منتديات مترو
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» حفلات الشيخ ياسين التهامى mp3 للتحميل , تحميل حفلات ياسين التهامى
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالسبت مارس 30, 2024 2:48 pm من طرف الزقم

»  تحميل كتاب شمس المعارف , كتاب السحر الأسود , بحجم 32 ميجا تحميل
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالسبت مارس 30, 2024 2:26 pm من طرف الزقم

» كتاب ( نهايـــــــة العالــــــم ) للدكتور ‘‘ محمد العريفي ‘‘ من أغرب الكتب وأكثرها مبيعا للتحميل المباشر وعلى اكثر من سيرفر علامات الساعة بالصور والخرائط
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالإثنين أبريل 10, 2023 5:37 pm من طرف الزقم

» كلما ابتعدنا
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالخميس نوفمبر 19, 2020 12:46 pm من طرف ربيع محمد

» تحميل جميع البومات ام كلثوم
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالإثنين ديسمبر 16, 2019 10:36 pm من طرف نبيل سويلم

» فيلم القشاش بصيغة 3gp للهواتف المحموله برابط مباشر
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالخميس نوفمبر 28, 2019 4:40 pm من طرف sjody

» المقادير لابن الباديه
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالخميس أكتوبر 24, 2019 7:53 am من طرف ربيع محمد

» تحميل نغمة سلام قول من رب رحيم , نغمة لطفى لبيب سلام قول من رب رحيم للتحميل
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالخميس أكتوبر 17, 2019 9:41 pm من طرف الزقم

» 1000 لعبة من العاب الاتارى بتاعة زمان تعمل على اى جهاز للتحميل على سيرفرات متعدده
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالخميس أكتوبر 17, 2019 8:59 pm من طرف الزقم

» سفينتى*سفينة الحب*السلطان العاشق
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالخميس أكتوبر 03, 2019 6:27 pm من طرف عماد الصغير

أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم
body onbeforeprint="onbeforeprint()" onafterprint="onafterprint()"onselectstart="return false" oncontextmenu="return false">

 

 رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله عبد الله بن عمر والمقداد بن عمرو   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالخميس مارس 10, 2011 11:52 pm



عبد الله بن عمر


المثابر,
الأوّاب



تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال:


"لقد بايعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم..

فما نكثت ولا بدّلت الى يومي
هذا..

وما بايعت صاحب فتنة..


ولا أيقظت مؤمنا من
مرقده"..

وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة
الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين, والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول, وهو في
الثالثة عشر من العمر, حين صحب أباه في غزوة بدر, راجيا أن يكون له بين المجاهدين
مكان, لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..

من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك
اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة
بالرسول عليه السلام والاسلام..



ومن ذلك اليوم الى اليوم الذي يلقى فيه ربه,
بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما, سنجد فيه حيثما نلقاه, المثابر الأوّاب الذي لا
ينحرف عن نهجه قيد أشعرة, ولا يند عن بيعة بايعها, ولا يخيس بعهد أعطاه..


وان المزايا التي تأخذ الأبصار
الى عبدالله بن عمر لكثيرة.

فعلمه وتواضعه, واستقامة ضميره
ونهجه, وجوده, وورعه, ومثابرته, على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..


كل هذه الفضائل والخصال, صاغ
ابن عمر عمره منها, وشخصيته الفذة, وحياته الطاهرة الصادقة..


لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب
خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..


لقد أحسن كأبيه الايمان بالله
ورسوله.. ومن ثم, كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..


فهو ينظر, ماذا كان الرسول يفعل
في كل أمر, فيحاكيه في دقة واخبات..

هنا مثلا, كان الرسول عليه
الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..

وهنا كان الرسول عليه الصلاة
والسلام يدعو قائما, فيدعو ابن عمر قائما...

وهنا كان الرسول يدعو جالسا,
فيدعو عبدالله جالسا..

وهنا وعلى هذا الطريق نزل
الرسول يوما من فوق ظهر ناقته, وصلى ركعتين, فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس
البقعة والمكان..



بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في
هذا المكان بمكة, قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها, ويصلي ركعتين, وقد تكون الناقة
فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.

لكن عبدالله بن عمر لا يكاد
يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته, ثم
ينيخها, ثم يصلي ركعتين لله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..




ولقد أثار فرط اتباعه هذا, أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها فقالت:

"ما كان أحد يتبع آثار النبي
صلى الله عليه وسلم في منازله, كما كان يتبعه ابن عمر".

ولقد قضى عمره الطويل المبارك
على هذا الولاء الوثيق, حتى لقد جاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:


"اللهم أبق عبدالله بن عمر ما
أبقيتني, كي أقتدي به, فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".




وبقوة هذا التحري الشديد الوثيق لخطى الرسول
وسنته, كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا
اذا كان ذاكرا كل حروفه, حرفا.. حرفا.

وقد قال معاصروه..


"لم يكن من أصحاب رسول الله أحد
أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه, من عبدالله بن عمر"..!!




وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في
الفتيا..

جاءه يوما رجل يستفتيه,
فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:

" لا علم لي بما تسأل عنه"


وذهب الرجل في سبيله, ولا يكاد
يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:


"سئل ابن عمر عما لا يعلم, فقال
لا أعلم"..!

كان يخاف أن يجتهد في فتياه,
فيخطئ في اجتهاده, وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم, للمخطئ أجر
وللمصيب أجرين, فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.


وكذلك كان ينأى به عن مناصب
القضاة..

لقد كانت وظيفة القضاء من أرفع
مناصب الدولة والمجتمهع, وكانت تضمن لشاغرها ثراء, وجاها, ومجدا..


ولكن ما حاجة ابن عمر الورع
للثراء, وللجاه, وللمجد..؟!



دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما, وطلب
اليه أن يشغل منصب القضاة, فاعتذر.. وألح عليه عثمان, فثابر على اعتذاره..


وسأله عثمان: أتعصيني؟؟


فأجاب ابن عمر:


" كلا.. ولكن بلغني أن القضاة
ثلاثة..

قاض يقضي بجهل, فهو في
النار..

وقاض يقضي بهوى,
فهو في النار..

وقاض يجتهد ويصيب, فهو كفاف, لا
وزر, ولا أجر..

واني لسائلك بالله أن
تعفيني"..

وأعفاه عثمان, بعد أن أخذ عليه
العهد ألا يخبر أحدا بهذا.

ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن
عمر في أفئدة الناس, وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن
يتابعوا وينهجوا نهجه, وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..




وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من
سمات السلبية.

بيد أنه ليس كذلك, فعبد الله بن
عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه.. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول
الله الورعين الصالحين, وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل..


ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه
تعطيل لوظيفة القضاء, ولا القاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر
البقاء مع نفسه, ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة, والمزيد من العبادة..




كما أنه في ذلك الحين من حياة الاسلام, كانت
الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال, وكثرت المناصب والامارات.


وشرع اغراء المال والمناصب
يقترب من بعض القلوب المؤمنة, مما جعل بعض أصحاب الرسول, ومنهم ابن عمر, يرفعون
راية المقاومة لهذا الاغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف
عن المناصب الكبيرة, وقهر فتنتها واغرائها...



**





لقد كان ابن عمر,أخا الليل, يقومه مصليا..
وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..

ولقد رأى في شبابه رؤيا, فسرها
الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله, ومناط غبطته وحبوره..




ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه:

"رأيت على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق, وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي
اليه..

ورأيت كأن اثنين أتياني, وأرادا
أن يذهبا بي الى النار, فتلقاهما ملك فقال: لا ترع, فخليّا عني..


فقصت حفصة - أختي- على النبي
صلى الله عليه وسلم رؤياي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله,
لو كان يصلي من الليل فيكثر"..

ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه,
لم يدع قيام الليل في حله, ولا في ترحاله..

فكان يصلي ويتلو القرآن, ويذكر
ربه كثيرا.. وكان كأبيه, تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.




يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن
عمر هذه الآية:

(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض
ولا يكتمون الله حديثا)..

فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت
لحيته من دموعه.

وجلس يوما بين اخوانه
فقرا:

(ويل للمطففين, الذين اذا
اكتالوا على الناس يستوفون, واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, ألا يظن أولئك أنهم
مبعوثون, ليوم عظيم, يوم يقوم الناس لرب العالمين)..

ثم مضى يردد الآية:


(..يوم يقوم الناس لرب
العالمين).

ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من
كثرة وجده وبكائه..!!



**




ولقد كان جوده, وزهده, وورعه, تعمل معا في فن
عظيم, لتشكل أروع فضائل هذا الانسان العظيم.. فهو يعطي الكثير لأنه جواد..


ويعطي الحلال الطيب لأنه
ورع..

ولا يبالي أن يتركه الجود
فقيرا, لأنه زاهد..!!



وكان ابن عمر رضي الله عنه, من ذوي الدخول
الرغيدة الحسنة, اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته, وكان راتبه من بيت المال
وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط, انما كان يرسله غدقا على الفقراء,
والمساكين والسائلبن..

يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن
أحد مكرماته, فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلاف درهم وقطيفة..


وفي اليوم التالي, رآه أيوب بن
وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..

فذهب ابن وائل الى أهل بيته
وسالهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة
آلاف,وقطيفة..؟

قالوا: بلى..


قال: فاني قد رأيته اليوم
بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه..

قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى
فرقها جميعها, ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره, خرج.. ثم عاد وليست معه, فسألناه
عنهتا. فقال: انه وهبها لفقير..!!

فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف.
حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا, وصاح في الناس:

" يا معشر التجار..


ما تصنعون بالدنيا, وهذا بن عمر
تأتيه الف درهم فيوزعها, ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!




ألا ان من كان محمد أستاذه, وعمر أباه, لعظيم,
كفء لكل عظيم..!!

ان وجود عبد الله بن عمر,
وزهده وورعه, هذه الخصال الثلاثة, كانت
تحكي لدى عبد الله صدق القدوة.. وصدق البنوّة..

فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله, حتى انه ليقف
بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على
خف".!

والذي يذهب برأيه في برأبيه
وتوقيره والاعجاب به الى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء, فضلا عن
الأقرباء. فضلا عن الأبناء..

أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا
الرسول, ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..

ولقد كانت الأموال تاتيه وافرة
كثيرة.. ولكنها تمر به مرورا.. وتعبر داره عبورا..

ولم يكن جوده سبيلا الى الزهو,
والا الى حسن الأحدوثة.

ومن ثم. فقد كان يخص به
المحتاجين والفقراء.. وقلما كان يأكل الطعام وحده.. فلا بد أن يكون معه أيتام, أو
فقراء.. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه, حين يولمون للأغنياء, ولا يأتون معهم
بالفقراء, ويقول لهم:

"تدعون الشباع. وتدعون
الجياع"..!!



وعرف الفقراء عطفه, وذاقوا حلاوة بره وحنانه,
فكانوا يجلسون في طريقه, كي يصحبهم الى داره حين يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف
أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق..!



**





لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا,,


وكان وسيلة لضروات العيش لا
للترف..

