برسائل سرية يحملها مندوبون يمثلونه شخصياً ، ونبه عليهم
بضرورة تسليم تلك الرسائل لأصحابها بصفة شخصية ، واستردادها مرة أخرى بعد
الانتهاء من قراءتها . وكانت هذه الرسائل موجهة إلى كل من كانت لهم يد فى
ارتقائه لسلم القيادة والسلطة ، بالإضافة إلى كافة زملائه دون استثناء على
مدى تاريخه الوظيفى ، وكافة من تجمعهم به صلة قرابة سواء بالدم أو
بالمصاهرة . وكانت الرسالة مختصرة جداً وبدون توقيع وتحتوى على كلمتين فقط
هما …. " لسانك .. حياتك " .
ولطالما
روجت كتائب إعلامه لأدبه الجم ، واحترامه لمستشاريه ، وتعففه عن التعامل
مع كافة المحيطين به بألفاظ جارحة أو خادشة للحياء . ولكن الحقيقة المؤسفة
والخطيرة ما لبثت أن وجدت هى الأخرى طريقها للتسرب ولكن بحذر شديد وخوف
أشد . فلقد كان يتعامل مع مستشاريه بأسلوب شيطانى لم يتبعه سواه . ولئن
كان من سبقوه من الحكام قد أخذتهم الجلالة والعظمة فى بعض تعاملاتهم مع
مستشاريهم ، فتطاولوا عليهم بالألفاظ الجارحة والردح والصياح بالصوت
الحيانى أمام صغار الموظفين والخدم ، فلأن ذلك كان مرتبطاً فقط بمدى صفاء
مزاجهم أو تكدره . ولكنه هو ابتدع سياسة ثابتة للتعامل مع مستشاريه ، تبدأ
منذ تعيين المستشار وبالتحديد بعد أدائه لليمين . حيث يُفاجأ المستشار بعد
انفراده بالحاكم لتلقى توجيهاته ، بعدد من الرجال الملثمين يحيطون به
ويوسعونه ضرباً وشتماً وتجريساً وتهزيئاً، ثم يأمرونه بالسجود أمام الحاكم
والتسبيح بحمده ومجده ، ثم يفاجأ المستشار وهو ساجد بأنهم قد قيدوا حركته
تماماً ومزقوا ثيابه ، وأن أحدهم يعتدى عليه جنسياً ، ويظل يصيح ويستنجد
بالحاكم ويطلب منه العفو والرحمة ، ولكنهم لا يتركونه إلا بعد أن يغشى
عليه أو يتبادلوا جميعاً الاعتداء عليه . وبعد ذلك يجلسونه أمام الحاكم
مرة أخرى ، وكأن شيئاً لم يكن ، ويبدأ الحاكم فى إصدار توجيهاته وتكليفاته
إليه . فيخبره بأن تشريفه بمنصب المستشارية ليس إلا ليكون عيناً
له فى أحد قطاعات الدولة ، وعلى باقى المستشارين الآخرين ، وبالتالى فإن
أى إجراء مهما قل شأنه لايمكنه اتخاذه إلا بعد العرض عليه ، كما إن
الاستمرار أو الإعفاء من هذا المنصب رهناً بمشيئته هو فقط دون اعتبار لأيه
عوامل أخرى ، فرضاه هو الباب السحرى لدخول عالم السلطة وعدم مغادرته . وفى
نهاية المقابلة يفاجئه بأنه منذئذ سيناديه فى مقابلاتهما المنفردة باسم
زوجته ، فإن لم يكن متزوجاً فباسم أمه . وإن كان منصب المستشارية لامرأة ،
فإنه يناديها باسم زوجها أو أبيها .
ولأن
تفكيره الشيطانى لم يتوان أبداً عن ابتكار كل ماهو فاجر ومريع ، فإنه أفرد
أسلوباً خاصاً للتعامل مع الشواذ من مستشاريه . ولعلها من النوادر التى
يتناقلها المقربون والمحيطون ، وبطلها هو المستشار الفاجر الذى فوجىء يوم
تعيينه وبعد أدائه لليمين بنفس الطقوس المهينة ، ثم إذا بهم يقيدونه
ويطلقون عليه حيواناً دربوه خصيصاً على ممارسة الجنس مع الجن . ولعل هذه
الواقعة كانت من أسعد لحظات الحاكم ، فما كان ليحقق لهذا المستشار مراده
بأن يطلق عليه رجاله .
