بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
خير المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد :
فقد شرع الله الزواج لحكم ومقاصد متعددة ، وكان من أعظم تلك الحكم والمقاصد ما ذكره في قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [سورة الروم : 21 ]. فالسكينة والرحمة والمودة من أعظم مقاصد النكاح . وفي السنوات الأخيرة ظهر ما يسميه الناس : ( زواج المسيار ) وصورته المعروفة : أنه زواج مستوفٍ الشروط والأركان ، ولكن تتنازل الزوجة عن بعض حقوقها الشرعية باختيارها ورضاها مثل النفقة عليها والمبيت عندها . وكان من أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا النوع من الزواج : 1- كثرة عدد العوانس والمطلقات والأرامل وصواحب الظروف الخاصة . 2- رفض كثير من الزوجات فكرة التعدد ، فيضطر الزوج إلى هذه الطريقة حتى لا تعلم زوجته الأولى بزواجه . 3- رغبة بعض الرجال الإعفاف والحصول على المتعة الحلال مع ما يتوافق وظروفهم الخاصة . 4- تهرّب بعض الرجال من مسؤوليات الزواج وتكاليفه ، ويتضح ذلك في أن نسبة كبيرة ممن يبحث عن هذا الزواج هم من الشباب صغار السن . ومما تقدم يعلم أن موضوع زواج المسيار من الموضوعات الهامة التي برزت في السنوات الأخيرة وهي جديرة بالدراسة والتحليل ؛ ذلك أنه يرتبط بلبنة المجتمع – الأسرة المسلمة – ؛ أساس صلاحه ، ومكمن العزة والقوة فيه . وهذا البحث هو مادة موضوعة للمناقشة والحوار من العلماء والمختصين لمزيد من إلقاءالضوء حوله ووضع الضوابط التي تحد من الوقوع في المفاسد الناتجة عنه . وقد جاء هذا البحث في عدد من المطالب : المطلب الأول : التعريف بزواج المسيار . المطلب الثاني : الفرق بينه وبين غيره من الأنكحة . المطلب الثالث : التكييف الفقهي . المطلب الرابع : الخلاف الفقهي في زواج المسيار . المطلب الأول : تعريف المسيار . السير في لغة العرب هو : المضي في الأرض . تقول العرب : ( سار الرجل يسير سيراً ، وتسياراً ومسيرة وسيرورة إذا ذهب والتسيار تفعال من السير ). وأما لفظة مسيار فذهب بعض الباحثين إلى أنها : صيغة مبالغة على وزن مفعال ، يوصف بها الرجل كثير السير ، تقول : رجل مسيار ، وسيار ،ويذهب البعض إلى أنها كلمة عامية دارجة ،وليست معجمية . وسمي به هذا النوع من النكاح ؛ لأن المتزوج لا يلتزم بالحقوق الزوجية التي يلزمه بها الشرع ، فكأنه زواج الساير أو الماشي الذي يتخفف في سيره من الأثقال والمتاع المسيار في الاصطلاح : هو الزواج المستكمل لشروط وأركان الزواج مع اشتراط أو تنازل المرأة عن بعض الحقوق الزوجية والتراضي على ذلك . المطلب الثاني : الفرق بينه وبين غيره من الأنكحة أولاً : الفرق بين المسيار وبين الزواج المعتاد . يمكن ذكر أبرز الفروق بينه وبين الزواج الشرعي المعتاد : 1- وجود شرط يقضي بإسقاط حق الزوجة عن بعض حقوقها . 2- يغلب على هذا الزواج التواصي بالكتمان الذي ربما يكون وسيلة في إنكار نسب الولد . 3- يكثر فيه تخلف قوامة الرجل ، فالمرأة تتصرف في حياتها وفق رأيها ( 5 ). ثانياً : الفرق بين المسيار وزواج السر . زواج السر هو : أن يوصي فيه الزوج الشهود بكتمانه عن زوجة أخرى أو عن جماعة ولو أهل المنزل ، وعليه ، فيمكن بيان الفرق بين زواج المسيار وزواج السر ، بأن زواج السر فيه إيجاب وقبول ، ويشهد عليه شاهدان ، ويكون الولي موجوداً غالباً ، ولكن يتواصى الزوجان والولي والشهود على كتمانه وعدم إعلانه ، وفيه يثبت حق النفقة والمبيت والسكن وسائر الحقوق ، ولا يسقط شيء منها كما هو الحال في زواج المسيار، والفقهاء وإن اختلفوا هل من شرط صحة العقد : الإشهاد أم الإعلان لكنهم