رائد فضاء ينتقل من السير على القمر إلى رسمه
*****
متحف سميثسونيان في واشنطن يعرض أعماله في الذكرى الـ40 لهبوط الإنسان على سطحه
أساليب «بين» تعكس الجانب العلمي من شخصيته حيث يبني نموذجا مصغرا من كل مشهد يرسمه كما يتميز بقدرته على تحديد زوايا الضوء ومواقع الأشخاص بدقة رياضية («نيويورك تايمز»)
هوستون: جيمس مكينلي*
مرت قرابة 40 عاما منذ أن سار آلان إل. بين، على سطح القمر كأحد رواد الفضاء في إطار برنامج «أبولو»، ومع ذلك فإنه ما زال يصارع مع الخبرة التي اكتسبها في هذا المجال بصورة يومية، في محاولة لإعادة عرض ما شاهده وشعر به هو ورواد الفضاء الآخرون عبر الرسم. منذ أمد بعيد، سعى «بين» بجد لأن يصبح رساما. وفي هذا الصدد، وصف بين نفسه بأنه بطيء التعلم. ومن أجل تحقيق هذا الهدف كان عليه التخلي عن المنظور المفرط في العقلانية في التعرف على العالم الذي تعلمه خلال عمله كطيار اختبار ومهندس في سلاح البحرية. وحرص بين على تدريب نفسه على رؤية الأشياء ليس كما تبدو وإنما حسبما يشعر بها، وعلى ترجمة المشاعر إلى ألوان، ومقاومة نزعاته العلمية. وقال بين: «عندما تركت الإدارة الوطنية للملاحة الفضائية والفضاء (المعروفة اختصارا باسم وكالة ناسا)، عقدت العزم على ألا أكون رائد فضاء تحول إلى الرسم، وإنما فنان اعتاد العمل كرائد فضاء. ويستغرق الأمر بعض الوقت كي يتمكن المرء من تبديل مشاعر قلبه». بصورة عامة، أغفل النقاد توجيه اهتمام إلى بين، 77 عاما، وإن كان قد تمكن من بناء قاعدة معجبين به، عبر تناقل أنباء أعماله شفاهية، بين مجموعة من جامعي الأعمال الفنية الذين دفعوا ما يصل إلى 175 ألف دولار مقابل أحد أعماله. ويقام هذا الشهر في متحف سميثسونيان للجو والفضاء في واشنطن معرضا يضم 45 لوحة علاوة على إصدار كتاب عن أعماله الفنية هذه. وتراود بين آمال كبرى في أن تجتذب الذكرى الـ40 لهبوط أول إنسان على سطح القمر النقاد للنظر إلى أعماله. جدير بالذكر أن غالبية رواد الفضاء الـ12 الذين ساروا على سطح القمر عملوا لاحقا بصناعة الفضاء، اعتمادا على خبرتهم التي اكتسبوها داخل وكالة «ناسا». إلا أن بين احتل دوما مكانة متميزة بين أقرانه من الطيارين المقاتلين الذين تحولوا إلى العمل كرواد فضاء. بوجه عام، اشتهر رواد الفضاء العاملون تحت مظلة برنامج «أبولو» بهوايات مثل الصيد وقيادة السيارات الرياضية والغولف والتزلج على الجليد. أما بين، فكان الوحيد الذي كان يدرس الفن، وكان يمارس الرسم للاسترخاء بين مهمة وأخرى. شرع بين في ممارسة الرسم عام 1962 أثناء عمله طيار اختبار في سلاح البحرية، ففي لحظة ما، راودته رغبة مفاجئة لخوض دورة مسائية في الرسم بالألوان المائية في سانت ماريز كوليدج أوف ماريلاند، بالقرب من منطقة تمركزه. وعلق بين على هذا الأمر بقوله: «لم أكن جيدا للغاية، لكن راق الأمر لي». في أواخر السبعينات ـ بعد فترة طويلة من زيارته القمر مع أعضاء فريق «أبولو 12» ـ أدرك بين أنه لا يكن ميلا كبيرا تجاه الأزهار والفواكه كموضوعات للرسم. وأوضح بين: «بدأ أصدقائي من رواد الفضاء طرح التساؤلات علي قائلين: بين، لماذا تتمسك برسم الأرض؟ أنت الفنان الوحيد الذي ذهب لأماكن أخرى بخلاف الأرض، ومع ذلك تستمر في رسم الأرض». وأضاف: «خلال إحدى عطلات نهاية الأسبوع لم يكن لدي أية زهور لرسمها، وراودتني فكرة رسم صورة بيت كونراد فوق سطح القمر. وعليه، شرعت في رسمه وبعد قرابة ساعتين، تولد لدي اهتمام بهذه الموضوعات. أعشق البذلة الفضائية. وأحب المركبات الفضائية. ولم أحب في الواقع النباتات بدرجة كبيرة».