ونظراً
لأن عقله الشيطانى كان يدرك بأن هذه الطقوس المهينة يمكن أن تتسرب إلى
العامة من خلال ألسنة القائمين عليها ، فإنه كلف كتائب إعلامه بأن تروج
لشائعات مضادة ، تتهم مرددى وقائع تلك الطقوس بأنهم عملاء لبعض الطامعين
فى منصب المستشارية ، وأنهم يثيرون هذه الشائعات لكى يعزف المؤهلون لهذا
المنصب عنه ، فيخلو الطريق بذلك لهؤلاء الطامعين . ولعله كان راضياً
تماماً عن هذا الأسلوب فى التعامل مع مستشاريه . فقد ضمن بذلك ولاءهم
التام له ، وتعاملهم معه كإله يمنع ويمنح ، ويعذب ويرحم ، كما أنه زرع
الشك بينهم ، فضمن عدم اتفاقهم عليه .
ولقد
كانت حياته الزوجية مثار تساؤل وفضول المحيطين به والمقربين إليه . لأن
زوجته لم تكن تتميز بأى قدر من الجمال ، فضلاً عن أن الشحوب والضعف كانتا
هما الصفتان المميزتان لها . ولذلك كانوا ينتظرون منه دائماً أن يطلقها ،
أو حتى يقصيها عن الحياة العامة حتى ينساها الشعب . ولكنه لم يفعل ذلك ولا
ذاك ، فقد تعوَّد منذ زمن أن يستثمر كافة نقاط ضعفه ويحولها إلى نقاط
للقوة . فلم يطلقها ويتزوج بامرأة جميلة تليق بمكانته ، لأنه كان يخشى من
أن تخلب أية امرأة جميلة عقول المحيطين به ، وعقول أفراد الشعب ، وتصبح
بمرور الوقت مركزاً للنفوذ ينتقص من نفوذه الذى لا يشاركه فيه أحد . كما
أنه لم يقصها عن الحياة العامة ، حتى يظل شحوبها رمزاً لوفائه وإخلاصه
وشدة تمسكه برفيقة عمره ، رغم كافة المغريات لمن فى مثل هيلمانه ومكانته .
أيضاً
.. ترددت أقوال مصدرها الوصيفات المحيطات بزوجته وجهاز أمنها الخاص ،
مفادها بأنها هى الأخرى لم تعشقه يوماً ، فهى لم تشعر معه يوماً ما بأى
إشباع جنسى ، لأنه كان دائماً بعيداً عن المنزل بحكم مسئوليات عمله ، كما
إن رغبته كانت سريعة الخمود ، فما كانت رغبتها لتبدأ فى الاشتعال إلا
وتكون رغبته هو قد انطفأت ، ولقد كان هذا يدفعها للتبرم فيما بينها وبين
نفسها فى أوائل حياتهما الزوجية ، ولكن ذكاءها الفطرى كان يجعلها تتغاضى
عن إظهار ذلك له ، لتسليمها بأن تواضع جمالها لن يتيح لها الارتباط برجل
آخر بمثل هذا المنصب والمستقبل اللامع . وبمرور الوقت بدأت شهوتها تذوى و
تأفل ، وبالــــذات بعد توليه منصب الحاكم . ولقد كانت تفسر ذلك بان حياة
الحكم والنفوذ والقوة صارت تمنحها لذة لا تدانيها لذة أخرى . ولكنها لم
تكن تعلم بأنه ما إن تولى الحكم ، حتى أمر جهاز أمنه الخاص بوضع مثبطات
للشهوة فى طعامها وشرابها وعقاقيرها الطبية ، لأنه لم يعد يطيق الاقتراب
منها ، فشحوبها أورثه الزهد فيها ، كما أنه بأفكاره الشيطانية كان يعلم
بما يمكن أن تفعله صولة السلطة بالنفوس ، مما يدفع المرأة لاقتراف أى شيء
، ما دامت تأمر فَتُطاع . وهو لم يكن على استعداد أبداً للظهور أمام جهاز
أمنه الخاص بمظهر المغفل الذى تخونه زوجته مع وصيفة شاذة أو خادم قذر .
