في مثل هذه الأيام، كلنا يذكر كيف كان السباق يحتدم بين الحزب الوطني والإخوان المسلمين على توزيع "شنطة رمضان" واستغلال آلام الفقراء، وكلنا كان يشاهد كيف يتم إذلال المصريين على شاشات التلفزيون وإهانة كرامتهم وقتلهم في طوابير الحصول "شنطة رمضان" أو كسوة العيد.
هذا العام يبدو أن السباق سيزداد اشتعالاً بدخول متصارعين جدد، وإصرار حكومة الدكتور عصام شرف على تغييب واحد من أهم المبادئ التي قامت من أجلها الثورة وهو العدالة الاجتماعية والانحياز للفقراء.. وتدل كل المؤشرات على أن توزيع "شنطة رمضان"هذا العام سيكون أوسع نطاقاً وأكثر كثافة نظراً للصراع المحتدم بين قوى سياسية متعددة ومحاولات كل طرف استغلال الفقراء واستجدائهم والتأثير في اتجاهاتهم قبيل الانتخابات البرلمانية.
هذا العام لا تقتصر الساحة على الإخوان والحزب الوطني بل هناك المجلس العسكري الذي بدأ مبكراً والأحزاب الليبرالية الجديدة فضلاً عن "شنطة" السلفيين المغموسة في السياسة وألاعيبها.
دعونا نتفق بداية على أن السياسة لا تحسم معركة انتخابية وحتى في أوج العنفوان الثوري صوت الناس للتعديلات الدستورية لأنها خاطبت روح التدين المتأصلة في نفوس المصريين جميعاً، ولعل استدعاء المادة الثانية في الدعاية لنعم خير شاهد على ذلك.. لذا أحسب أن "شنطة رمضان" هي البداية الفعلية للدعاية للانتخابات البرلمانية الوشيكة وأظن أنها بداية غير مبشرة وغير سارة لانتخابات لن يعلو فيها إلا صوت المال، تُباع فيها الأصوات، وتُستغل أوجاع الفقراء، لاسيما وأن قانون الانتخابات الذي يصر عليه المجلس العسكري يبقي على كافة الأشكال البدائية التي كانت سائدة في انتخابات النظام البائد، ويتيح للعصبيات القبلية والعائلية وسطوة رأس المال ورجال الأعمال التسلل إلى البرلمان عبر الترشح الفردي وباستغلال نفس الرشى الانتخابية كشنطة رمضان وكسوة العيد.
أزعم أن الليبراليين والأحزاب الجديدة لن تقوى على مجاراة الإخوان والسلفيين في توزيع "شنطة رمضان" وكسوة العيد، وأظن أن الساحة ستفرغ لنفس اللاعبين القدامى من العهد السابق .. رجال الأعمال والتجار والعصبيات والعائلات ينافسهم أو ربما يتحالف معهم الإخوان المسلمين والسلفيين الذين يقدمون "شنطة" بلون سياسي زاعق ومزعج ومندفع كالذي رأيناه مع نزولهم بحر السياسة بعد الثورة.
أكثر ما يزعجني في هذا النوع من الدعاية الفجة المسفة أن بعض مشاهدها يذكرك بقوافل الإغاثة للدول المنكوبة، حشود من الفقراء والعجزة والبائسين تقف منكسرة مهزومة بالفقر والمرض في انتظار أن توزع عليها شنطة غذاء تحميها من الموت جوعاً.
إن تكرار مشاهد تزاحم الفقراء وتدافعهم للحصول على "شنطة رمضان" كما كان يحدث في العهد البائد سيكون أمراً مخزياً ومهيناً لكرامة مصر الثورة قبل كرامة هؤلاء الفقراء، فالثورة التي رفعت شعار ارفع رأسك فوق أنت مصري ينبغي عليها أن تغير حياه المصريين من متسولين ينتظرون شنطة اللاهثين وراء مكاسب سياسية إلى مواطنين رؤوسهم مرفوعة لا يستجدون طعامهم في الساحات الشعبية أو أمام مقار الجمعيات الشرعية.
ربما يقول قائل: وما الضرر في أن يؤدي الإخوان أو السلفيين أو الأحزاب الليبرالية الجديدة دوراً اجتماعياً في مناسبة مهمة كشهر رمضان؟ وهنا أقول أن الأحزاب والجماعات السياسية ليست فاعل خير وليس من مسئوليتها جمع الزكاة بل هي مؤسسات سياسية عليها أن تقدم أفكاراً ورؤى لسياسات تعلم المصريين الصيد بدلا من أن تعودوهم على التسول والاستجداء.
الحزب السياسي ليس مطلوباً منه أن يقدم شنطة فيها علبة زيت وكيلو أرز وبعض التمر بل المطلوب هو النهوض بوعي الناس ومخاطبة عقولهم قبل بطونهم، وطالما أن كثير من مصادر تمويل "شنطة رمضان" يأتي من أموال الزكاة فلا يجوز استغلالها لأغراض السياسة والترويج لجماعات وأحزاب سياسية مهما كانت دعاوى هذه الجماعات.
وأقول أيضاً: إذا كانت العبرة بالنوايا فإن كل "شنطة" تحتوي على هوية موزعها هي نوع الرشوة السياسية واستغلال فاضح لأموال الزكاة ومساهمات المحسنين، أما من يعطي بنية نفع المحتاجين والتقرب إلى الله تعالى، فعليه أن يخفي هويته خاصة طالما أن مصدر تمويل "الشنطة" من أموال الزكاة، ذلك إذا كان حريصاً بصدق على درأ شبهة الاستغلال السيئ لفريضة ربانية ومشاركة إنسانية لتحقيق مكاسب سياسية والتقرب إلى الناس والتلاعب باحتياجات الفقراء.
وأخيراً لن يحدث التحول نحو انتخابات حرة ونزيهة ما لم نتخلص من جرثومة نائب وناخب الخدمات، ومع الاعتراف بأن القضاء على هذه الجرثومة يحتاج إلى بعض الصبر والوقت، فمن الضروري القضاء على الرشوة الانتخابية ومحاولات التأثير على الناس بشنطة رمضان أو كسوة العيد وغيرها من وسائل الدعم الإنساني التي انتقلت من ساحة العمل الاجتماعي الخيري إلى ساحة السياسة بأكاذيبها ومفاسدها ومطامعها