ولم يكن ماله وحده, بل كان
للفقراء فيه حق معلوم, بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب..

ولقد أعانه على هذا الجود
الواسع زهده.. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا, ولا يسعى اليها, بل ولا رجو منها
الا ما يستر الجسد من لباس, ويقيم الأود من الطعام..



أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة
أنيقة, وقال له:

لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان,
وانه لتقر عيناي, اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه, وترتدي هذا الثوب
الجميل..

قال له ابن عمر: أرنيه
اذن..

ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟


قال صاحبه: لا .. انه قطن.


وتملاه عبد الله قليلا, ثم دفعه
بيمينه وهويقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا.. والله لا
يحب كل مختال فخور"..!!



وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا..


وسأله ابن عمر: ما هذا؟


قال: هذا دواء عظيم جئتك به من
العراق.

قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا
الدواء..؟؟

قال: يهضم الطعام..


فالتسم ابن عمر وقال لصاحبه:"
يهضم الطعام..؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما".!!



ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين
عاما, لم يكن يترك الشبع خصاصة, بل زهدا وورعا, ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه..


كان يخاف أن يقال له يوم
القيامة:

(أذهبتم طيّباتكم في حياتكم
الدنيا واستمتعتم بها)..



وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر
سبيل..

ولقد تحدث عن نفسه قائلا:


"ما وضعت لبنة على لبنة, ولا
غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"..

ويقول ميمون بن مهران:


" دخلت على ابن عمر, فقوّمت كل
شيء في بيته من فراش, ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه, فما وجدته تساوي مئة
ردهم"..!!

لم يكن ذلك عن فقر.فقد كان ابن
عمر ثريا..

ولا كان ذلك عن بخل فقد كان
جوّدا سخيا..

وكان عن زهد في الدنيا, وازدراء
للترف, والتزام لمنهجه في الصدق والورع..

ولقد عمّر ابن عمر طويلا, وعاش
في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع, وغطى البذخ أكث الدور.. بل
قل أكثر القصور..

ومع هذا, بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا, لا يبرح نهجه
ولا يتخلى عن ورعه وزهده.

واذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها
التي يهرب منها قال:

"لقد اجتمعت وأصحابي على أمر,
واني أخاف ان خالفتهم ألا ألأحق بهم"..

ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك
دنياهم عجزا, فيرفع يده الى السماء ويقول:

"اللهم انك تعلم أنه لولا
مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".




**






أجل.. لولا مخافة ربه لزاحم في
الدنيا, ولكان من الظافرين..

بل انه لم يكن بحاجة الى أن
يزاحم, فقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها..


وهل هناك كمنصب الخلافة
اغراء..؟

لقد عرض على ابن عمر مرات وهو
يعرض عنه.. وهدد بالقتل ان لم يقبل. فازداد له رفضا, وعنه اعراضا..!!




يقول الحسن رضي الله عنه:


" لما قتل عثمان بن عفان, قالوا
لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس, وابن سيد الناس, فاخرج نبايع لك الناس..


قال: ان والله لئن استطعت, لا
يراق بسببي محجمة من دم..

قالوا: لتخرجن, أو لنقتلنكك على فراشك.. فأعاد عليهم قوله
الأول..

فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما
استقبلوا منه شيئا"..!!



وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر, والفتن تكثر,
كان ابن عمر دوما هو الأمل, فيلح الناس عليه, كي يقبل منصب الخلافة, ويجيئوا له
بالبيعة, ولكنه كان دائما يأبى..

ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه
الى ابن عمر..

بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد
مقتل عثمان رضي الله عنه, ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر..




وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة, فانه
يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها, ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائعين,
مختارين, أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف, فهذا ما يرفضه, ويرفض الخلافة
معه..

وآنئذ, لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى
الرغم من فضله, واجماع المسلمين على حبه وتوقيره, فان اتساع الأمصار, وتنائبها,
والخلافات التي احتدمت بين المسلمين,
وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب, وتتنادى للسيف, لم يجعل الجو مهيأ لهذا الاجماع الذي
يشترطه عبدالله بن عمر..



لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد
شر لأمة محمد منك..!

قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما
سفكت دماءهم, ولا فرقت جماعتهم, ولا شققت عصاهم..

قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف
فيك اثنان..

قال ابن عمر: ما أحب أنها
أتتني, ورجل يقول: لا, وآخر يقول: نعم.



وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا, واستقر
الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده. وثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة
زاهدا فيها بعد أيام من توليها..

حتى في ذلك اليوم, وابن عمر شيخ
مسن كبير, كان لا يزال أمل الناس, وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:


هلم يدك نبايع لك, فانك سيد
العرب وابن سيدها..

قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل
المشرق..؟

قال مروان: نضربهم حتى
يبايعوا..

قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها
تكون لي سبعين عاما, ويقتل بسببي رجل واحد"..!!

فانصرف عنه مروان وهو ينشد:

اني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا


يعني بأبي ليلى, معاوية بن
يزيد...




**





هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف, هو الذي جعل
ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية, موقف العزلة والحياد
جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:

"من قال حي على الصلاة
أجبته..

ومن قال حي على الفلاح
أجبته..

ومن قال حي على قتل أخيك المسلم
واخذ ماله قلت: لا".!!

ولكنه في عزلته تلك وفي حياده,
لا يماليء باطلا..

فلطالما جابه معاوية وهو في أوج
سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته..

حتى توعده بالقتل, وهو القائل:"
لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!



وذات يوم, وقف الحجاج خطيبا, فقال:" ان ابن
الزبير حرّف كتاب الله"!

فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت,
كذبت, كذبت".

وسقط في يد الحجاج, وصعقته
المفاجأة, وهو الذي يرهبه كل شيء, فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..


ولوح ابن عمر بذراعه في وجه
الحجاج, وأجابه الناس منبهرون:" ان تفعل ما تتوعد به فلا عجب, فانك سفيه
متسلط"..!!

ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى
آخر أيامه, حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب, رافضا أن ينحاز لأي
فريق...

يقول أبو العالية البراء:


" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر,
وهو لا يشعر بي, فسمعته يقول لنفسه:

" واضعين سيوفهم على عواتقهم,
يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر, أعط يدك"..؟!



وكان ينفجر أسى وألما, حين يرى دماء المسلمين
تسيل بأيديهم..!!

ولو استطاع أن يمنع القتال,
ويصون الدم لفعل, ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.

ولقد كان قلبه مع علي رضي الله
عنه, بل وكان معه يقينه فيما يبدو, حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:


" ما أجدني آسى على شيء فاتني
من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ, الفئة الباغية"..!!



على أنه حين رفض أن يقاتل مع الامام علي الذي
كان الحق له, وكان الحق معه, فانه لم يفعل ذلك هربا, والا التماسا للنجاة.. بل رفضا
للخلاف كله, والفتنة كلها, وتجنبا لقتال لا يدور بين مسلم ومشرك, بل بين مسلمين
يأكل بعضهم بعضا..

ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله
نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن, أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم, وأنت وأنت, فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟

فأجابه قائلا:


" يمنعني أن الله تعالى حرّم
عليّ دم المسلم, لقد قال عز وجل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة,
ويكون الدين ..)

ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين
حتى كان الدين لله,اما اليوم. فيم نقاتل..؟؟

لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم..
من الركن الى الباب, حتى نضاها الله من أرض العرب..

أفأقاتل اليوم من يقول لا اله
الا الله".؟!

هكذا كان منطقه, وكانت حجته,
وكان اقتناعه..



فهو اذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه,
لاهروبا, أو سلبية, بل رفضا لاقرار حرب
أهلية بين الأمة المؤمنة, واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..


ولقد عاش عبد الله بن عمر
طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين, وفاضت الأموال, وكثرت
المناصب, واستشرت المطامح والرغبات..



لكن قدرته النفسية الهائلة, غيّرت كيمياء
الزمن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه, أيام
زهد, وورع, عاشها المثابر الأواب بكل يقينه, ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته
الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..


لقد تغيّرت طبيعة الحياة, مع
بدء العصر الأموي, ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ, عصر توسع
في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب, بل ومطامح الجماعة والأفراد
أيضا.

ووسط لجج الاغراء, وجيشان العصر
المفتون بمزايا التوسع, وبمغانمه, ومباهجه, كان ابن عمر يعيش مع فضائله, في شغل عن
ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.

ولقد أحرز من أغراض حياته
الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروه فقالوا:

( مات ابن عمر وهو مثل عمر في
الفضل)



بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله, أن
يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:

( كان عمر في زمان له فيه
نظراء, وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!

وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن
عمر لها, أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان
نظير..



**





وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس
للمغيب, ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها, مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى,
حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن
الخطاب. كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا
كلها أنس بن مالك رضي الله عنه, توفي بالبصرة, عام واحد وتسعين, وقيل عام ثلاث
وتسعين.

المقداد بن عمرو


أول فرسان
الاسلام




تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا:


" أول من عدا به فرسه في سبيل
الله, المقداد بن الأسود..

والمقداد بن الأسود, هو بطلنا
هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه, فصار يدعى
المقداد بن الأسود, حتى اذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني, نسب لأبيه عمرو
بن سعد..

والمقداد من المبكّرين
بالاسلام, وسابع سبعة جاهروا باسلامهم وأعلنوه, حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها,
في شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!!

ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة
رائعة كل من رآه تمنى لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم..

يقول عبدالله بن مسعود صاحب
رسول الله:

" لقد شهدت من المقداد مشهدا,
لأن أكون صاحبه, أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا".



في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا. حيث أقبلت قريش
في بأسها الشديد واصرارها العنيد, وخيلائها وكبريائها..

في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة,
لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الاسلام, فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..


ووقف الرسول يعجم ايمان الذين
معه, ويبلوا استعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..


وراح يشاورهم في الأمر, وأصحاب
الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي, فانه يفعل ذلك حقا, وأنه يطلب من كل
واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه, فان قال
قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها, ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب..




وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن
المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة
شعار المعركة, ويسهم في تشكيل ضميرها.

ولكنه قبل أن يحرك شفتيه, كان
أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن, وتلاه عمر
بن الخطاب فقل وأحسن..

ثم تقدم المقداد وقال:


" يا رسول الله..


امض لما أراك الله, فنحن
معك..

والله لا نقول لك كما قالت بنو
اسرائيل لموسى

اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا
قاعدون..

بل نقول لك: اذهب أنت وربك
فقاتلا انا معكما مقاتلون..!!

والذي بعثك بالحق, لو سرت بنا
الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين
يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك".. انطلقت
الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتهلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها
للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن
حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها
واقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!!




أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة
المؤمنين, فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار, وقال:

" يا رسول الله..


لقد آمنا بك وصدّقناك, وشهدنا
أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا, فامض يا رسول الله لما
أردت, فنحن معك.. والذي بعثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك,
ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا..

انا لصبر في الحرب, صدق في
اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله"..


وامتلأ قلب الرسول بشرا..