ولقد
بدأ بعدما تأكد من تثبيته لدعائم حكمه ودوائر نفوذه ، فى الالتفات إلى
رغباته الجسدية ليثبت دعائمها هى الأخرى . ولعل رغبته راودته كثيراً فى أن
يقرب إليه أحد أجمل الجميلات ليتخذها محظية ، فيأتيها كلما استبد به الشوق
. ولكنه لم يستسلم لهذا الخاطر الساذج ، فسرعان ما بدأت أفكاره الشيطانية
فى التوارد ، حتى انتهى إلى ضرورة عدم اقتصار رغبته على امرأة واحدة فقط ،
ففى هذا خطورة ما بعدها خطورة على أمنه وأسراره وعلى استقرار حكمه . ثم ما
الفارق بينه وأى صعلوك إذا اقتصرت رغبته على امرأة واحدة بعينها ، حتى وإن
كانت أجمل الجميلات . كما إنه من داخله كان يحتقر كافة النساء ، ولا يرى إلا إنهن فروج نتنة لا يأتيها الرجال إلا تحت وطأة تلك الرغبة الجامحة .
لذلك
أسفرت أفكاره الشيطانية عن نظام فريد يضمن له عدم التعلق بامرأة بعينها ،
كما يضمن له عدم تعرف أى من تلك النساء عليه ، حيث كون جهازاً خاصاً ألحقه
بجهاز أمنه الخاص ، كانت مهمته الوحيدة هى إشباع رغباته الجسدية . ويتم
ذلك برصد أجمل الجميلات بصفة دورية، وعرض صورهن عليه حتى يختار منهن
أربعاً فقط . فيتم اختطافهن بمعرفة جهاز أمنه الخاص والكشف عليهن للتأكد
من خلوهن من الأمراض ، وفى مخدعه الخاص يتم تقييدهن ــ وتعصيب عيونهن ــ
على الطبلية الدوارة التى ابتدعها هو لممارسة الجنس مع أربع من النساء فى
نفس الوقت ؛ بحيث يظل يأتى الأربع تباعاً حتى تنطفىء رغبته ، والتى كان
يطيل فى أمدها باستخدام عقاقير نادرة وباهظة الثمن ، استوردها خصيصاً من
بلدان الأطراف المتقدمة .
ولقد
استمر على هذا المنوال زمناً ، ولكن لإفراطه فى استخدام تلك العقاقير
فسرعان ما أصابته بآثار عكسية أضعفت بمرور الوقت من قدرته الجنسية . وقد
أكد له الأطباء بأنه لاعلاج لحالته إلا بالتدخل الجراحى لتركيب أجهزة
تعويضية تمكنه من استعادة قدراته ، ولما كان هذا النوع من العمليات لا
يجرى بنجاح تام إلا فى أحد بلدان الأطراف المتقدمة. فإنه استبعد ذلك
تماماً ، لعدم ثقته فى أولئك الأجانب ، وخشيته من تتبع أجهزة أمنهم له
وابتزازه سياسياً لقاء عدم نشر تلك الفضيحة ، بالإضافة إلى علمه باستقلال
أجهزة إعلامهم عن السلطة ، وإمكانية توصلها للخبر ونشره فى أقطار العالم ،
فينفضح أمره فى كافة البلدان ، ويزول حكمه من أجل إصلاح رجولته .
لهذا
سرعان ما ابتدع أساليب جديدة اتسمت بالانحراف والشذوذ والجنون الجنسى .
فأصدر الأوامر لجهاز رغباته الجسدية برصد الشواذ والشاذات واختطاف من يقع
عليهم اختياره ، وفى مخدعه الخاص يتم إجبارهم على ممارسة الشذوذ فى حضوره مرتدياً قناعاً يخفى شخصيته
. وكان يجد فى متابعته لتلك الممارسات الشاذة لذة طاغية ، لا تتفوق عليها
إلا لذة مشاهدته لأب يأتى ابنته او ابن يأتى أمه أو شقيق يأتى شقيقته ،
فكلف جهاز رغباته الجسديه باختطاف من يحدده من المعارضين للحكم ، ثم
اختطاف أحد أفراد أسرته ، وفى مخدعه يتم تلثيمهما وتكميمهما فلا يتعرف
أحدهما على الآخر أثناء ممارستهما للجنس معاً . فيأتى الوالد ابنته او
ابنه ، ويأتى المرأة ابنها أو والدها ، بينما يجلس هو بأحد أركان المخدع
ملثماً يراقب ما يحدث بلذة طاغية .
