تعتبر المرحلة الانتقالية هى الأصعب فى تاريخ أى بلد ينتقل من الاستبداد إلى الديمقراطية، وهى المرحلة التى يعنى الفشل فيها العودة لنظام شبيه بالنظام الاستبدادى السابق بصورة أفضل قليلا أو أسوأ، فى حين أن النجاح سيعنى الانتقال نحو نظام ديمقراطى يلبى احتياجات المواطنين وطموحاتهم.
والحقيقة أن الثورة المصرية وضعت نفسها على أول طريق النجاح حين أسقطت النظام وحافظت على الدولة، وبدا الحديث عن أنها ثورة ناقصة لأنها لم تهدم الدولة وتحل الجيش والقضاء وباقى المؤسسات خارج أى سياق نجاح، لأنه يضع مصر مع تجارب استثنائية هدمت الدولة ولم تجلب الديمقراطية لشعوبها (نماذج الثورات الفرنسية والشيوعية والإيرانية) فى حين أن كل تجارب التغيير التى شهدها العالم فى أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية والبرتغال وإسبانيا وتركيا لم تفكك الدولة إنما أصلحتها وطهرتها من العناصر الفاسدة.
والحقيقة أن مصر اختارت الطريق الصحيح بأن أسقطت النظام ولم تسقط الدولة، ولكنها وقفت فى منتصف الطريق ولم تقم بأى إصلاحات تذكر على أداء مؤسساتها العامة، ولم تقدم الحكومة ولا المجلس الأعلى أى رؤية متماسكة تساعد على عبور المرحلة الانتقالية، ودخلت البلاد فى خطرين من الصعب على حراس المرحلة الانتقالية تحملهما ما لم يتم طرح مشروع سياسى محدد المعالم لتطهير الأمن وأجهزة الإدارة وإعادة بنائها على أسس جديدة.
إن الخطر الأول هو الضغوط غير المحسوبة التى يقوم بها بعض شباب الثورة ضد أداء المجلس العسكرى، معتمدين على تيار واسع فى الشارع وضع سقفاً مرتفعاً لتوقعاته بعد الثورة ولم ير أى تغير يذكر فى معيشته، بل وجد أن بعض رموز النظام السابق مازالوا جزءاً من «الحوار الوطنى»، وبعض ضباط الشرطة المتورطين تطوعاً فى قتل المتظاهرين وتعذيب الناس يُكرّمون فى الإسكندرية، ومازال رؤساء الجامعات الذين أدخلوا البلطجية إلى حرم الجامعة يُدْعون فى الحوارات السياسية فى حين أن المطلوب محاسبتهم على جرائم جنائية وليس فقط سياسية.
والحقيقة أن الضغوط الشعبية من أجل محاسبة رموز النظام السابق ليست خطرا على الثورة فى حد ذاتها بل على العكس يمكن أن تكون فى صالحها فى حال إذا كانت جزءًا من مشروع سياسى قادر على تقديم رؤية لبناء مصر الجديدة وترجمتها إلى واقع يشعر به الناس.
إن المسار الاحتجاجى فى مصر لعب دوراً تاريخياً فى صناعة الثورة لأن مصر كانت تعيش فى ظل نظام استبدادى، أما الآن فإن التعامل مع الاحتجاج وكأننا ما زلنا محكومين بنفس النظام المستبد السابق أمر فى غاية الخطورة لأننا فى الحقيقة نعيش فى ظل «لا نظام» وحالة فراغ سلطة، ونعانى من غياب الرؤية والتخبط والعشوائية.
ومن هنا يصبح الضغط على المجلس الأعلى والحكومة أمراً مشروعاً، بل توجيه رسائل مليونية إلى فلول النظام السابق بأن الشعب مازال مستيقظاً وقادراً على حماية ثورته أمراً أيضا مطلوباً، ولكن الخطر الأكبر هو الضغط بغرض هدم ما هو «ملصم»، وهنا ستكون الكارثة الكبرى لأن الهدم هنا لن يطال نظاماً كما جرى فى السابق، إنما هو هدم ما تبقى من الدولة لصالح الفراغ الكامل والفوضى العارمة، وهذه كارثة حقيقية.