وقال لأصحابه:" سيروا
وأبشروا"..

والتقى الجمعان..


وكان من فرسان المسلمين يومئذ
ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو, ومرثد بن أبي مرثد, والزبير بن العوّام, بينما كان
بقية المجاهدين مشاة, أو راكبين ابلا..



**





ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل, لا
تصور شجاعته فحسب, بل تصور لنا حكمته الراجحة, وتفكيره العميق..


وكذلك كان المقداد..


كان حكيما أريبا, ولم تكن حكمته
تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات, بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة, وسلوك قويم
مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحنكته وريا لفطنته..



ولاه الرسول على احدى الولايات يوما, فلما رجع
سأله النبي:

" كيف وجدت الامارة"..؟؟


فأجاب في صدق عظيم:


" لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما
لو كنت فوق الناس, وهم جميعا دوني..

والذي بعثك بالحق, لا اتآمرّن
على اثنين بعد اليوم, أبدا"..

واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا
تكون..؟

واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن
يكون..؟

رجل لا يخدع عن نفسه, ولا عن
ضعفه..

يلي الامارة, فيغشى نفسه الزهو
والصلف, ويكتشف في نفسه هذا الضعف, فيقسم ليجنّبها مظانه, وليرفض الامارة بعد تلك
التجربة ويتتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!


لقد كان دائب التغني بحديث سمعه
من رسول الله.. هوذا:

" ان السعيد لمن جنّب الفتن"..


واذا كان قد رأى في الامارة
زهوا يفتنه, أو يكاد يفتنه, فان سعادته اذن في تجنبها..

ومن مظاهر حكمته, طول أناته في
الحكم على الرجال..

وهذه أيضا تعلمها من رسول
الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..




وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس الى
لحظة الموت, ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على
حياته جديد.. وأي تغيّر, أو أي جديد بعد الموت..؟؟

وتتألق حكمته في حنكة بالغة
خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه, يقول:




" جلسنا الى المقداد يوما فمرّ
به رجل..

فقال مخاطبا المقداد: طوبى
لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم..

والله وددنا لو أن رأينا ما
رأيت, وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال:

ما يحمل أحدكم على أن يتمنى
مشهدا غيّبه الله عنه, لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله, لقد عاصر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون
الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم, وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم"..




حكمة وأية حكمة..!!

انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله
ورسوله, الا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!

ولكن بصيرة المقداد الحاذق
الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..

ألم يكن من المحتمل لهذا الذي
يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..

ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع
الكافرين.

وأليس من الخير اذن أن يحمد
الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام, فأخذه صفوا عفوا..


هذه نظرة المقداد, تتألق حكمة
وفطنة.. وفي كل مواقفه, وتجاربه, وكلماته, كان الأريب الحكيم..




**





وكان حب المقداد للاسلام
عظيما..

وكان الى جانب ذلك, واعيا
حكيما..

والحب حين يكون عظيما وحكيما,
فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا, لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في
مسؤولياته..

والمقداد بن عمرو من هذا
الطراز..

فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره
بمسؤولياته عن سلامة الرسول, ولم يكن تسمع في المدينة فزعة, الا ويكون المقداد في
مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه, ممتشقا مهنّده
وحسامه..!!

وحبه للاسلام, ملأ قلبه
بمسؤولياته عن حماية الاسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..




خرج يوما في سريّة, تمكن العدو فيها من حصارهم,
فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر
خبرا, فخالفه, فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق, أو لعله لا يستحقها على
الاطلاق..

فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح,
فسأله, فأنبأه ما حدث

فأخذ المقداد بيمينه, ومضيا صوب
الأمير, وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:

" والآن أقده من نفسك..


ومكّنه من القصاص"..!!


وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي
عفا وصفح, وانتشى المقداد بعظمة الموقف, وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة,
فراح يقول وكأنه يغني:

" لأموتنّ, والاسلام
عزيز"..!!



أجل تلك كانت أمنيته, أن يموت والاسلام عزيز..
ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن يقول له
الرسول عليه الصلاة والسلام:

"ان الله أمرني بحبك..


وأنبأني أنه يحبك"...



[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بريق الامل
من اسره مترو
من اسره مترو
بريق الامل


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 2939
نقاط : 3423
تاريخ التسجيل : 16/02/2011
الموقع : الجيزه

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 11, 2011 9:38 am

تسلم ايديكي
جزاك الله خيرآ
رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص لاإله%20إلاالله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 11, 2011 9:38 pm

مصعب بن
عمير

أول سفراء
الاسلام





هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به
الحديث.

غرّة فتيان قريش, وأوفاهم
جمالا, وشبابا..

يصف المؤرخون والرواة شبابه
فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..

ولد في النعمة, وغذيّ بها, وشبّ
تحت خمائلها.

ولعله لم يكن بين فتيان مكة من
ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..

ذلك الفتى الريّان, المدلل
المنعّم, حديث حسان مكة, ولؤلؤة ندواتها ومجالسها, أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من
أساطير الايمان والفداء..؟

بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ
"مصعب بن عمير", أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.


انه واحد من أولئك الذين صاغهم
الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..

ولكن أي واحد كان..؟


ان قصة حياته لشرف لبني الانسان
جميعا..

لقد سمع الفتى ذات يوم, ما بدأ
أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..

"محمد" الذي يقول أن الله أرسله
بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.



وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها, ولا حديث
يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه, كان فتى قريش المدلل أكثر الناس
استماعا لهذا الحديث.

ذلك أنه كان على الرغم من حداثة
سنه, زينة المجالس والندوات, تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها, ذلك أن أناقة
مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..




ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه,
يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم"
فلم يطل به التردد, ولا التلبث والانتظار, بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم
تسبقه أشواقه ورؤاه...

هناك كان الرسول صلى الله عليه
وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن, ويصلي معهم لله العليّ القدير.




ولم يكد مصعب يأخذ مكانه, وتنساب الآيات من قلب
الرسول متألفة على شفتيه, ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة, حتى كان فؤاد ابن
عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!

ولقد كادت الغبطة تخلعه من
مكانه, وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم
بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج, والفؤاد المتوثب, فكانت السكينة
العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة
ما يفوق ضعف سنّه وعمره, ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!




**




كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة
في شخصيتها, وكانت تهاب الى حد الرهبة..

ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر
أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.

فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها
وصحرائها, استحالت هولا يقارعه ويصارعه, لاستخف به مصعب الى حين..


أما خصومة أمه, فهذا هو الهول
الذي لا يطاق..!

ولقد فكر سريعا, وقرر أن يكتم
اسلامه حتى يقضي الله أمرا.

وظل يتردد على دار الأرقم,
ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو قرير العين بايمانه, وبتفاديه غضب أمه
التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..



ولكن مكة في تلك الأيام بالذات, لا يخفى فيها
سر, فعيون قريش وآذانها على كل طريق, ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة
اللاهبة, الواشية..

ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة"
وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو يصلي كصلاة محمد صلى الله عليه
وسلم, فسابق ريح الصحراء وزوابعها, شاخصا الى أم مصعب, حيث ألقى عليها النبأ الذي
طار بصوابها...



ووقف مصعب أمام أمه, وعشيرته, وأشراف مكة
مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته, القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم,
ويملؤها به حكمة وشرفا, وعدلا وتقى.

وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية, ولكن اليد التي
امتدت كالسهم, ما لبثت أن استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه
جلالا يفرض الاحترام, وهدوءا يفرض الاقناع..

ولكن, اذا كانت أمه تحت ضغط
أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى, فان في مقدرتها أن تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب
آخر..

وهكذا مضت به الى ركن قصي من
أركان دارها, وحبسته فيه, وأحكمت عليه اغلاقه, وظل رهين محبسه ذاك, حتى خرج بعض
المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة, فاحتال لنفسه حين سمع النبأ, وغافل أمه وحراسه,
ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..



ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين, ثم
يعود معهم الى مكة, ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم
الرسول بالهجرة فيطيعون.

ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم
في مكة, فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان, ولقد فرغ من اعادة صياغة
حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار, واطمأن مصعب الى أن حياته
قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى, وخالقها العظيم..




خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول
الله, فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا
شجيّا..

ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا
مرقعا باليا, وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه, حين كانت ثيابه كزهور الحديقة
النضرة, وألقا وعطرا..

وتملى رسول الله مشهده بنظرات
حكيمة, شاكرة محبة, وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة, وقال:


" لقد رأيت مصعبا هذا, وما بمكة
فتى أنعم عند أبويه منه, ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!



لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت
تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها, حتى
ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!

ولقد كان آخر عهدها به حين
حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من
تستعين به على حبسه..

وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ
وعزم, فودعته باكية, وودعها باكيا..

وكشفت لحظة الوداع عن اصرار
عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له
وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك, لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك
ناصح, وعليك شفوق, فاشهدي بأنه لا اله الا الله, وأن محمدا عبده ورسوله"...


أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما
بالثواقب, لا أدخل في دينك, فيزرى برأيي, ويضعف غقلي"..!!

وخرج مصعب من النعمة الوارفة
التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر, لا يرى الا
مرتديا أخشن الثياب, يأكل يوما, ويجوع أياما ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة,
والمتألقة بنور الله, كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس
روعة...

**





وآنئذ, اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن
يكون سفيره الى المدينة, يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة,
ويدخل غيرهم في دين الله, ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..


كان في أصحاب رسول الله يومئذ
من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها, وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب
الخير, وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا
الساعة, ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة, ومنطلق
الدعوة والدعاة, والمبشرين والغزاة, بعد حين من الزمان قريب..


وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما
أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق, ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده
وترفعه واخلاصه, فدخلوا في دين الله أفواجا..



لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى
اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة, ولكنه ام يكد يتم بينهم
بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!

وفي موسم الحج التالي لبيعة
العقبة, كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم..
وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم
"مصعب ابن عمير".

لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن
بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..

فلقد فهم مصعب رسالته تماما
ووقف عند حدودها.وعرف أنه داعية الى الله تعالى, ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى
الهدى, والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به, ليس عليه الا البلاغ..




هناك نهض في ضيافة "أسعد بن زرارة" يفشيان معا
القبائل والبيوت والمجالس, تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه, هاتفا بينهم في
رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..

ولقد تعرّض لبعض المواقف التي
كان يمكن أن تودي به وبمن معه, لولا فطنة عقله, وعظمة روحه..




ذات يوم فاجأه وهو يعظ الاوس "أسيد بن خضير"
سيد بني عبد الأشهل بالمدينة, فاجأه شاهرا حربته ويتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي
جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم, ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من
قبل, ولم يألفوه من قبل..!

ان آلهتهم معهم رابضة في
مجاثمها واذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها, فتكشف ضرّه وتلبي
دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..



أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا
السفير الوافد اليهم, فما أحد يعرف مكانه, ولا أحد يستطيع أن يراه..!!


وما ان رأى المسلمون الذين
كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي, وثورته المتحفزة, حتى
وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا, متهللا..