- ولعل
هذا آخر ما وصلنى من أخبار جنونه الجنسى ..هكذا قالت لى نورجان ، التى
لاحظت علامات الذهول والذعر ترتسم على وجهى ، فحاولت التخفيف من روعى بأن
تغير مجرى الحديث . ولكننى بادرتها بقولى :
إن من يفعل كل ذلك لايمكن إلا أن يكون شيطاناً رجيماً . فأضافت:
بل هو عميد الشياطين فى هذا البلد .
ولكننى
لم أستطع إخفاء دهشتى من وقوعها على كافة تلك المعلومات الدقيقة عن شيطان
يحرص على مزاولة كل شروره خلف الأسوار والمتاريس . فصارحتنى بأن كل هذا
وصل إليها من خلال صديقة لها على علاقة بأحد أفراد جهاز أمنه الخاص .
ولقد
شردتُ قليلاً ، فاستوضحتنى عن سبب شرودى ، فصارحتها بأننى كنت أنتظر منها
أن تحكى لى عن كيفية إدارته للحكم فى البلاد ، ولكن يبدو أن غرامها بأخبار
الفضائح جعل معظم حديثها يقتصر على حياته الجنسية , فاشتعلت غضباً وصاحت
فى وجهى :
وهل
تظن بعد كل ما سمعته منى عن شيطان كهذا ، أنه سيدير حكم البلاد بالعدل
والرحمة ، لقد حدثتك عما لا يمكنك الإحاطة به مهما مكثت فى هذه البقاع ،
أما أمر إدارته للبلاد ، فستعاينه بنفسك من تبصرك فى الوقائع والأحوال .
وشردتُ
مرة أخرى .. ولكن بعيداً ، بعيداً داخل أعماق ذاكرتى الفارغة ، لعلى أجد
بداخلها ما ينقذنى مما سمعته من فظائع وأهوال , ولكنها كانت مظلمة باردة ,
كأنما اعتادت منذ أمد على حفظ المظالم والآلام و ونسيان الأمانى والأحلام
.
* * * *
الأحوال
يسرى
فى البلاد سخط مكتوم ، وغضب مكبوت ، يزلزلان جبال الصبر الشاهقة التى تحصن
حياة العباد بفيض من قوة الاحتمال ونعمة النسيان . وتتلاقى العيون منكسرة
فى تساؤل بلا كلام : إلى متى هذا الذل وذاك الهوان ؟ وتضطرم الصدور بغل
مدفون قيامته آتية لا ريب فيها . وكالوباء ــ الذى تمكن من جسد عليل فلا
تزيده انتفاضات الاحتضار إلا شراهة ــ
انتشر رجال الأمن فى ثنايا البقاع وأرجائها ، لتنفيذ أوامر الحاكم برصد
الأنفاس والهمسات والخلجات ، تأديباً لأولئك السناكيح الذين لم تزدهم
حكمته إلا خساراً ، فليذقهم إذن نهار طيشه وليل بطشه .
ولقد
عاينت كل ما أدى لذلك بنفسى . لم يسرده على أحد ، ولم تروه لى نورجان ,
ففى قلب أحداث ذلك اليوم كنت قائماً ، ووجدتنى يومها وسط العباد ، يذلنى
ذلهم ، ويبلعنى ضعفهم ، ويطحننى خوفهم وذعرهم .
كانت
البلد تحتفل فى هذا اليوم المبارك بمناسبة دينية سنوية . وكان لهذه
المناسبة جلال وسحر يلقيان بظلالهما على البقاع والنفوس . وعلمت من نورجان
بأن الحاكم يحتفل بهذه المناسبة فى أكبر دار للعبادة بالبلد ، حيث يؤم
العباد فى الصلاة ، ثم يخطب فيهم خطبة تصفها كتائب إعلامه بالتاريخية .
