يدخل علينا شهر رمضان المبارك ليذكرنا بالأماجد الذين عاشوا فى مصر، ونشروا فكرهم فيها ومنها إلى جنبات الدنيا.. ومن هؤلاء الإمام محمد بن إدريس الشافعى (رضى الله عنه)، الذى نشأ فى مكة وتفقه على يد فقهائها - وكان غاية فى الفصاحة والبلاغة - بعدها رحل إلى المدينة ليتعلم على يد الإمام مالك، وسافر إلى العراق مرتين، ودرس فيها الفقه الحنفى، كما التقى بعدد من أهل الحديث وتعلم منهم، وبعد أسفار طويلة، استقر الشافعى فى مصر، بعدما ذهب إليها من بغداد عام ١٩٩هـ مع أميرها العباس بن عبدالله بن العباس.. وفى مصر شرع فى ترسيخ أسس مذهبه الجديد ومدرسته الفقهية.
وقد تميزت شخصية الإمام الشافعى بالزهد.. وليسمح لى القارئ الكريم بأن أقتطف له بعضاً من هذه المعانى التى وردت فى الكتاب المهم «تربية البنين» للأستاذ على فكرى: لما كان الشافعى صبياً أرسله والده «إدريس» إلى الكُتّاب، فكان دائماً على مقربة من المعلم وقت إلقاء الدرس، وكان يحفظ كل ما يسمعه جيداً، حتى إذا ما ذهب المعلم لقضاء حاجته، أخذ الشافعى التلاميذ وحفظهم ما حفظه.. فأحبه زملاؤه، والتفوا حوله ورفعوه فوقهم، وأطاعوا أمره، لذلك كان الأول فى مكتبه.
ولما رأى المعلم اجتهاده ونجابته اعتبره بدون مصروفات «مجاناً». وكان الشافعى ميالاً جداً للألعاب الرياضية، فكان يأخذ الصبيان إلى ساحة «مكة المكرمة» وضواحيها، ويلعب معهم هناك مختلف الألعاب التى كانت مشهورة فى ذلك الزمان، ولما بلغ من العمر تسع سنوات كان قد أتم حفظ القرآن كله، فترك الكُتّاب، ودخل المسجد الحرام وأخذ يجالس العلماء، ويحفظ الحديث وعلوم القرآن وغيرها. وكان من شدة فقره يجمع العظام ليكتب عليها مذكراته، وكان يذهب إلى دواوين الحكومة ومصالحها ويلتقط قصاصات القراطيس من تحت أقدام الكتبة، ليكتب على ظهرها، وفى المسافات الخالية فيها، المذكرات التى درسها.. وكان يقول:
العلم صيد والكتابة قيده.. قيّد صيودك بالحبال الواثقة.. فمن الحماقة أن تصيد غزالة.. وتفكها بين الخلائق طالقة.
وكان - رضى الله عنه - يرى أن من أهم أسباب الفلاح فى العلم الفقر والتقشف، ولذلك كان يقول: ما أفلح فى العلم إلا من طلبه فى القلة.. ولما كثرت العظام والقصاصات عنده وضاق بها صندوقه وحجرته، صمم على أن يحفظ ما جمعه فيها عن ظهر قلب، ويستغنى عنها، وفعلاً حبس نفسه بالحجرة، وأخذ يحفظ ما كتبه على العظام والقصاصات بعزيمة صادقة، حتى أتم حفظها واستغنى عنها وخرج من الحجرة وهو يقول:
«علمى معى حيثما يمّمت ينفعنى.. صدرى وعاء له، لا بطن صندوقى.. إن كنت فى البيت كان العلم فيه معى.. أو كنت فى السوق كان العلم فى السوق».
وكان للشافعى فقه قديم وفقه جديد، فالقديم هو ما كتبه فى الحجاز والعراق، والجديد ما كتبه فى السنوات الأربع التى أقامها فى مصر خلال الفترة من (١٩٩ إلى ٢٠٤هـ)، حيث غير كثيراً من اجتهاداته، وأعاد تصنيف كتبه.
والتف حوله عدد من تلامذته المصريين، فحملوا عنه هذه الاجتهادات، ورووا عنه تلك الكتب، ومذهبه الجديد فى مصر يتمثل فى كتاب «الأم»، وكتاب «الرسالة الجديدة» وغيرهما.
ويرى الإمام أحمد بن حنبل أن الكتب المصرية للشافعى أفضل من الكتب التى كتبها فى العراق، لأن الكتب التى وضعها فى مصر أحكمها.. يمتاز الشافعى عن غيره من الأئمة، بأنه قام بتدوين كتب المذهب بنفسه، وقام فى مصر بإعادة تنقيح كتب المذهب، فمقلدوه بمصر كثر..
تجدر الإشارة إلى أن صلاح الدين الأيوبى عندما جاء إلى مصر - وكان كردياً شافعياً - تبنى المذهب وعين القضاة منه - ولولاه لانقرض مذهب الشافعى - فعاد فقهه إلى أفضل ما كان وانتشر وقتذاك فى الشام ومصر والحجاز واليمن..
ومن اليمن إلى جنوب شرق آسيا، كان الشافعى - الذى صار إماماً فى الاجتهاد والإيمان والتقوى - قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، والثلث الثانى يصلى، والثلث الثالث ينام. وقيل إنه كان لا يقرأ قرآناً بالليل إلا فى صلاة، وكان للشافعى فى رمضان ستون ختمة، يقرؤها فى غير الصلاة، ومات - رضى الله عنه - بعد رحلة عطاء كبيرة وعمره ٥٤ عاماً فقط، ودُفن بمصر.. ومن ثم قام تلامذته بنشر فقهه.