وقف اسيد أمامه مهتاجا, وقال
يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:

"ما جاء بكما الى حيّنا, تسفهان
ضعفاءنا..؟ اعتزلانا, اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!


وفي مثل هدوء البحر
وقوته..

وفي مثل تهلل ضوء الفجر
ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:


"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت
أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".

الله أكبر. ما أروعها من بداية
سيسعد بها الختام..!!



كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى
مصعبا يحتكم معه الى ضميره, فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع, تركه لاقتناعه وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم, وتحول
الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..

هنالك أجابه أسيد قائلا:
أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..

ولم يكد مصعب يقرأ القرآن,
ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام, حتى أخذت أسارير
أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم, وتكتسي بجماله..!!


ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى
هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:

"ما أحسن هذا القول وأصدقه..
كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟

وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض
رجّا, ثم قال له مصعب:

"يطهر ثوبه وبدنه, ويشهد أن لا
اله الا الله".

فغاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد
يقطر الماء الطهور من شعر رأسه, ووقف يعلن أن لا اله الا الله, وأن محمدا رسول
الله..

وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد
بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع, وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة, وتمت باسلامهم النعمة,
وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير, وسعد ابن معاذ,
وسعد بن عبادة قد أسلموا, ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب, فلنؤمن معه, فانهم يتحدثون
أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!



**





لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم
نجاحا منقطع النظير.. نجاحا هو له أهل, وبه جدير..

وتمضي الأيام والأعوام, ويهاجر
الرسول وصحبه الى المدينة, وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها, لتواصل
مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر, قيتلقون فيها درسا يفقدهم
بقية صوابهم ويسعون الى الثأر,و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم, ويقف
الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من
يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير, فيتقدم ويحمل اللواء..

وتشب المعركة الرهيبة, ويحتدم
القتال, ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام, ويغادرون موقعهم في أعلى
الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين, لكن عملهم هذا, سرعان ما يحوّل نصر
المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل, وتعمل
فيهم على حين غرّة, السيوف الظامئة المجنونة..

حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف
المسلمين, ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..

وأدرك مصعب بن عمير الخطر
الغادر, فرفع اللواء عاليا, وأطلق تكبيرة كالزئير, ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن
يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه, وجرّد من ذاته
جيشا بأسره.. أجل, ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..

يد تحمل الراية في تقديس..


ويد تضرب بالسيف في
عنفوان..

ولكن الأعداء يتكاثرون عليه,
يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..



لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد
الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!

يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم
بن محمد بن شرحبيل العبدري, عن أبيه قال:

[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم
أحد, فلما جال المسلمون ثبت به مصعب, فأقبل ابن قميئة وهو فارس, فضربه على يده
اليمنى فقطعها, ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..


وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا
عليه, فضرب يده اليسرى فقطعها, فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول:
وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..

ثم حمل عليه الثالثة بالرمح
فأنفذه وأندق الرمح, ووقع مصعب, وسقط اللواء].

وقع مصعب.. وسقط
اللواء..!!

وقع حلية الشهادة, وكوكب
الشهداء..!!

وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم
معركة الفداء والايمان..

كان يظن أنه اذا سقط, فسيصبح
طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..


ولكنه كان يعزي نفسه في رسول
الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف
تقتلع منه ذراعا:

(وما محمد الا رسول
قد خلت من قبله الرسل)

هذه الآية التي سينزل الوحي
فيما بعد يرددها, ويكملها, ويجعلها, قرآنا يتلى..



**





وبعد انتهاء المعركة المريرة, وجد جثمان الشهيد
الرشيد راقدا, وقد أخفى وجهه في تراب
الأرض المضمخ بدمائه الزكية..

لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة
هامدة رسول الله يصيبه السوء, فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره
ويخشاه..!!

أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا
قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله, وقبل أن
يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!

لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك
عطر الحياة..!!



**





وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة
ويودعون شهداءها..

وعند جثمان مصعب, سالت دموع
وفيّة غزيرة..

يقوا خبّاب بن الأرت:


[هاجرنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في سبيل اله, نبتغي وجه الله, فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى, ولم
يأكل من أجره في دنياه شيئا, منهم مصعب بن عمير, قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء
يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه, واذا وضعناها على
رجليه برزت رأسه, فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه,
واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..

وعلى الرغم من الألم الحزين
العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة, وتمثيل المشركين
يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام, وأوجع فؤاده..


وعلى الرغم من امتلاء أرض
المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق
والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا, فقد وقف على جثمان أول سفرائه, يودعه
وينعاه..

أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه
وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:


(من المؤمنين رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه)

ثم ألقى في أسى نظرة على بردته
التي كفن بها وقال لقد رأيتك بمكة, وما بها أرق حلة, ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا
شعث الرأس في بردة"..؟!

وهتف الرسول عليه الصلاة
والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:


"ان رسول الله يشهد أنكم
الشهداء عند الله يوم القيامة".

ثم أقبل على أصحابه الأحياء
حوله وقال:

"أيها الناس زوروهم,وأتوهم,
وسلموا عليهم, فوالذي نفسي بيده, لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة, الا ردوا
عليه السلام"..




**





السلام عليك يا مصعب..

السلام عليكم يا معشر
الشهداء..

السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته..



[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]



سعد بن أبي وقاص


الأسد في
براثنه




أقلقت الأنباء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب,
عندما جاءته تترى بالهجمات الغادرة التي تشنها قوات الفرس على المسلمين.. وبمعركة
الجسر التي ذهب ضحيتها في يوم واحد أربعة آلاف شهيد.. وبنقض أهل العراق عهودهم,
والمواثيق التي كانت عليهم.. فقرر أن يذهب بنفسه ليقود جيوش المسلمين, في معركة
فاصلة ضد الفرس.

وركب في نفر من أصحابه مستخلفا
على المدينة علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه..

ولكنه لم يكد يمضي عن المدينة
حتى رأى بعض أصحابه أن يعود, وينتدب لهذه المهمة واحدا غيره من أصحابه..




وتبنّى هذا الرأي عبد الرحمن بن عوف, معلنا أن
المخاطرة بحياة أمير المؤمنين على هذا النحو والاسلام يعيش أيامه الفاصلة, عمل غير
سديد..



وأمر عمر أن يجتمع المسلمون للشورى
ونودي:_الصلاة جامعة_ واستدعي علي ابن أبي طالب, فانتقل مع بعض أهل المدينة الى حيث
كان أمير المؤمنين وأصحابه.. وانتهى الرأي الى ما نادى به عبد الرحمن بن عوف, وقرر
المجتمعون أن يعود عمر الى المدينة, وأن يختار للقاء الفرس قائدا آخر من
المسلمين..

ونزل أمير المؤمنين على هذا
الرأي, وعاد يسأل أصحابه:

فمن ترون أن نبعث الى
العراق..؟؟

وصمتوا قليلا يفكرون..


ثم صاح عبد الرحمن بن عوف:
وجدته..!!

قال عمر: فمن هو..؟


قال عبد الرحمن: "الأسد في
براثنه.. سعد بن مالك الزهري.."



وأيّد المسلمون هذا الاختيار, وأرسل أمير
المؤمنين الى سعد بن مالك الزهري "سعد بن أبي وقاص" وولاه امارة العراق, وقيادة
الجيش..

فمن هو الأسد في براثنه..؟


من هذا الذي كان اذا قدم على
الرسول وهو بين أصحابه حياه وداعبه قائلا:

"هذا خالي.. فليرني امرؤ
خاله"..!!



انه سعد بن أبي وقاص.. جده أهيب بن مناف, عم
السيدة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم..

لقد عانق الاسلام وهو ابن سبع
عشرة سنة, وكان اسلامه مبكرا, وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:

" .. ولقد أتى عليّ يوم, واني
لثلث الاسلام"..!!

يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة
سارعوا الى الاسلام..



ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد, وعن الدين الجديد
الذي يزف الرسول بشراه, وقبل أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم ملاذا
له ولأصحابه الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول
الله مبايعا..

وانّ كتب التاريخ والسّير
لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلام أبي بكر وعلى يديه..


ولعله يومئذ أعلن اسلامه مع الذين أعلنوه
باقناع أبي بكر ايّاهم, وهم عثمان ابن عفان, والزبير ابن العوّام, وعبد الرحمن بن
عوف, وطلحة بن عبيد الله.

ومع هذا لا يمنع سبقه بالاسلام
سرا..

وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد
كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر..

بيد أنه لم يتغنّ من
مزاياه تلك, الا بشيئين عظيمين..


أولهما: أنه أول من رمى بسهم في
سبيل الله, وأول من رمي أيضا..

وثانيهما: أنه الوحيد الذي
افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:

" ارم سعد فداك أبي
وأمي"..



أجل كان دائما يتغنى بهاتين النعمتين
الجزيلتين, ويلهج بشكر الله عليهما فيقول:

" والله اني لأوّل رجل من العرب
رمى بسهم في سبيل الله".

ويقول علي ابن أبي طالب:


" ما سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه الا سعدا, فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم سعد.. فداك أبي
وأمي"..

كان سعد يعدّ من أشجع فرسان
العرب والمسلمين, وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..



اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. واذا دعا الله
دعاء أجابه..!!

وكان, وأصحابه معه, يردّون ذلك
الى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما سرّه وقرّ
عينه, دعا له هذه الدعوة المأثورة..

" اللهم سدد رميته.. وأجب
دعوته".



وهكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف
القاطع, وعرف هو ذلك نفسه وأمره, فلم يكن يدعو على أحد الا مفوّضا الى الله
أمره.



من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:


" رأى سعد رجلا يسب عليا, وطلحة
والزبير فنهاه, فلم ينته, فقال له: اذن أدعو عليك, فقال ارجل: أراك تتهددني كأنك
نبي..!!

فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين,
ثم رفع يديه وقال: اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد سبّ أقواما سبقت لهم منك
الحسنى, وأنه قد أسخطك سبّه ايّاهم, فاجعله آية وعبرة..

فلم يمض غير وقت قصير, حتى خرجت
من احدى الدور ناقة نادّة لا يردّها شيء حتى دخلت في زحام الناس, كأنها تبحث عن
شيء, ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..


ان هذه الظاهرة, تنبىء أوّل ما
تنبىء عن شفافية روحه, وصدق يقينه, وعمق اخلاصه.



وكذلكم كان سعد, روحه حر.. ويقينه صلب..
واخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه باللقمة الحلال, فهو يرفض في
اصرار عظيم كل درهم فيه اثارة من شبهة..

ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء
المسلمين وأثريائهم, ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع هذا فاذا كانت وفرة
المال وحلاله قلما يجتمعان, فقد اجتمعا بين يدي سعد.. اذ آتاه الله الكثير, الحلال,
الطيب..

وقدرته على جمع المال من الحلال
الخالص, يضاهيها, قدرته في انفاقه في سبيل الله..