واستبد بى الفضول لرؤية ذلك الشيطان جهرة ، والاستماع إلى بيانه ، ومعاينة
جاهه وهيلمانه . لكن شدة الزحام فى يوم الاحتفال أبعدت مجلسى إلى الصفوف
الخلفية ، فى أقصى ساحة الصلاة الفخمة المتسعة ، ولالتفاف حراسه حوله
أثناء وصوله ، لم أستطع أبداً مطالعته . وفور قدومه أذن المؤذن ، فتقدم
الحاكم الصفوف ليؤم الصلاة . كان صوته فى التلاوة بارداً جافاً ، خالياً
من أى أثر للتقوى ، كآلة صماء لا تعى ما تردده من أقدس الأذكار . ولكنه
كان يسجد طويلاً كأنما كان يلهج ويتهدج بالدعاء …. لكن نورجان أفهمتنى
فيما بعد إنه كان يتصنع ذلك عملاً بنصيحة خلصائه ، الذين أوصوه بترقيق
صوته أثناء التلاوة وإطالته للسجود كمظهر للورع والخشوع . فصاح فيهم حينئذ
معلناً عدم تصديقه لقول واحد من هذه الأذكار المقدسة ، فما هى إلا أساطير
الأولين ، وأنه على مضض سيكتفى فقط بإطالة السجود ……وفى نهاية الركعة
الأخيرة سلم يميناً ، ثم استدار ليسلم يساراً ، وإذا بصوته يزأر صائحاً :
سرقوا منى صولجانى ، سرقوا منى صولجانى .
وتكهرب
الجو ، وانتشر رجال الأمن كالبرق على كافة المداخل والفتحات والأبواب ،
وفى لحظات حاصروا دار العبادة . وارتفع صوته يأمر جمع المصلين بالسجود ،
فاندفع رجال الأمن يدفعون العباد للسجود امتثالاً لأوامره ، واعتلى هو
المنبر ، وصاح هائجاً :
أيها
السناكيح ، أصلى بكم فإذا بكم تسرقوننى وأنا الجدير بأن تصلوا لى . تعيشون
فى ظل رحمتى ، وأتقدمكم للصلاة لغيرى فتسرقوننى . فلتسجدوا الآن لى ،
ولتذوقوا عذابى ، ولتودعوا منذ الآن رحمتى ، فليس أمامكم بعد اليوم إلا
الشقاء المقيم . أيها السناكيح الأجلاف ، فليظهر صولجانى المنحوت من
الصخور النارية ، والذى يخطف وهجه الأبصار . وليتقدم من سولت له نفسه
القذرة سرقة حاكمه ، لكى أحرقه بنيران غضبى .
وأعترى الجمع الغفير الساجد نحيب ونشيج ورعشة ، ورفرفت ظلال الموت على النفوس ، وإذا به يتابع صائحاً :
لم يتقدم منكم أحد ، إذن فسأخرجه بنفسى ، وإن عذابى لشديد .
وأمر
رجاله باقتياد الحاضرين رجلاً بعد الأخر إليه ، وضربه وتقريعه حتى يتفصد
منه الدم ، وتجريده من ملابسه بحثاً عن الصولجان ، ثم طرده إلى الطريق
عارياً يحمل أسماله ، بينما تلاحقه اللكمات والركلات .
وفوجىء
المارة العابرون بالمصلين يندفعون فارين وهم عراة إلى عرض الطريق ، بينما
يتعثرون فى أسمالهم ، وتشيعهم اللعنات والشتائم . فتجمع العباد ، واحتشد
العشرات منهم ثم المئات فالآلاف ، حتى سدت كافة الطرق والمداخل المؤدية
إلى دار العبادة . وكان كلما خرج أحد الرجال عارياً، تلقفه الواقفون لستر
عريه عن أعين الجموع .
ولقد
استمر الحاكم قائماً على رجاله داخل دار العبادة ، حتى تم تفتيش كافة
العباد ، ولما لم يظهر للصولجان من أثر ، استدار إلى مستشاريه ورجال أمنه
ونظراته نحوهم يملؤها الشك ، وأمرهم جميعاً بالسجود ، وقام بتفتيشهم بنفسه
، لكنه لم يعثر على شىء . فأمر الحراس بتفتيش دار العبادة وجس أرضياتها
وحوائطها واقتحام حجراتها ومخازنها . وبعد فترة عادوا إليه والخيبة تسبق
خطواتهم ، بعدما حولوا الدار إلى خرابة نُبشت أرضياتها وتقشرت حوائطها ،
وبدت كأنما دارت بداخلها معركة حربية خربت فيها كل ماهو مقدس وجليل .
