عن الزبير بن عدي قال :
أتينا أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج . فقال :
( اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم )
سمعته من نبيكم . رواه البخاري(33) .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ
فيما نقله عن الزبير بن عدي ؛
أنهم أتوا إلى أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ خادم رسول الله ، وكان قد عمر ،
وبقى إلى حوالي تسعين سنة من الهجرة النبوية ، وكان قد أدرك وقته شيء من
الفتن ، فجاءوا يشكون إليه ما يجدون من الحجاج بن يوسف الثقفي ؛ أحد
الأمراء لخلفاء بني أمية ، وكان معروفاً بالظلم وسفك الدماء ، وكان جباراً
عنيداً والعياذ بالله .
وهو الذي حاصر مكة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، وجعل يرمي
الكعبة بالمنجنيق ؛ حتى هدمها أو هدم شيئاً منها ، وكان قد آذى الناس ،
فجاءوا يشكون إلى أنس بن مالك رضي الله عنه ، فقال لهم أنس رضي الله عنه :
اصبروا ؛ أمرهم بالصبر على جور ولاة الأمور ، وذلك لأن ولاة الأمور قد
يسلطون على الناس ؛ بسبب ظلم الناس ،
كما قال تعالى :
( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129) .
فإذا رأيت ولاة الأمور قد ظلموا الناس في أموالهم ، أو في أبدانهم ، أو
حالوا بينهم وبين الدعوة إلى الله عز وجل ، أو ما أشبه ذلك ؛ ففكر في حال
الناس ؛ تجد أن البلاء أساسه من الناس ، هم الذين انحرفوا ؛ فسلط الله
عليهم من سلط من ولاة الأمور ، وفي الأثر ـ وليس بحديث ـ كما تكونون يولى
عليكم .
ويذكر أن بعض خلفاء بني أمية ـ وأظنه عبد الملك بن مروان ـ جمع وجهاء الناس
؛ لما سمع أن الناس يتكلمون في الولاية ، جمع الوجهاء وقال لهم : أيها
الناس ، أتريدون أن نكون لكم كما كان أبو بكر وعمر ؟
قالوا : بلى نريد ذلك ، قال : كونوا كالرجال الذين تولى عليهم أبو بكر وعمر
؛ لنكون لكم كأبي بكر وعمر ، يعني أن الناس على دين ملوكهم ، فإذا ظلم
ولاة الأمور الناس ؛ فإنه غالباً يكون بسبب أعمال الناس .
وجاء رجل من الخوارج إلى على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقال : ما بال
الناس انتقضوا عليك ولم ينتقضوا على أبي بكر وعمر ، قال : لأن رجال أبي بكر
وعمر أنا وأمثالي ، ورجالي أنت وأمثالك ؛ يعني أن الناس إذا ظلموا سلطت
عليهم الولاة .
ولهذا قال أنس : اصبروا ، هذا هو الواجب ، الواجب أن يصبر الإنسان ، ولكل
كربة فرجة ، لا تظن أن الأمور تأتي بكل سهولة ، الشر ربما يأتي بغتة ويأتي
هجمة ، ولكنه لن يدال على الخير أبداً ، ولكن علينا أن نصبر ، وأن نعالج
الأمور بحكمة ، لا نستسلم ولا نتهور ، نعالج الأمور بحكمة وصبر وتأن ، (
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (آل عمران:200) ، إن كنت
تريد الفلاح فهذه أسبابه وهذه طرقه ؛ أربعة أشياء : ( اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
ثم قال أنس بن مالك :
فإنه لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده أشر منه ، حتى تلقوا ربكم ،
سمعته من نبيكم محمد . يعني أن الرسول قال : ( لا يأتي على الناس زمان
إلا وما بعده أشر منه ) . شر منه في الدين ، وهذا الشر ليس شراً مطلقاً
عاماً ، بل قد يكون شراً في بعض المواضع ، ويكون خيراً في مواضع أخرى وهكذا
.
ومع هذا ؛ فإن الناس كما ازادوا في الرفاهية ، وكلما انفتحوا على الناس ؛
انفتحت عليهم الشرور ، فالرفاهية هي التي تدمر الإنسان ؛ لأن الإنسان إذا
نظر إلى الرفاهية وتنعيم جسده ؛ غفل عن تنعيم قلبه ، وصار أكبر همه أن ينعم
هذا الجسد الذي مآله إلى الديدان والنتن ، وهذا هو البلاء ، وهذا هو الذي
ضر الناس اليوم ، لا تكاد تجد أحداً إلا ويقول : ما قصرنا ؟ ما سيارتنا ؟
ما فرشنا ؟ ما أكلنا ؟ حتى الذين يقرءون العلم ويدرسون العلم ، بعضهم إنما
يدرس لينال رتبة أو مرتبة يتوصل بها إلى نعيم الدنيا . وكأن الإنسان لم
يخلق لأمر عظيم ، والدنيا ونعيمها إنما هي وسيلة فقط . نسأل الله أن
نستعمله وإياكم وسيلة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ما معناه : ينبغي على الإنسان أن
يستعمل المال كما يستعمل الحمار للركوب ، وكما يستعمل بيت الخلاء للغائط .