هل يعقل أن يطالب البعض على الـ«فيس بوك» بانتخاب قادة الفرق والكتائب فى الجيش المصرى كدليل على الديمقراطية، وهو أمر لم يحدث فى أى جيش فى العالم من السوفيتى إلى الأمريكى ومن البوروندى إلى الصومالى؟ وهى دعوة هدفها تفكيك العمود الأخير الباقى فى الدولة المصرية التى خرّبها مبارك.
إن التظاهر غدا يجب أن يكون بغرض الضغط على النظام الانتقالى لا إسقاطه، لأن البديل هو الفراغ والفوضى، خاصة أننا لم نمتلك تنظيماً ثورياً أو زعيماً ملهماً على الطريقة الإيرانية أو كوادر مدربة قادرة على أن تحل مكان من فى أيديهم القرار الآن.
إن ضغوط بعض الثوار بغرض هدم ما تبقى من الدولة سيفتح الباب واسعا أمام الخطر الثانى، وهو ضغوط بقايا النظام السابق من أجل الانقضاض على الثورة مدعومين من تيار الاستقرار الذى يشعر بأن ظروفه المعيشية لم تتحسن، ومعظمهم جزء من ٣٠ مليون مواطن بقوا فى بيوتهم أثناء الثورة، خاصة فى الريف وفى كثير من مدن الصعيد، دون أن يعنى ذلك أنهم متخاذلون أو جزء من النظام السابق إنما مثلهم مثل كل تجارب التغيير فى العالم التى كانت الأغلبية الصامتة تنتظر ولا تشارك.
إن قيم «تيار الاستقرار» وطموحاته البسيطة لا تلبيها بالضرورة مطالب شباب الثورة، فبعضهم لا يرتاح إلى انتقال الثورة من التحرير إلى التليفزيون، والبعض الآخر لا يتقبل أن يقود البلاد شباب فى عمر أبنائه، وآخرون يشعرون بأنهم متهمون من قِبَل الشعب بسبب الثوار، خاصة شرفاء الشرطة.
إن الخطر على مصر ليس فى تظاهرات الناس التى هى حق لا يجب التنازل عنه، ولا فى وجود تيار الاستقرار الممتد داخل مؤسسات الدولة وخارجها، إنما فى إحساس كل طرف أن نشاط الطرف الآخر ينتقص من حقوقه ومطالبه، فالثوار ينظرون بريبة لأداء مؤسسات الدولة، ويتظاهرون ضد بطء الإصلاحات، فى حين أن التيار الآخر يرى فى التظاهر تعطيلاً لمصالح البلد، حتى أصبح هناك انقسام فى تعامل الشعب المصرى مع «مليونيات التحرير».
لابد أن نعود إلى قيم الثورة التى يجب ألا يحتكرها أحد، ويجب أن تقدم رسالة طمأنة لكل مواطن مصرى بأن هدف الثورة إصلاح أحوال البلاد والعباد، وعدم الانتقام من أحد، إنما محاكمة صارمة لكل رموز الفساد والاستبداد، والحفاظ على الدولة فى مواجهه الفراغ والفوضى، ورفض تفصيل نظام ديمقراطى على مقاس أى تيار سياسى، فيجب عدم تأجيل الانتخابات عاماً (على الأكثر شهراً أو شهرين) ولابد من وجود مرجعية دستورية تحكم عمل اللجنة التى سينتخبها البرلمان المقبل، وهى خطوة كان يجب على المجلس الأعلى للقوات المسلحة القيام بها بديلا عن الاستفتاء والإعلان الدستورى، وبما أنها لم تحدث فيجب عدم التراجع عن الآلية التى اختارها الشعب إنما دعمها بمجموعة من المواد فوق الدستورية التى تضمن عدم احتكار أى من القوى السياسية لمواد الدستور المقبل.
إن كل تجارب التحول قامت فيها القوى السياسية أولا بالتوافق على إطار قانونى ودستورى تجرى على ضوئه الانتخابات، على عكس مصر التى أنيط لمتنافسين فى انتخابات تشريعية أن يصنعوا هذا التوافق وهى مخاطرة غير مضمونة العواقب، وكان يمكن التوافق على الدستور أولا بضمانة من الجيش بدلا من تعميق الاستقطاب فى المجتمع المصرى بصورة وضعتنا أمام خطرين حقيقيين: أولهما هو الفوضى والفراغ، والثانى هو مرشح الأمن والأمان الذى لا نراه.
لا بديل إذن عن مواجهه كلا الخطرين.