وانفجر غضبه وتعاظم هياجه ، وظل يسب فى رجاله ومستشاريه حتى بح صوته
وانقلبت سحنته ، ثم أمرهم بإعداد موكبه للمغادرة ، لكنهم لم يتحركوا ،
فبهت من عدم امتثالهم لأمره ، فصاح فيهم مرة أخرى ، فأشاروا إلى الخارج ،
فتقدم ناظراً وإذا بالجموع الحاشدة قد غطت الميدان الشاسع ، وجحافل الأمن
تقف أمامها عاجزة . فالتفت إلى رجاله والقلق يعلو ملامحه وتمتم:
وكيف إذن الخروج .. كيف إذن الخروج ؟
وأخذ يروح جيئة وذهاباً وخطواته يعثّرها الذهول . وإذا فجأة بصوت هادر ينطلق من كافة الأنحاء والأركان ، ويتجلجل راعداً :
…. هى كانت عزبة أبوك ….
واستمر
صدى الصوت الهادر يتردد ، فسرت فى الجموع رهبة ، وأخذت الرؤوس تتلفت
والعيون تدور بحثاً عن مصدر هذا الصوت . ثم بدأت تندلع فى الحشود فوضى
واضطراب ، فقد تملك العباد ذعر وهلع لظنهم بأن هذه إشارة الهجوم لجحافل
الأمن المرابطة حولهم ، فانطلقوا فى كافة الأنحاء فارين ، وساد الهرج
والمرج الميدان الكبير ، وأخذ العباد يدوس بعضهم البعض طلباً للنجاة .
ولقد تسمر الحاكم فى مكانه عند سماعه للصوت الهادر ، ثم اندفع يهذى :
ما هذا .. ما هذا .
ثم أخذ يصيح فى هلع :
أخرجونى من هنا .. أخرجونى من هنا .
ثم التفت إلى رجاله مستنجداً :
أيكم ينقلنى لقصرى .
فقال له عفريتُ ُ من رجاله :
أنا أنقلك إليه قبل أن يصلوا إليك .
وقال له الذى عنده علم الشياطين :
أنا أنقلك إليه قبل أن يرتد إليك طرفك .. فلما وجد نفسه بقصره ، ارتعد غاضباً وصاح زاعقاً :
إننى على كل شىء قدير .
* * * *
ــ " هى كانت عزبة أبوك " .
هكذا
رددتُ لنورجان الصياح الهادر الذى سمعته كباقى العباد ، بينما هى تضمد لى
جراحى . فلقد نالنى ما نال الجميع ، وخرجت فاراً من ساحة الصلاة عارياً
أتخبط فى ذعرى ودمائى ، وتلقفتنى الجموع لتستر عورتى ، وإذا بالصوت الهادر
يتجلجل .
ولقد أطرقت نورجان ثم قالت :
ولكن أين اختفى الصولجان ؟ وما هذا الصوت ومن أين انطلق ؟ فأجبتها :
لقد انطلق من كل الاتجاهات .
فتساءلت :
ولكن كيف ؟ ومن المقصود بهذا النداء .
فنظرت لها مدهوشاً :
تقولين
من المقصود بهذا النداء ، إنه الحاكم ولا شك ، إن الصوت كان يخاطبه هو دون
جدال ، ولو أدرك العباد هذا من الوهلة الأولى ، ما كانوا فضوا بخوفهم
حشدهم الغفير ، الذى ولاشك ملأ قلب هذا الشيطان بالرعب والهلع .
وشردت نورجان لوهلة ثم قالت و كأنها تحدث نفسها :
لكن من الذى يجرؤ على مواجهة شيطان كهذا بمثل هذا النداء ؟
فرددتُ بعدها بقلب واجف :
حقاً .. من الذى يجرؤ على سرقة شيطان كهذا ، ومواجهته بمثل هذا النداء ؟ ( هى كانت عزبة أبوك ) .