فهؤلاء هم الذين يعرفون المال ويعرفون قدره ، لا تجعل المال أكبر همك ،
اركب المال ، فإن لم تركب المال ركبك المال ، وصار همك هو الدنيا .
ولهذا نقول : إن الناس كلما انفتحت عليهم الدنيا ، وصاروا ينظرون إليها ،
فإنهم يخسرون من الآخرة بقدر ما ربحوا من الدنيا ، قال النبي : ( والله ما
الفقر أخشى عليكم ) يعني ما أخاف عليكم الفقر ، فالدنيا ستفتح . ( ولكني
أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوا كما
تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتكم )(34) ، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ،
هذا الذي أهلك الناس اليوم ، الذي أهلك الناس اليوم التنافس في الدنيا ،
وكونهم كأنهم إنما خلقوا لها لا أنها خلقت لهم ، فاشتغلوا بما خلق لهم عما
خلقوا له ، وهذا من الانتكاس نسأل الله العافية .
وفي هذا الحديث وجوب الصبر على ولاة الأمور وإن ظلموا وجاروا ، لأنك سوف
تقف معهم موقفاً تكون أنت وإياهم على حد سواء ؛ عند ملك الملوك ، سوف تكون
خصمهم يوم القيامة إذا ظلموك ، لا تظن أن ما يكون في الدنيا من الظلم سيذهب
هباءً أبداً ، حق المخلوق لابد أن يؤخذ يوم القيامة ؛ فأنت سوف تقف معهم
بين يدي الله ـ عز وجل ـ ليقضي بينكم بالعدل ، فاصبر وانتظر الفرج ، فيحصل
لك بذلك اطمئنان النفس والثبات ، وانتظار الفرج عبادة ، تتعبد لله به ،
وإذا انتظرت الفرج من الله فقد قال النبي : ( واعلم أن النصر مع الصبر ،
وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً )(35) .
وفي هذا التحذير من سوء الزمان ، وأن الزمان يتغير ، ويتغير إلى ما هو أشر .
وقد قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذات يوم لأصحابه : ( من يعش منكم
فسيرى اختلافاً كثيراً )(36) وأظن أننا ـ وعيشنا في الدنيا قليل بالنسبة
لمن سبق ـ نرى اختلافاً كثيراً . رأينا اختلافاً كثيراً بين سنين مضت وسنين
الوقت الحاضر .
حدثني من أثق به ؛ أن هذا المسجد ـ مسجد الجامع ـ كان لا يؤذن لصلاة الفجر
إلا وقد تم الصف الأول ، يأتي الناس إلى المسجد يتهجدون ، أين المتهجدون
اليوم إلا ما شاء الله ؟ . قليل !! تغيرت الأحوال ، كنت تجد الواحد منهم
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( كالطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً
)(37) إذا أصبح يقول : اللهم ارزقني ، قلبه معلق بالله ـ عز وجل ـ فيرزقه
الله ، وأما الآن ، فأكثر الناس في غفلة عن هذا الشيء ، يعتمدون على من سوى
الله ، ومن تعلق شيئاً وكل إليه .
نعم في الآونة الأخيرة ـ والحمد لله ـ لا شك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فتح
على الشباب فتحاً ؛ أسأل الله تعالى أن يزيدهم من فضله ، فتح عليهم
وأقبلوا إلى الله ، فتجد بين سنواتنا هذه الأخيرة ، والسنوات الماضية
بالنسبة للشباب فرقاً عظيماً ، قبل نحو عشرين سنة ؛ كنت لا تكاد تجد الشباب
بالمسجد ، أما الآن ـ ولله الحمد ـ فأكثر من في المسجد هم الشباب ، وهذه
نعمة ولله الحمد ، يرجو الإنسان لها مستقبلاً زاهراً ، وثقوا أن الشعب إذا
صلح فسوف تضطر ولاة أموره إلى الصلاح مهما كان فنحن نرجو لإخواننا في غير
هذه البلاد ـ الذين من الله ـ عليهم بالصلاح واستقاموا على الحق ـ أن يصلح
لهم الولاة ، ونقول : اصبروا فإن ولاتكم سيصلحون رغماً عنهم ، فإذا صلحت
الشعوب ؛ صلحت الولاة بالاضطرار .
نسأل الله أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وشعوبهم ؛ إنه جواد كريم
انتهى من شرح ابن عثيمين