وعليه، شرع بين في رسم المهام المتجهة إلى القمر، واعتمد في رسوماته على صور وشرائط مصورة وقصص رواد الفضاء الآخرين وتجربته الشخصية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1969، عندما قضى هو وكونراد سبع ساعات و45 دقيقة على سطح القمر. عام 1981، وبعد 18 عاما من عمله رائدا للفضاء، استقال بين لامتهان الرسم كعمل لكل الوقت. وكان لهذا القرار وقع المفاجأة على كثيرين داخل وكالة «ناسا»، خاصة أنه كان واحدا من النجوم اللامعين داخل الوكالة، حيث قضى في الفضاء 1.671 ساعة وتولى قيادة مهمة «سكاي لاب». إلا أن بين أوضح أنه توافر لدى الوكالة رواد فضاء أصغر سنا يتميزون بالقدرة على التعامل مع المركبات الفضائية الحديثة، وبالتالي أصبح قادرا على تلبية رغبته في ممارسة الرسم. في الثمانينات، أدرك بين أن ليست لديه رغبة في رسم القمر تماما مثلما يبدو ـ عبارة عن سطح تغلب عليه الألوان الرمادي والأسود والأبيض، بينما تبدو الأرض من على سطحه أشبه بقطعة من المرمر الأزرق والأبيض. ولذلك، سمح بين لألوان لا يمكن تصور وجودها على القمر بالزحف إلى داخل رسوماته. في هذا السياق، أعرب بين عن اعتقاده بأن: «الناس يتحدثون عن الطبيعة باعتبارها جميلة، وهي كذلك حقا، لكنها تفتقر إلى تناغم اللوحات المرسومة. لو رسم مونيه ما رأى، ما كنا لنحتفي به اليوم. وإنما رسم قليلا مما رأى، ثم أكمل الرسم في معظمه على النحو الذي شعر به». وعلى الرغم من ذلك، فلا تزال أساليب بين تعكس الجانب العلمي من شخصيته، حيث يبني نموذجا مصغرا من كل مشهد يرسمه، ويستخدم ضوء كليغي في محاكاة الشمس والحصول على الظلال بصورة صحيحة. كما يتميز بقدرته على تحديد زوايا الضوء ومواقع الأشخاص بدقة رياضية. والواضح أن لديه رغبة قوية في ضمان صحة ودقة التفاصيل. وتحكي كل لوحة جزءا من القصة التي ليس بوسع أحد سواه ورواد الفضاء الآخرين ممن ساروا على سطح القمر سرد تفاصيلها. وقال بين، وهو يشير إلى حائط يحمل رسوماته داخل الاستوديو الخاص به: «هذا هو ما يفعله البشر عندما يدخلون للمرة الأولى عالما آخر». في إحدى الرسومات، يظهر كونراد وهو يضرب كعب قدميه، بينما يحاول جاك شميت في صورة أخرى التزلج على تل من الغبار على سطح القمر. كما تضم اللوحات تصويرا ذاتيا، حيث يرفع بين يديه للتعبير عن الاحتفال، بينما تسطع أشعة الشمس الذهبية من الزجاج الأمامي للمركبة الفضائية. وفي تصوير ذاتي آخر، يتخذ بين وضعا ينم عن التباهي والتفاخر. وفي شرحه للصورة، قال بين: «إنها تكشف عن توجه مغرور. أعتقد أنه لا بد أن يكون المرء مغرورا بدرجة كبيرة كي يقتنع أن باستطاعته السفر عبر مسافة 240 ألف ميل داخل هذه المركبات الصغيرة الهشة والعودة حيا». الملاحظ أن بين يعمل ببطء، حيث لا يتجاوز عدد الرسومات التي ينجزها سنويا سبع رسومات. بصورة عامة، أنجز بين لوحته الـ168، ويأمل في أن يطول عمره بما يكفي لإنجاز 200 عمل فني. ويعمل بين داخل منزله المتواضع في المكان الذي عادة ما توجد به غرفة المعيشة، مرتديا مئزرا من قماش قطني متين يحمل شعار «أبولو 12». ويعيش بين مع زوجته ليزلي، وكلبهما العجوز، بوف ووف. ولدى بين ابنان بالغان من زيجة سابقة. من جهة أخرى، يتميز بين بنظرة فلسفية حيال استكشاف الفضاء. وقد افترض هو والرواد الآخرون العاملون في ظل برنامج «أبولو» أن الخطوة التالية ستكون بناء محطة على القمر، وبعد ذلك توجيه مهمة إلى المريخ، ثم إلى ما أبعد من ذلك. وأوضح بين أن التاريخ يمضي على نحو متقطع، حيث مر 128 عاما بين اكتشاف كولومبوس أميركا وظهور الآباء الحجاج. هذا هو النحو الذي تسير عليه الأمور. لا أعتقد، من وجهة نظري، أننا سنعود إلى القمر قريبا». وينصب الجزء الأكبر من قلق بين هذه الأيام على التراث الذي سيخلفه من بعده كرسام، وليس على مستقبل برنامج الفضاء. ويأمل في أن يقيم معرضا في نيويورك أو أي عاصمة فنية أخرى. وأكد أنه: «كل هدفي كان صنع هذه الرسومات، واعتقدت أن زوجتي، ليزلي، وابنتي، آمي، ستحاولان يوما ما جذب الأنظار إليها داخل عالم الفن. ثم أدركت أن السبيل الأمثل لجذب الأنظار إليها تكمن في فترة وجودي على قيد الحياة وبينما يرغب الناس في الحديث إلي عنها».
* خدمة «نيويورك تايمز»