* * * *
مستشار الخوف
اعتاد
دائماً على أن تختلف نواياه عن أفعاله . وعلى أن يُظهر غير ما يبطن . فهو
بحكم تدرجه فى مناصب هذا الجهاز ، يعلم تماماً بأن الفاصل بين الموت
والحياة أو بين الشقاء والنعيم ، يتوقف على تقرير … نعم .. تقرير يكتبه أحد المحيطين ليكشف فيه عن نقطة ضعف واحدة ، أو
عن كلمة نقد عارضة. ولذلك فقد درب لسانه على أن يتحدث بغير ما يمليه عليه
عقله ، ودرب ملامحه على أن تشى بغير ما يضطرم بداخل نفسه . ولقد أتقن كل
ذلك تماماً . فهو بحكم نشأته المنحطة وأصوله الوضيعة ، تعود دائماً على
لعبة الأوجه المتعددة . فلقد علمه طموحه الزائد بأن الطريق إلى القمة لا
يبدأ من عند السفح ، وإنما بالقفز على القمة مباشرة . ولذلك فإن حقيقته
البائسة كانت سفحاً لا ينبغى التطلع إليه أو إطلاع أحد عليه . فهى سره
الدفين وكهفه المحجوب . ولعل قدرته تلك على تناسى الماضى والتعايش فقط مع
الحاضر ، قد مكنته من الوصول سريعاً إلى أوساط البارزين . فكان ينقلب
ثرياً وسط الأثرياء ، وسيداً وسط الأعيان ، مثقفاً وسط
العلماء والمفكرين ، شاذاً وسط الشواذ ، سكيراً وسط المخمورين ، حشاشاً
وشماماً وسط أصحاب الأنفاس . ولذلك فسرعان ما وصل إلى غايته سريعاً حتى
أصبح شيطاناً وسط طائفة الشياطين . ولقد أتقن الشيطنة حتى اختصه الحاكم
بمنصب مستشار الأمن .
أيقن
منذ البداية أن الأمن الذى ينشده الحاكم ليس إلا أمنه هو وليس أمن الشعب .
لذا وطد عزمه تماماً على امتلاك ناصية ذلك الجبار من خلال هاجس الأمن .
فتحت مسمى الأمن يمكنه أن يصول ويجول فى هذا البلد طولاً وعرضاً ، فيتحكم
فى العباد ، ويمتلك الرقاب ، وينشر الخوف أو يمنح الأمان . ولكنه لم يكن
مثل أولئك الذين سبقوه فى هذا المنصب ومارسوا الشيطنة بسذاجة ، وأخلصوا
للحاكم فكان إخلاصهم وبالاً عليهم . بل لقد أيقن منذ اللحظة الأولى بأن
هذا الجبار إذا اطمأن غدر . ولذلك كان لابد من إعاشته فى قلق دائم وخوف
مزمن لايستطيع منهما فكاكاً . ولكنه كان يدرك بأن هذا القلق لو تحول إلى
ذعر أو هلع فإن فيه نهايته . فشرع منذ بداية توليه لهذا المنصب فى إعادة
رصد كافة تنظيمات الجائرين، ومراقبة أحوالها وتحركاتها ، ولكنه لم يكن
يبادر بإماطة اللثام عنها ، بل كان على العكس يضطلع فى الخفاء بتمويلها
وتسليحها بقدر محسوب . فإذا ما بدأت تظهر على إحداها بعض مظاهر القوة غير
المأمونة ، فإنه سرعان ما يدفع ببعض عملائه السريين لإحداث انشقاقٍ داخل
هذا التنظيم ، أو تدبير صراعٍ على المناصب القيادية بين أعضائه . فإن صمد
التنظيم أمام كل ذلك ، فسرعان ما يدبر لقتل قائده أو خطفه وحبسه لحين
الحاجة إليه ، أو إلصاق تهمة مشينة به تنال من عرضه وشرفه . وبذلك يضمن
بقاء كافة التنظيمات ، ولكن دون خطورة تهدد أمن الحاكم ، بما يمكن أن يهدد
من حظوته لديه .