في حجة الوداع, كان هناك مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم, وأصابه المرض, وذهب الرسول يعوده, فساله سعد قائلا:


"يا رسول الله, اني ذو مال ولا
يرثني الا ابنة, أفأتصدّق بثلثي مالي..؟

قال النبي: لا.


قلت: فبنصفه؟


قال النبي: لا.


قلت: فبثلثه..؟


قال النبي: نعم, والثلث كثير..
انك ان تذر ورثتك أغنياء, خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس, وانك لن تنفق نفقة
تبتغي بها وجه الله الا أجرت بها, حتى
اللقمة تضعها في فم امرأتك"..

ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة..
فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين..



**





وكان سعد كثير البكاء من خشية الله.


وكان اذا استمع للرسول يعظهم,
ويخطبهم, فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره..

وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..



ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه, رنا بصره الى
الأفق في اصغاء من يتلقى همسا وسرا.. ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم:


" يطلع علينا الآن رجل من أهل
الجنة"..

وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل
اتجاه يستشرفون هذا السعيد الموفق المحظوظ..

وبعد حين قريب, طلع عليهم سعد
بن أبي وقاص.

ولقد لاذ به فيما بعد عبد الله
بن عمرو بن العاص سائلا اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى الله من عمل
وعبادة, جعله أهل لهذه المثوبة, وهذه البشرى.. فقال له سعد:

" لا شيء أكثر مما نعمل جميعا
ونعبد..

غير أني لا أحمل لأحد من
المسلمين ضغنا ولا سوءا".



هذا هو الأسد في براثنه, كما وصفه عبد الرحمن
بن عوف..

وهذا هو الرجل الذي اختاره عمر
ليوم القادسية العظيم..

كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة
أمير المؤمنين وهو يختاره لأصعب مهمة تواجه الاسلام والمسلمين..


انه مستجاب الدعوة.. اذا سأل
الله النصر أعطاه اياه..

زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان..
عف الضمير..

وانه واحد من أهل الجنة.. كما
تنبأ له الرسول..

وانه الفارس يوم بدر. والفارس
يوم أحد.. والفارس في كل مشهد شهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..


وأخرى, لا ينساها عمر ولا يغفل
عن أهميتها وقيمتها وقدرها بين ألخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من يتصدى لعظائم
الأمور, تلك هي صلابة الايمان..



ان عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع
الرسول..

يومئذ أخفقت جميع محاولات رده
وصده عن سبيل الله.. فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد
وترد عزمه الى وثنية أهله وذويه..



لقد أعلنت أمه صومها عن الطعام والشراب, حتى
يعود سعد الى دين آبائه وقومه, ومضت في تصميم مستميت تواصل اضرابها عن الطعام
والشراب حتى أوشكت على الهلاك..

كل ذلك وسعد لا يبالي, ولا يبيع
ايمانه ودينه بشيء, حتى ولو يكون هذا الشيء حياة أمه..

وحين كانت تشرف على الموت, أخذه
بعض أهله اليها ليلقي عليها نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين يراها في سكرة
الموت..



وذهب سعد ورأى مشهد يذيب الصخر..


بيد أن ايمانه بالله ورسوله كان
قد تفوّق على كل صخر, وعلى كل لاذ, فاقترب بوجهه من وجه أمه, وصاح بها لتسمعه:


" تعلمين والله يا أمّه.. لو
كانت لك مائة نفس, فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء..

فكلي ان شئت أو لا
تأكلي"..!!

وعدلت أمه عن عزمها.. ونزل
الوحي يحيي موقف سعد, ويؤيده فيقول:

( وان جاهداك على أن تشرك بي ما
ليس لك به علم فلا تطعهما)..

أليس هو الأسد في براثنه
حقا..؟؟



اذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في
يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائةألف من المقاتلين المدربين.
المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. تقودهم أذكى عقول الحرب
يومئذ, وأدهى دهاتها..

أجل الى هؤلاء في فيالقهم
الرهيبة..خرج سعد في ثلاثين ألف مقاتل لا غير.. في أيديهم رماح.. ولكن في قلوبهم
ارادة الدين الجديد بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان, وشوق نادر وباهر الى الموت و
الى الشهادة..!!

والتقى الجمعان.


ولكن لا.. لم يلتق الجمعان
بعد..

وأن سعدا هناك ينتظر نصائح أمير
المؤمنين عمر وتوجيهاته.. وها هو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه بالمبادرة الى
القادسية, فانها باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وهدى:

" يا سعد بن وهيب..


لا يغرّنّك من الله, أن قيل:
خال رسول الله وصاحبه, فان الله ليس بينه وبين أحد نسب الا بطاعته.. والناس شريفهم
ووضيعهم في ذات الله سواء.. الله ربهم, وهم عباده.. يتفاضلون بالعافية, ويدركون ما
عند الله بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث الى
أن فارقنا عليه, فالزمه, فانه الأمر."

ثم يقول له:


" اكتب اليّ بجميع أحوالكم..
وكيف تنزلون..؟

وأين يكون عدوّكم منكم..


واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر
اليكم"..!!



ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء
حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.

وينزل سعد القادسية, ويتجمّع
الفرس جيشا وشعبا, كما لم يتجمعوا من قبل, ويتولى قيادة الفرس أشهر وأخطر قوّادهم
"رستم"..



ويكتب سعد الى عمر, فيكتب اليه أمير
المؤمنين:

" لا يكربنّك ما تسمع منهم, ولا
ما يأتونك به, واستعن بالله, وتوكل عليه, وابعث اليه رجالا من أهل ألنظر والرأي
والجلد, يدعونه الى الله.. واكتب اليّ في كل يوم.."

ويعود سعد فيكتب لأمير المؤمنين
قائلا:

" ان رستم قد عسكر ب ساباط وجرّ
الخيول والفيلة وزحف علينا".

ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا..


ان سعد الفارس الذكي المقدام,
خال رسول الله, والسابق الى الاسلام, بطل المعارك والغزوات, والذي لا ينبو له سيف,
ولا يزيغ منه رمح.. يقف على رأس جيشه في احدى معارك التاريخ الكبرى, ويقف وكأنه
جندي عادي.. لا غرور القوة, ولا صلف الزعامة, يحملانه على الركون المفرط لثقته
بنفسه.. بل هو يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينهما أبعاد وأبعاد, فيرسل له
كل يوم كتابا, ويتبادل معه والمعركة الكبرى على وشك النشوب, المشورة والرأي...




ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي
وحده, ولا يقرر وحده.. بل يستشير الذين حوله من المسلمين ومن خيار أصحاب رسول
الله.. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب,
أن يحرم نفسه, ولا أن يحرم جيشه, من بركة الشورى وجدواها, لا سيّما حين يكون بين
أقطابها عمر الملهم العظيم..



**





وينفذ سعد وصية عمر, فيرسل الى رستم قائد الفرس
نفرا من أصحابه يدعونه الى الله والى الاسلام..

ويطول الحوار بينهم وبين قائد
الفرس, وأخيرا ينهون الحديث معه اذ يقول قائلهم:

" ان الله اختارنا ليخرج بنا من
يشاء من خلقه من الوثنية الى التوحيد... ومن ضيق الدنيا الى سعتها, ومن جور الحكام
الى عدل الاسلام..

فمن قبل ذلك منا, قبلنا منه,
ورجعنا عنه, ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد الله.."

ويسأل رستم: وما وعد الله الذي
وعدكم اياه..؟؟

فيجيبه الصحابي:


" الجنة لشهدائنا, والظفر
لأحيائنا".

ويعود الوفد الى قائد المسلمين
سعد, ليخبروه أنها الحرب..

وتمتلىء عينا سعد
بالدموع..



لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا, أو تقدمت
قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته.. وملأت الدمامل جسده حتى ما كان
يستطيع أن يجلس, فضلا أن يعلو صهوة جواده
ويخوض عليه معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!

فلو أن المعركة جاءت قبل أن
يمرض ويسقم, أو لو أنها استأخرت حتى يبل ويشفى, اذن لأبلى فيها بلاءه العظيم.. أما
الآن.. ولكن, لا, فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم ألا يقول أحدهم: لو. لأن لو
هذه تعني العجز, والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة, ولا يعجز أبدا..




عنئذ هب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا,
مستهلا خطابه بالآية الكريمة:

(بسم الله الرحمن الرحيم..


ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..

وبعد فراغه من خطبته, صلى
بالجيش صلاة الظهر, ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: الله أكبر.. الله أكبر.. الله
أكبر.. الله أكبر..

ودوّى الركن وأوّب مع المكبرين,
ومد ذراعه كالسهم النافذ مشيرا الى العدو, وصاح في جنوده: هيا على بركة الله..




وصعد وهو متحاملا على نفسه وآلامه الى شرفة
الدار التي كان ينزل بها ويتخذها مركزا لقيادته..وفي الشرفة جلس متكئا على صدره فوق
وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل هجوم من الفرس على الدار يسقطه في أيديهم حيا أو
ميتا.. ولكنه لا يرهب ولا يخاف..

دمامله تنبح وتنزف, ولكنه عنها
في شغل, فهو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لهؤلاء: أن تقدّموا صوب الميمنة..
ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءهم يا جرير.. اضرب يا
نعمان.. اهجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!


وكان صوته المفعم بقوة العزم
والأمل, يجعل من كل جندي فردا, جيشا بأسره..

وتهاوى جنود الفرس كالذباب
المترنّح. وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار..!!

وطارت فلولهم المهزومة بعد أن
رأوا مصرع قائدهم وخيرة جنودهم, وطاردهم الجيش المسلم حتى نهاوند.. ثم المدائن
فدخلوها ليحملوا ايوان كسرى وتاجه, غنيمة وفيئا..!!



**





وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..


وكانت موقعة المدائن, بعد موقعة
القادسية بقرابة عامين, جرت خلالهما مناوشات مستمرة بين الفرس والمسلمين, حتى تجمعن
كل فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسها, متأهبة لموقف أخير وفاصل..


وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب
أعدائه. فقرر أن يسلبهم هذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين المدائن نهر دجلة
في موسم فيضانه وجيشانه..

هنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما
وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!



ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر,
ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم..!!

وهكذا أصدر سعد أمره الى جيشه
بعبور نهر دجلة.. وأمر بالبحث عن مخاضة في النهر تمكّن من عبور هذا النهر.. وأخيرا
عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..



وقبل أن يبدأ الجيش عملية المرور فطن القائد
سعد الى وجوب تأمين مكان الوصول على الضفة الأخرى التي يرابط العدو حولها.. وعندئذ
جهز كتيبتين..

الأولى: واسمها كتيبة الأهوال
وأمّر سعد عليها عاصم ابن عمرو والثانية: اسمها الكتيبة الخرساء وأمّر عليها
القعقاع ابن عمرو..



وكان على جنود هاتين الكتيبتين أن يخوضوا
الأهوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا للجيش العابر على أثرهم.. ولقد
أدوا العمل بمهارة مذهلة..

ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذهل
له المؤرخون..

نجاحا أذهل سعد بن أبي وقاص
نفسه..

وأذهل صاحبه ورفيقه في المعركة
سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دهشة وغبطة, ويقول:

" ان الاسلام جديد..