لم يختلفوا في أن النكاح السري الذي يخلو منهما جميعاً يشبه البغاء فيكون باطلاً . ثالثاً : الفرق بين المسيار والمتعة : زواج المتعة هو أن يتزوج الرجل المرأة إلى مدة،سمي بذلك ؛ لأنه يتمتع بها إلى أمد . وأما زواج المسيار فليس فيه تأقيت ، وإن كانت تصاحبه نية الطلاق في كثير من حالاته . المطلب الثالث : التكييف الفقهي لهذا النكاح . التكييف الأول : أن نكاح المسيار أشبه ما يكون بنكاح النهاريات والليليات وهو النكاح الذي عرف أيام الحسن البصري رحمه الله . وهي : التي لا يأتيها زوجها إلا نهاراً أو لا يأتيها إلا ليلاً . التكييف الثاني : أن نكاح المسيار نكاح مكتمل الشروط والأركان يشترط فيه الزوج عدم المبيت أو عدم النفقة أو عدم الإنجاب . وهذا التكييف الثاني ؛ هو أقرب شبهاً بصور المسيار المعاصرة وهي الصورة الغالبة على هذا النكاح والله تعالى أعلم . المطلب الرابع : حكم الشرعي لنكاح المسيار . تحرير محل النزاع : أولاً : إذا كان زواج المسيار لا شهود فيه ولا إعلان فهو باطل ولا خلاف في هذه الصورة على أنه يمكن المنازعة في تسمية هذه الصورة نكاح مسيار فهي إلى كونها من الزواج العرفي أو زواج السر أقرب . ثانياًً: إذا كان زواج المسيار مكتمل الشروط من الولي والتراضي والشهود أو الإعلان لكن اشترط على المرأة إسقاط بعض حقوقها . فقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذا النكاح على أقوال : القول الأول : الإباحة مع صحة الشروط ولزومها ؛لحصولها بتراضي الطرفين. القول الثاني : التحريم . وقد اختلف هؤلاء فمنهم من يصحح العقد ويبطل الشرط ، ومنهم من يحكم بفساد العقد والشرط . القول الثالث : التوقف . أدلة الأقوال : أدلة القول الأول : الدليل الأول : قوله سبحانه وتعالى : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) [ المائدة : 1] الدليل الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ). وجه الدلالة منهما واضح في وجوب الوفاء بالشرط الذي التزمه الإنسان برضاه . الدليل الثالث : أن أم المؤمنين سودة بنت زمعة - رضي الله عنها -وهبت يومها لعائشة . الدليل الرابع : أنه نكاح استوفى شروطه وأركانه ، وخلا من موانعه فالأصل صحته. الدليل الخامس : القياس على زواج النهاريات والليليات فقد كان الحسن لا يرى به بأساً وقد أجازه بعض الحنفية ، قال علاء الدين الحصفكي الحنفي : ( قال في المجتبى : " وبه عرف جواب واقعة في زماننا أنه لو تزوج من المحترفات التي تكون في النهار في مصالحها وبالليل عنده فلا نفقة لها قال في النهر : وفيه نظر " ). الدليل السادس : أنه لا ضرر في الاتفاق الحاصل بين الزوجين على قضية النفقة والمبيت والقسم بل فيه مصالح كثيرة مثل إشباع الغريزة والكف عن الفاحشة وتقليل العنوسة وذلك مطلب فطري أدلة القول الثاني : الدليل الأول : أن هذا الزواج يتنافى مع مقاصد الزواج في الشريعة إذ إن الزواج في الإسلام يقوم على أركان ثلاثة : المودة ، والرحمة ، والسكنى ، كما في قوله تعالى : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم : 21] ، وزواج لا تتوافر له هذه الأركان لا يصح . الدليل الثاني : أن اشتراط إسقاط النفقة والمبيت على الزوجة يبطل العقد ، وهو أحد الوجهين عند الشافعية . الدليل الثالث : أن زواج المسيار وإن بدا صحيحاً في الظاهر لتوافر أركانه وشروطه إلا أنه زواج تنعدم فيه مسؤولية الرجل في التربية والرعاية والإشراف والإعانة على شؤون الحياة وظروفها القاسية . أدلة القول الثالث : إذا اعتبرنا التوقف قولاً فإن سبب التوقف هو التعارض في الأدلة وتساوي المصالح مع المفاسد حتى لا يمكن تغليب بعضها على بعض . منـــقووول