لاشك أن إقدام المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تكليف الدكتور عصام شرف برئاسة الحكومة أمر يستحق التقدير من جانب الشعب الذى كان يتطلع إلى بدء مرحلة جديدة تتسم بالانقطاع عن النظام البائد وحاشيته.
ومازال الشعب ينتظر إجراءات من قادة الجيش تتسق مع رحيل آخر رئيس وزراء عينه النظام البائد بتغييرات فى قيادات المؤسسات الحكومية والمملوكة للشعب. لقد كشف الحوار الذى دار مساء الأربعاء الماضى بين الفريق أحمد شفيق والأديب العظيم علاء الأسوانى أن الرغبة الشعبية فى رحيل الفريق لا علاقة لها بصفات الرجل الشخصية، فهو شديد الأدب والدماثة وصاحب إنجازات إدارية وعسكرية عملاقة وهو معتز بكرامته وقدراته الشخصية، ولكن الرغبة فى رحيله تنصب على حالة التناقض الفادحة التى بيّنها الأستاذ الأسوانى بين برنامج الإصلاح الديمقراطى الذى تطلبه الثورة من الحكومة وكون الفريق شفيق منتمياً بفكره وولائه ومرجعيته السياسية إلى النظام السابق ورئيسه.
إذن لا ينبغى على رؤساء الهيئات- خاصة الهيئات المؤثرة على الرأى العام وعلى السياسات العامة أن يتصوروا أن المناداة برحيلهم تنطوى على تجريح لأشخاصهم بقدر ما هى إزاحة للتناقض الكامن فى ولائهم السابق مع المهام الجديدة المطلوبة، ولكى نزيل أى غصة شخصية لدى الرؤساء، فإننا نشير إلى أن رئيس مؤسسة الأهرام يتقاضى راتباً شهرياً يبلغ مليوناً وثلاثمائة ألف جنيه، وهو مبلغ لا يمكن فهمه، فالنظام السابق كان يمكّن أعوانه المختارين لرئاسة المؤسسات من ثروات البلاد، إما فى صورة أجور هائلة بالملايين، وإما فى صورة تمكينهم من الموارد الطبيعية والمالية، فى حين يحرمنا جميعاً من الحد العادل للأجور.
إن تخصيص عدة سيارات مرسيدس لرئيس الأهرام ولاستخدام أسرته ووضع سبعين مليون جنيه بين يديه كل عام لتوزيعها كما يشاء كهدايا رأس السنة على سائر الأعوان والمحاسيب لا يمثل فقط إهداراً للمال العام، بل هو أكثر من ذلك، وأشد فداحة. إن الأمر لا يتعلق برئيس المؤسسة فقط فهناك رؤساء تحرير لصحفها ومجلاتها يتقاضون أجوراً شهرية تتجاوز المليون، وهناك موظفون إداريون يحصلون على أجور تقارب هذه المبالغ. هل يعقل هذا الكلام فى ظل العهد الثورى الجديد، ولماذا يا ترى يحصل سائر الصحفيين فى الأهرام، وكذلك العاملون الآخرون على أجور هزيلة إلا لكونهم جزءاً من الشعب المطحون؟
لقد جرت محاولة أخيرة داخل الأهرام لممارسة الضغوط لتخفيض رواتب الرؤساء المليونية فلجأ هؤلاء إلى التحايل، وذلك بإصدار منشور يحدد الراتب الأساسى لرئيس المؤسسة بمبلغ ستة وسبعين ألف جنيه شهرياً خالية من الضرائب، بالإضافة إلى سائر المخصصات التى يمكن أن تصل بإجمالى الراتب إلى المليون، مرة أخرى حدث نفس الشىء بالنسبة لرؤساء التحرير ولكبار الموظفين الإداريين.
إننى أطالب رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الحكومة الجديد بوقف هذه المهزلة وحفظ أموال الشعب المصرى من النهب المنظم والإهدار.
لقد طالبت مراراً من هذا الموقع بنظام أجور عادل ينهى هذا التمييز الذى يمارسه النظام السياسى البائد لتفضيل أعوانه المختارين بعناية لرئاسة مؤسسات مصر. إن هذا النظام الفاسد للأجور، والذى جعل الطبقة الوسطى العاملة فى الحكومة تعانى معاناة شديدة فى أوضاعها المعيشية، يجب أن ينتهى. لقد كتبت عدة مرات أقول إنه من الظلم الشديد أن يحصل أبناء الطبقة الوسطى العاملة فى الحكومة على أجور هزيلة لا تليق بكرامتهم ولا تلبى احتياجاتهم، وظللت أحذر دون فائدة من انهيار وظائف الدولة الحيوية نتيجة لهذا الظلم الفادح. إن أبناء الطبقة الوسطى العاملة فى الحكومة يشملون أساتذة الجامعات والقضاة والصحفيين والدبلوماسيين والضباط والمهندسين والأطباء والمدرسين والإداريين والمحاسبين وغيرهم، وهؤلاء جميعاً يقومون بوظائف رئيسية حاملة للدولة، مثلها مثل العمود الفقرى الحامل للجسد.
وبالتالى فإن حرمانهم من الحد الأدنى العادل للأجر يؤدى إلى انهيار وظائف الدولة نتيجة لانهيار المعنويات والإحساس بالظلم وانصراف البعض إلى أعمال إضافية لإقامة حياة الأسر، وسقوط البعض فى وهدة الفساد الصغير.. لقد دأب النظام البائد على ترديد مقولة زائفة يقول فيها إن الموارد العامة غير قادرة على ملاحقة الزيادة السكانية، فى حين أن الحقيقة تشير إلى نهب الثروة العامة وقصر توزيعها على الأعوان المختارين والمحاسيب، وحرمان الغالبية من حقها فى هذه الثروة.
إننى أعتقد أن الواجبات الملحة التى يجب أن يتولاها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بالتعاون مع الحكومة الجديدة، هى على الوجه التالى:
أولاً: تكوين مجلس خبراء لتصحيح هياكل الأجور الفاسدة فى جميع مؤسسات الحكومة والمؤسسات المملوكة للشعب.
ثانياً: تكوين مجلس لاسترداد الثروات المنهوبة سواء فى هيئة أجور مليونية أو فى هيئة أراض وقروض مدعومة وغيرها، مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى فى إجراء التسويات.
ثالثاً: إعادة الأمان والنظام إلى الحياة المصرية والقضاء على البلطجة ومصادرها.
رابعاً: وقف الاحتجاجات الفئوية بتكوين مجلس للمظالم تابع للمجلس وللحكومة معاً لتلقى شكاوى الفئات.
خامساً: إصدار قانون يطلق حرية تكوين الأحزاب لتمكين الشعب من تنظيم قواه السياسية استعداداً للانتخابات وتشكيل هيئة تأسيسية لوضع دستور جديد.
سادساً: سرعة إجراء المحاكمات للمسؤولين عن قتل المتظاهرين لتمكين الشرفاء من ضباط الشرطة من التواجد الآمن بين الجماهير.
سابعاً: تشكيل مجلس رئاسى فى نهاية الفترة الانتقالية يكون نصفه من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ونصفه من شخصيات عامة موضع إجماع مثل الدكتور البرادعى والدكتور عصام شرف لإدارة البلاد وتحضيرها للتحول الديمقراطى لمدة سنة ونصف اعتباراً من انتهاء الشهور الستة الراهنة.