ولكنه
لم يكن يكتفى بذلك . فعقليته الشيطانية كانت مصنعاً لإنتاج وإنشاء
التنظيمات الوهمية التى لا وجود لها , والتى يتحين التوقيت المناسب لكى
يدفع بأحدها إلى أرض الواقع . فينسب إليه الدسائس والمؤامرات ومحاولات
الإطاحة بالحاكم . بل سرعان ما ينشر فى أنحاء البلد منشورات تحمل أفكار
هذا التنظيم وتهديداته لرموز الحكم ، ثم يكلف بعض رجاله باغتيال أحد
المقربين الذى يضمر له هو شخصياً العداء لعلمه بطمعه فى منصبه ، ثم ينسب
أمر اغتياله إلى ذلك التنظيم الوهمى . وآنذاك يزداد هلع الحاكم فيستدعيه
ليصب عليه جام غضبه ، ولكنه سرعان ما يكاشفه بأن كافة الأمور تحت السيطرة،
ويرجوه التكرم بمنحه مهلة قصيرة ليقدم له هؤلاء الخونة وهم صاغرون . وخلال
هذه المهلة يبدأ فى تكليف رجاله بإلقاء القبض على عدة أشخاص يختارهم
بعناية ، ويأمر بتعريضهم لألوان من التعذيب الوحشى ، الذى ترافقه عملية
تلقين لأفكار هذا التنظيم ، وتدريب على مجموعة من الاعترافات الكاملة
والمتناسقة . وما إن يطمأن إلى اكتمال كافة أركان هذا التنظيم ، حتى يعلن
للحاكم عن نجاحه فى إلقاء القبض على كافة أعضائه . وبذلك كان يصطاد هدفين
بضربة واحدة . فمن جهة يفوز بالحظوة والمكانة لدى الحاكم ، ومن جهة أخرى
يضمن استمرار بقاء تنظيمات الجائرين الحقيقية بتهديداتها التى تذكى نار
القلق لدى الحاكم ، فيأمن غدره وتقلبه .
ولكنه
اليوم يشعر بأن عقليته الشيطانية قد أصابها الشلل . فقد دهمته مصيبتان فى
يوم واحد ، بوغت بهما ، فكأنما ليس له عيون وآذان ترصد حركة الذرة فى هذا
البلد . فمن هذا الذى جرؤ على سرقة ذلك الصولجان ؟ ومن ذلك الذى أطلق هذا
الصياح الهادر فزلزل الميدان الفسيح ؟ .. حقاً إنه يشعر بالامتنان لذلك
الصوت لأنه جنبه مواجهة دامية مع تلك الحشود لتفريقها ، ولكنه فى الوقت
نفسه مطالب أمام الحاكم بمعرفة كنه ذلك الصوت ، وإعادة ذلك الصولجان
اللعين . فهل يمارس مع هذا الأمر أيضاً خدعة التنظيمات الوهمية ؟ ولكن
ماذا لو انطلق الصوت بعد ذلك مرة أخرى ، أو ظهر الصولجان ووقع فى يد
الحاكم واكتشف الخدعة . ولكن مهلاً .. ماذا لو كان هذا الأمر خدعة من
تدبير الحاكم نفسه ، ولكن كيف يمكن معرفة ذلك ؟ إنه لن يهدأ منذ الآن ،
سيطلق عيونه وآذانه فى كل شبر . سيراقب كافة المستشارين والمقربين
والمنتفعين والشياطين والصالحين والجائرين والسناكيح . سيراقب حتى أخلص
رجاله وأصدق أعوانه . فلقد أصبح استمرار انتمائه إلى طائفة الشياطين أمراً
مشكوكاً فيه بعد هذه الكارثة . وأصبح منصبه مهدداً بالزوال . وهو لن ينحدر
إلى درك السناكيح مرة أخرى ، فحياته لم تصبح لها قيمة إلا وسط الشياطين ،
وهو يعلم أنه بذلك قد خسر الآخرة ــ إذا كان لها وجود كما يدعى السناكيح ــ ولكنه لن يسمح أبداً بأن يخسر ولو ذرة من هذه الدنيا .
* * * *
المستشار الفاجر
لم
يكن شذوذه أمراً مشيناً يشعره بالعار والخزى والهوان . بل كان يفخر بأنه
رغم شذوذه ارتقى إلى هذا المنصب السامى ، فى ب