ذلّلت والله لهم البحار, كما
ذلّل لهم البرّ..

والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ
منه أفواجا, كما دخلوه أفواحا"..!!

ولقد كان .. وكما اقتحموا نهر
دجلة أفواجا, خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا, بل لم تضع منهم شكيمة
فرس..



ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه, فعز عليه أن
يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء, فنادى في أصحابه ليعاونوه على انتشاله,
ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه..!!



وتصف لنا احدى الروايات التاريخية, روعة المشهد
وهم يعبرون دجلة, فتقول:

[أمر سعد المسلمين أن يقولوا:
حسبنا الله ونعم الوكيل.. ثم اقتحم بفرسه دجلة, واقتحم الناس وراءه, لم يتخلف عنه
أحد, فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين, ولم يعد
وجه الماء يرى من أفواج الفرسان والمشاة, وجعل الناس يتحدثون وهم يسيرون على وجه
الماء كأنهم يتحدثون على وجه الأرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة والأمن,
والوثوق بأمر الله ونصره ووعيده وتأييده]..!!



ويوم ولى عمر
سعدا امارة العراق, راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة, وأرسى قواعد
الاسلام في البلاد العريضة الواسعة..

وذات يوم شكاه أهل الكوفة لأمير
المؤمنين.. لقد غلبهم طبعهم المتمرّد, فزعموا زعمهم الضاحك, قالوا:" ان سعدا لا
يحسن يصلي"..!!

ويضحك سعد من ملء فاه,
ويقول:

"والله اني لأصلي بهم صلاة رسول
الله.. أطيل في الركعتين الأوليين, وأقصر في الأخريين"..

ويستدعيه عمر الى المدينة, فلا
يغضب, بل يلبي نداءه من فوره..

وبعد حين يعتزم عمر ارجاعه الى
الكوفة, فيجيب سعد ضاحكا:

" اأتمرني أن أعود الى قوم
يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟

ويؤثر البقاء في المدينة..




وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
وأرضاه, اختار من بين أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام, ستة رجال, ليكون اليهم أمر
الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول الله وهو عنهم راض.. وكان من بينهم
سعد بن أبي وقاص.

بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة,
أنه لو كان مختارا لخلافة واحدا من الصحابة لاختار سعدا..

فقد قال لأصحابه وهو يودعهم
ويوصيهم:

" ان وليها سعد فذاك..


وان وليها غيره فليستعن
بسعد".



**





ويمتد العمر بسعد.. وتجيء الفتنة الكبرى,
فيعتزلها بل ويأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا اليه شيئا من أخبارها..


وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه,
ويذهب اليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص, ويقول له:

يا عم, ها هنا مائة ألف سيف
يروك أحق الناس بهذا الأمر.

فيجيبه سعد:


" أريد من مائة ألف سيف, سيفا
واحدا.. اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا, واذا ضربت به الكافر قطع"..!!


ويدرك ابن أخيه غرضه, ويتركه في
عزلته وسلامه..

وحين انتهى الأمر لمعاوية,
واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:

مالك لم تقاتل معنا..؟؟


فأجابه:

" اني مررت بريح مظلمة, فقلت:
أخ .. أخ..

واتخذت من راحلتي حتى انجلت
عني.."

فقال معاوية: ليس في كتاب الله
أخ.. أخ.. ولكن قال الله تعالى:

(وان طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا, فأصلحوا بينهما, فان بغت احداهما على الأخرى, فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء
الى أمر الله).

وأنت لم تكن مع الباغية على
العادلة, ولا مع العادلة على الباغية.

أجابه سعد قائلا:


" ما كنت لأقاتل رجلا قال له
رسول الله: أنت مني بمنزلة هرون من موسى الا أنه لا نبي بعدي".




**





وذات يوم من أيام الرابع
والخمسين للهجرة, وقد جاوز سعد الثمانين, كان هناك في داره بالعقيق يتهيأ لقاء
الله.

ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة
فيقول:

[ كان رأس أبي في حجري, وهو
يقضي, فبكيت وقال: ما يبكيك يا بنيّ..؟؟

ان الله لا يعذبني أبدا وأني من
أهل الجنة]..!!

ان صلابة ايمانه لا يوهنها حتى
رهبة الموت وزلزاله.

ولقد بشره الرسول عليه الصلاة
والسلام, وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق ايمان.. واذن ففيم
الخوف..؟

[ ان الله لا يعذبني أبدا, واني
من أهل الجنة].



بيد أنه يريد أن يلقى الله وهو يحمل أروع وأجمل
تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار الى خزانته ففتوحها, ثم أخرجوا
منها رداء قديما قي بلي وأخلق, ثم أمر أهله أن يكفنوه فيه قائلا:


[ لقد لقيت المشركين فيه يوم
بدر, ولقد ادخرته لهذا اليوم]..!!



اجل, ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب.. انه
العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشها صاحبها مؤمنا, صادقا شجاعا!!


وفوق أعناق الرجال حمل الى
المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة, ليأخذ مكانه في سلام الى جوار ثلة طاهرة عظيمة
من رفاقه الذين سبقوه الى الله, ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع
وثراه.



**





وداعا يا سعد..!!

وداعا يا بطل القادسية, وفاتح
المدائن, ومطفىء النار المعبودة في فارس الى الأبد..!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله بلال بن رباح و صهيب بن سنان   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 11, 2011 9:40 pm



بلال بن رباح


الساخر من
الأهوال




كان عمر بن الخطاب, اذا ذكر أبو بكر قال:


" أبو بكر سيدنا وأعتق
سيّدنا"..

يعني بلالا رضي الله عنه..


وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو
رجل عظيم ومحظوظ..

لكن هذا الرجل الشديد السمرة,
النحيف الناحل, المفرط الطول الكث الشعر, الخفيف العارضين, لم يكن يسمع كلمات المدح
والثناء توجه اليه, وتغدق عليه, الا ويحني رأسه ويغض طرفه, ويقول وعبراته على
وجنتيه تسيل:

"انما أنا حبشي.. كنت بالأمس
عبدا"..!!

فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس
عبدا..!!

انه "بلال بن رباح" مؤذن
الاسلام, ومزعج الأصنام..

انه احدى معجزات الايمان
والصدق.

احدى معجزات الاسلام
العظيم..

في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ
الاسلام الى اليوم, والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..


أي أن هناك مئات الملايين من
البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا, وحفظوا اسمه, وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا
أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!

وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال
يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر, أو
باكستان, أو الصين..

وفي الأمريكيتين, وأوروبا
وروسيا..

وفي العراق , وسوريا, وايران
والسودان..

في تونس والمغرب
والجزائر..

في أعماق أفريقيا, وفوق هضاب
آسيا..

في كل يقعة من الأرض يقطنها
مسلمون, تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟

فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه
العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه, فيقول:


"أحد.. أحد.."




وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام
بلالا.. فاعلم أن بلال هذا, لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق, يرعى ابل سيّده
على حفنات من التمر, حتى يطو به الموت, ويطوّح به الى أعماق النسيان..


لكن صدق ايمانه, وعظمة الدين
الذي آمن به بوأه في حياته, وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء
والشرفاء والكرماء...

ان كثيرا من عليّة البشر, وذوي
الجاه والنفوذ والثروة فيهم, لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد
الحبشي..!!

بل ان كثيرا من أبطال التاريخ
لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..

ان سواد بشرته, وتواضع حسبه
ونسبه, وهوانه على الانس كعبد رقيق, لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا, من أن يتبوأ
المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه, وطهره, وتفانيه..



ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه
أي حساب, الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..

فلقد كان الناس يظنون أن عبدا
مثل بلال, ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل, ولا حول, ولا يملك من حياته شيئا,
فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله
وماشيته..

كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن,
لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..

ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا,
فيقدر على ايمان, هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام
العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا
الرسول..!!

أجل.. بلال بن رباح!


أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر
عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!



**





انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا
لأناس من بني جمح بمكة, حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..


كان يعيش عيشة الرقيق, تمضي
أيامه متشابهة قاحلة, لا حق له في يومه, ولا أمل له في غده..!!


ولقد بدأت أنباء محمد تنادي
سمعه, حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها, وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم,
سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..


لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع
أصدقائه حينا, وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا, وغمّا وشرا..




وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ
المجنون, الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه
البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة
اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!

أجل انه ليسمعهم يعجبون,
ويحارون, في هذا الذي جاء به محمد..!!

ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد
يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان لم يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله,
حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!

سمعهم يتحدّثون عن
أمانته..

عن وفائه..


عن رجولته وخلقه..


عن نزاهته ورجاحة عقله..


وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي
تحملهم على تحديّه وعداوته, تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش
ثانيا, ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني, كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة
العرب كلها, ثم الحقد على بني هاشم, أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!




**





وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله, ويسمع في
أعماق روحه الخيّرة رنينه, فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويسلم..


ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع..
وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها
الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من
عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..

عبدهم الحبشي يسلم ويتبع
محمد..؟!

ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا
بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!


ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام
بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها, وحماة الوثنية فيها...!




**





أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام
وحده, وان كان الاسلام أحق به, ولكنه شرف للانسانية جميعا..

لقد صمد لأقسى الوان التعذيب
صمود البرار العظام.

ولكأنما جعله الله مثلا على أن
سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها, واعتصمت
بباريها, وتشبثت بحقها..

لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين
في زمانه, وفي كل زمان, للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا, ولا
بملئها عذابا..

لقد وضع عريانا فوق الجمر, على
أن يزيغ عن دينه, أو يزيف اقتناعه فأبى..



لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام, والاسلام,
من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير, والدفاع عن
حريته وسيادته..

لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة
التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان,
ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال, ويلقون به فوق جسده
وصدره..

ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل
يوم, حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه, فرضوا آخر الأمر أن يخلوا
سبيله, على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم, ولا تتحدث قريش
أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..



ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي
يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه, ويشتري بها حياته نفسه, دون أن يفقد ايمانه, ويتخلى
عن اقتناعه..

حتى هذه الكلمة الواحدة رفض
بلال أن يقولها..!

نعم لقد رفض أن يقولها, وصار
يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"

يقولون له: قل كما نقول..


فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية
كاوية:

"ان لساني لا يحسنه"..!!


ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره,
حتى اذا حان الأصيل أقاموه, وجعلوا في عنقه حبلا, ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به
جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".




وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:


غدا قل كلمات خير في آلهتنا, قل
ربي اللات والعزى, لندعك وشأنك, فقد تعبنا من تعذيبك, حتى لكأننا نحن
المعذبون!

فيهز رأسه ويقول:" أحد..
أحد..".

ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا
وغيظا, ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد
والسادة مثلا.

ويجيب بلال في يقين المؤمن
وعظمة القديس:

"أحد.. أحد.."


ويعود للحديث والمساومة, من وكل
اليه تمثيل دور المشفق عليه, فيقول:

خل عنك يا أميّة.. واللات لن
يعذب بعد اليوم, ان بلالا منا أمه جاريتنا, وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث
قريش وسخريّتها..

ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة
الماكرة, ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر, ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:


"أحد.. أحد.."


وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة,
ويؤخذ بلال الى الرمضاء, وهو صابر محتسب, صامد ثابت.

ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو
يعذبونه, ويصيح بهم:

(أتقتلون رجلا أن يقول ربي
الله)؟؟

ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ
أكثر من ثمنه واتركه حرا..

وكأنما كان أمية يغرق وأدركه
زورق النجاة..



لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن
تحريره اذ كان اليأس من تطويع بلال قد بلغ في نفوسهم أشده, ولأنهم كانوا من التجار,
فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..

باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره, وأخذ بلال مكانه
بين الرجال الأحرار...



وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به
الى الحرية قال له أمية:

خذه, فواللات والعزى, لو أبيت
الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..

وفطن أبو بكر لما في هذه
الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..


ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا
الذي قد صار أخا له, وندّا,أجاب أمية قائلا:

والله لو أبيتم أنتم الا مائة
أوقية لدفعتها..!!



وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره..
وكان عيدا عظيما!

وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى
المدينة, واستقرارهم بها, يشرّع الرسول للصلاة أذانها..

فمن يكون المؤذن للصلاة خمس
مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟

انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث
عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".

لقد وقع اختيار الرسول عليه
اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.

وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ
الأفئدة ايمانا, والأسماع روعة وهو ينادى:

الله أكبر.. الله أكبر


الله أكبر .. الله أكبر


أشهد أن لااله الا الله


أشهد أن لا اله الا الله


أشهد أن محمدا رسول الله


أشهد أن محمدا رسول الله


حي على الصلاة


حي على الصلاة


حي على الفلاح


حي على الفلاح


الله أكبر.. الله أكبر


لااله الا الله...




ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..


وتدور الحرب عنيفة قاسية
ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام, غزوة بدر.. تلك الغزوة
التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".



**





في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها, وخرج
أشرافها جميعا لمصارعهم..!!

ولقد همّ بالنكوص عن الخروج
"أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال, والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..




همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن
أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه, حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو
جالس وسط قومه, ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي, استجمر بهذه فانما أنت
من النساء..!!!

وصاح به أمية قائلا: قبحك الله,
وقبّح ما جئت به..

ثم لم يجد بدّا من الخروج مع
الغزاة فخرج..

أيّة أسرار للقدر, يطويها
وينشرها..؟

لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر
مشجع لأمية على تعذيب بلال, وغير بلال من المسلمين المستضعفين..


واليوم هو نفسه الذي يغريه
بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!

كما سيكون فيها مصرع عقبة
أيضا!

لقد كان أمية من القاعدين عن
الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!


ولكن الله بالغ أمره, فليخرج
أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما, جاء أوان تصفيته, فالديّان لا
يموت, وكما تدينون تدانون..!!



وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة
الذي كان أمية يصغي لتحريضه, ويسارع الى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء, هو نفسه
الذي سيقود أميّة الى مصرعه..

وبيد من..؟


بيد بلال نفسه.. وبلال
وحده!!

نفس اليد التي طوّقها أميّة
بالسلاسل, وأوجع صاحبها ضربا, وعذابا..

مع هذه اليد ذاتها, هي اليوم,
وفي غزوة بدر, على موعد أجاد القدر توقيته, مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا
وعدوا..

ولقد حدث هذا تماما..




وحين بدأ القتال بين الفريقين, وارتج جانب
المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية, وجاءه النذير..


ان الكلمة التي كان يرددها
بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة
الجديدة كلها..!!

"أحد..أحد"؟؟!!


أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا
النمو العظيم..؟؟



**





وتلاحمت السيوف وحمي القتال..


وبينما المعركة تقترب من
نهايتها, لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله, فاحتمى به, وطلب
اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..

وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره,
ثم سار به وسط المعمعة الى مكان الاسرى.

وفي الطريق لمح بلال فصاح
قائلا:

"رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا
نجوت ان نجا".

ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي
لطالما أثقله الغرور والكبر, فصاح به عبد الرحمن بن عوف:

"أي بلال.. انه أسيري".


أسير والحرب مشبوبة
دائرة..؟

أسير وسيفه يقطر دما مما كان
يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟

لا.. ذلك في رأي بلال ضحك
بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..

سخر حتى لم يترك من السخرية
بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم, وهذا المأزق, وهذا المصير..!!


ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على
اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف, فصاح بأعلى صوته في المسلمين:


"يا أنصار الله.. رأس الكفر
أمية بن خلف, لا نجوت ان نجا"...!

وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر
سيوفهم المنايا, وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل
لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحام.

وألقى بلال على جثمان أمية الذي
هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة, ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:


"أحد.. أحد.."




**





لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح
لدى بلال في مثل هذا المقام..

فلو أن اللقاء بين بلال وأمية
تمّ في ظروف أخرى, لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح, وما كان لرجل في مثل ايمانه
وتقاه أن يبخل به.

لكن اللقاء الذي تم بينهما, كان
في حرب, جاءها كل فريق ليفني غريمه..



السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا
تتواثب, ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار
تعذيب.

وأين يبصره وكيف..؟


يبصره في ساحة الحرب والقتال
يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين, ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح
به..

في ظروف كهذه يلتقي الرجلان
فيها, لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح
الجميل..؟؟



**





وتمضي الأيام وتفتح مكة..


ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على
رأس عشرة آلاف من المسلمين..

ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا
المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!


لقد جاء الحق وزهق
الباطل..

ومن اليوم لا عزى.. ولا لات..
ولا هبل.. لن يحني الانسان بعد اليوم هامته لحجر, ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء
ضمائرهم الا الله الذي ليس كمثله شيء, الواحد الأحد, الكبير المتعال..


ويدخل الرسول الكعبة, مصطحبا
معه بلال..!

ولا يكاد يدخلها حتى يواجه
تمثالا منحوتا, يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام, فيغضب الرسول
ويقول:

"قاتلهم الله..


ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام..
ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من
المشركين".



ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد, ويؤذن.


ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان,
والمكان, والمناسبة..!!

كفت الحياة في مكة عن الحركة,
ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة, تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء
بلال.



والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:


أهذا هو محمد وفقراؤه الذين
أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟

أهذا هو حقا, ومعه عشرة آلاف من
المؤمنين..؟؟

أهذا هو حقا الذي قاتلناه,
وطاردناه, وقتلنا أحب الناس اليه..؟

أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا
من لحظات ورقابنا بين يديه, ويقول لنا:

"اذهبوا فأنتم
الطلقاء"..!!



ولكن ثلاثة من أشراف قريش, كانوا جلوسا بفناء
الكعبة, وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه, ويرسل من فوق ركامها
المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..


أما هؤلاء الثلاثة فهم,
أبوسفيان بن حرب, وكان قد أسلم منذ ساعات, وعتّاب بن أسيد, والحارث بن هشام, وكانا
لم يسلما بعد.



قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:


لقد أكرم الله اسيدا, ألا يكون
سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:

أما والله لو أعلم أن محمدا محق
لاتبعته..!!

وعقب أبو سفيان الداهية على
حديثهما قائلا:

اني لا أقول شيئا, فلو تكلمت
لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم, وقرأ وجوههم في لحظة, قال
وعيناه تتألقان بنور الله, وفرحة النصر:

قد علمت الذي قلتم..!!!


ومضى يحدثهم بما قالوا..


فصاح الحارث وعتاب:


نشهد أنك رسول الله, والله ما
سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!

واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في
أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:


" يامعشر قريش..


ان الله قد أذهب عنكم نخوة
الجاهلية وتعظمها بالآباء..

الناس من آدم وآدم من
تراب"..



**





وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم,
يشهد معه المشاهد كلها, يؤذن للصلاة, ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي
أخرجه من الظلمات الى النور, ومن الرق الى الحريّة..

وعلا شأن الاسلام, وعلا معه شأن
المسلمين, وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..

لكن بلالا بقي كما هو كريما
متواضعا, لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!






ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال
لأبيهما:

"أنا بلال, هذا أخي عبدان من
الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد
لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!



**





وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا,
ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..

وذهب بلال الى خليفة رسول الله
يقول له:

" يا خليفة رسول الله..


اني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: أفضل عمل للمؤمن الجهاد في سبيل الله"..

فقال له أبو بكر: فما تشاء يا
بلال..؟

قال: أردت أن أرابط في سبيل
الله حتىأموت..

قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟


قال بلال وعيناه تفيضان من
الدمع, اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.

قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا
يا بلال..

قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون
لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..


قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا
بلال..

ويختلف الرواة, فيروي بعضهم أنه
سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.

ويروي بعضهم الآخر, أنه قبل
رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة, فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى
الشام.



على أية حال, فقد نذر بلال بقية حياته وعمره
للمرابطة في ثغور الاسلام, مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.




ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ
المهيب, ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات
فيختفي صوته تحت وقع أساه, وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.

وكان آخر أذان له أيام زار أمير
المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.


ودعا أمير المؤمنين بلال, وقد
حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.

وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة
الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا..
وكان عمر أشدهم بكاء..!!



**





ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما
أراد.



وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات
رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...






صهيب بن سنان

ربح البيع يا أبا يحيى!!



ولد في أحضان النعيم..

فقد اكن أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل, وفي قصره القائم على شاطئ الفرات, مما يلي الجزيرة والموصل, عاش الطفل ناعما سعيدا..

وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..

ويقتنصه تجار الرقيق, وينتهي طوافه الى مكة, حيث بيع لعبد الله بن جدعان, بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم, حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.

ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلاصه, فيعتقه ويحرره, ويهيء له فرصة الاتجار معه.

وذات يوم.. ولندع صديقه عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:

" لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..

فقلت له: ماذا تريد..؟

فأجابني وما تريد أنت..؟

قلت له: أريد أن أدخل على محمد, فأسمع ما يقول.

قال: وأنا اريد ذلك..

فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم, فعرض علينا الاسلام فأسلمنا.

ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..

ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!



عرف صهيب طريقه اذن الى دار الأرقم..

عرف طريقه الى الهدى والنور, وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..

فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!

عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق, ونظام وحياة..

وتخطي عتبة دار الأرقم, التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال, واسع, وعريض..

واقتحام تلك العتبة, كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام..!

وبالنسبة للفقراء, والغرباء, والرقيق, كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.



وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار, عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟

انه نداء الايمان الذي لا يقاوم..

وانها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام, الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..

وانها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم, وضلاله وافلاسه..

وانها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي اليه من ينيب...

أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..

وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!

ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..

وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول, وسار تحت راية الاسلام فيقول:

" لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..

ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..

ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..

ولا غزا غزاة قط, أوّل الزمان وآخره, الا كنت فيها عن يمينه أو شماله..

وما خاف المسلمون أمامهم قط, الا كنت أمامهم..

ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..

وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!

هذه صورة باهرة, لايمان فذ وولاء عظيم..

ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن اخوانه أجمعين, أهلا لهذا الايمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله, ووضع يمينه في يمين الرسول..

يومئذ أخذت علاقاته بالناس, وبالدنيا, بل وبنفسه, طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة, زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.

ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور. فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة, الى عشق الخطر وحب الموت..



ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته, ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب خلالها تردد ولا نكوص.

فعندما همّ الرسول بالهجرة, علم صهيب بها, وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة, هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..

بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..

ووقع صهيب في بعض فخاخهم, فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..

وحاور صهيب وداور, حتى استطاع أن يفلت من شانئيه, وامتطى ظهر ناقته, وانطلق بها الصحراء وثبا..

بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوه.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:

" يا معشر قريش..

لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون اليّ حتى ارمي كل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء, فأقدموا ان شئتم..

وان شئتم دللتكم على مالي, وتتركوني وشاني"..



ولقد استاموا لأنفسهم, وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:

أتيتنا صعلوكا فقيرا, فكثر مالك عندنا, وبلغت بيننا ما بلغت, والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟

فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته, وتركوه وشأنه, وقفلوا الى مكة راجعين..



والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك, وفي غير حذر, فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!

واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا, حتى أردك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..



كان الرسول جالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللاا:

" ربح البيع أبا يحيى..!!

ربح البيع أبا يحيى..!!

وآنئذ نزلت الآية الكريمة:

( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله, والله رؤوف بالعباد)..



أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها, ولم يحس قط أنه المغبون..

فما المال, وما الذهب وما الدنيا كلها, اذا بقي له ايمانه, واذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره ارادته..؟؟

كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه, خفيف الروح, حاضر النكتة..

رآه الرسول يأكل رطبا, وكان باحدى عينيه رمد..

فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟

فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الآخرى"..!!

وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله, يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".

حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟

فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:

" خياركم من أطعم الطعام".



**



ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم, فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..

فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..

وعندما احس نهاية الأجل, فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:

" وليصلّ بالناس صهيب"..

لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة, ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..



وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة, ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين, واختيار الخليفة الجديد, من يؤم المسلمين في الصلاة..؟

ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فاذا اختار, فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..

ولقد اختار عمر صهيبا..

اختاره ليكون امام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..

اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة, فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان..


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله معاذ بن جبل وابى عبيده بن الجراح   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 11, 2011 9:42 pm

معاذ بن جبل

أعلمهم بالحلال والحرام



عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم, شاب مشرق الوجه, رائع النظرة, برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!

ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..

هو اذن رجل من الأنصار, بايع يوم العقبة الثانية, فصار من السابقين الأولين.

ورجل له مثل اسبقيته, ومثل ايمانه ويقينه, لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..

على أن آلق مزاياه, وأعظم خصائصه, كان فقهه..

بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:

" أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..

وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله, وشجاعة ذكائه. سأله الرسول حين وجهه الى اليمن:

" بما تقضي يا معاذ؟"

فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..

قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله"..؟

"أقضي بسنة رسوله"..

قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله"..؟

قال معاذ:" أجتهد رأيي, ولا آلوا"..

فتهلل وجه الرسول وقال:

" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".



فولاء معاذ لكتاب الله, ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه, ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المستترّة, التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.

ولعل هذه القدرة على الاجتهاد, والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل, هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه, صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".

وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..

فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:

" فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون, كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي الحلقة شاب شديد الأدمة, حلو المنطق, وضيء, وهو أشبّ القوم سنا, فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم, ولا يحدثهم الا حين يسألونه, ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".



وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:

" دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا, صامت لا يتكلم. فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه. فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".



وهذا شهر بن حوشب يقول:

" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل, نظروا اليه هيبة له"..



ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..

وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:

" لولا معاذ بن جبل لهلك عكر"..



ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه, ومنطقا آسرا مقنعا, ينساب في هدوء واحاطة..



فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه, نجده كما أسلفنا واسط العقد..

فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت, لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..

واذا اختلف الجالسون في أمر, أعادوه الى معاذ ليفصل فيه..

فاذا تكلم, كان كما وصفه أحد معاصريه:

" كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..



ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه, وفي اجلال المسلمين له, أيام الرسول وبعد مماته, وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!

وكان معاذ سمح اليد, والنفس, والخلق..

فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.

ومات الرسول صلى الله عليه وسلم, ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..



وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن, وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!

ولم ينتظر عمر, بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..



كان معاذ ظاهر الكف, طاهر الذمة, ولئن كان قد أثري, فانه لم يكتسب اثما, ولم يقترف شبهة, ومن ثم فقد رفض عرض عمر, وناقشه رأيه..

وتركه عمر وانصرف..

وفي الغداة, كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..

ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:

" لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء, أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..

وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله, فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..

فنظر عمر الى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..

ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا, لو علم أنه أخذه بغير حق..

وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..

وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور, فمنهم الطائر المحلق, ومنهم المهرول, ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.



**



ويهاجر معاذ الى الشام, حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها, فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ, استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام, ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..

وكان عمر رضي الله عنه يقول:

" لو استخلفت معاذ بن جبل, فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعت نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل , كان معاذ بين أيديهم"..

والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا, هو الاستخلاف على المسلمين جميعا, لا على بلد أو ولاية..

فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..

لإاجاب قائلا:

" لو كان معاذ بن جبل حيا, ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل, فسألني: من ولّيت على أمة محمد, لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل, بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".



**



قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:

" يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..

أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة, ولا سند ولا عون الا بالله, ومن الله العلي العظيم..

ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..

لقيه الرسول ذات صباح فسأله:

"كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟

قال:

" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".

قال النبي:

:ان لكل حق حقيقة, فما حقيقة ايمانك"..؟؟

قال معاذ:

" ما أصبحت قط, الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..

ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..

وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..

وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..

وأهل النار في النار يعذبون.."

فقال له الرسول:

" عرفت فالزم"..

أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله, فلم يعد يبصر شيئا سواه..



ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:

"ان معاذا كان أمّة, قانتا لله حنيفا, ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام"..



**



وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم, والى ذكر الله..

وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:

" احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق, فان الحق نورا"..!!

وكان يرى العبادة قصدا, وعدلا..

قال له يوما أحد المسلمين: علمني.

قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟

قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..

فقال له معاذ:

" صم وافطر..

وصلّ ونم..

واكتسب ولا تأثم.

ولا تموتنّ الا مسلما..

واياك ودعوة المظلوم"..

وكان يرى العلم معرفة, وعملا فيقول:

" تعلموا ما شئتم أن تتعلموا, فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا"..



وكان يرى الايمان بالله وذكره, استحضارا دائما لعظمته, ومراجعة دائمة لسلوك النفس.

يقول الأسود بن هلال:

" كنا نمشي مع معاذ, فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..

ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة, ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه, واستغراقه في محاسبته نفسه..



**



وحان أجل معاذ, ودعي للقاء الله...

وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي, وتجري على لسانه ,ان استطاع الحديث, كلمات تلخص أمره وحياته..

وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.

فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:

" الهم اني كنت أخافك, لكنني اليوم أرجوك, اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار, ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات, ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة"..

وبسط يمينه كأنه يصافح الموت, وراح في غيبوبته يقول:

" مرحبا بالموت..

حبيب جاء على فاقه"..



وسافر معاذ الى الله...




أبو عبيدة بن
الجرّاح

أمين هذه الأمة





من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:


" ان لكل أمة أمينا وأمين هذه
الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟

من هذا الذي أرسله النبي في
غزوة ذات السلاسل مددا لعمرو بن العاص, وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر
وعمر..؟؟

من هذا الصحابي الذي كان أول من
لقب بأمير الأمراء..؟؟

من هذا الطويل القامة النحيف
الجسم, المعروق الوجه, الخفيف اللحية, الأثرم, ساقط الثنيتين..؟؟


أجل من هذا القوي الأمين الذي
قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:

" لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح
حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله, وأمين رسوله"..؟؟


انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله
الجرّاح..

أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي
الله عنه في الأيام الأولى للاسلام, قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار
الرقم, وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية, ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في
بدر, وأحد, وبقيّة المشاهد جميعها, ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر, ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر, نابذا
الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد, وتقوى, وصمود وأمانة.




**





عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه
وسلم, على أن ينفق حياته في سبيل الله, كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه
الكلمات الثلاث, في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما
يتطلبه من بذل وتضحية..



ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله, وهو لا يرى في
نفسه, وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله
وفي مرضاته, فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا
رهبة..

ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد
الذي وفى به بقية الأصحاب, رأى الرسول في مسلك ضميره, ومسلك حياته ما جعله أهلا
لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه,وأهداه اليه, فقال عليه الصلاة والسلام:


" أمين هذه الأمة, أبو عبيدة بن
الجرّاح".



**





ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته, لهي أبرز
خصاله.. فففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين, لا على احراز النصر في
الحرب, بل قبل ذلك ودون ذلك, على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, فاتفق مع
نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..

ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله,
في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..




وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة
بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل
هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل, ترقبانه في حرص
وقلق..

وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر
يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم, انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث
يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!


وفي احدى جولاته تلك, وقد بلغ
القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين, وكانت عيناه كعادتهما
تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله, وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما
ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي, وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف, حتى
فرّقهم عنه, وطار صوب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه, ورأى الرسول الأمين
يمسح الدم بيمينه وهو يقول:

" كيف يفلح قوم خضبوا وجه
نبيّهم, وهو يدعهم الى ربهم"..؟

ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي
يضعه الرسول فوق رأسه قد دخلتا في وجنتي النبي, فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه
على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول, فسقطت ثنيّة, ثم نزع الحلقة الأخرى,
فسقطت ثنيّة الثانية..

وما أجمل أن نترك الحديث لأبي
بكر الصديق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:

" لما كان يوم أحد, ورمي رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر, أقبلت أسعى الى رسول
الله صلى الله عليه وسلم, وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا, فقلت: اللهم
اجعله طاعة, حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, واذا هو أبو عبيدة
بن الجرّاح قد سبقني, فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول
الله صلى الله عليه وسلم..

فتركته, فأخذ أبو عبيدة بثنيّة
احدى حلقتي المغفر, فنزعها, وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..


ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية
أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!



وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت, كان أبو
عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..

فاذا أرسله النبي صلى الله عليه
وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد
سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة, والسفر بعيد, استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة,
وراح هو وجنوده يقطعون الأرض, وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تمرا, حتى اذا
أوشك التمر أن ينتهي, يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر
جميعا راحوا يتصيّدون الخبط, أي ورق الشجر بقسيّهم, فيسحقونه ويشربون عليه الماء..
ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..

لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا
حرمان, ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي
اختارهم رسول الله لها..!!



**





لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة
أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...

ويوم جاء وفد نجران من اليمن
مسلمين, وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام, قال لهم رسول
الله:

" لأبعثن معكم رجلا أمينا, حق
أمين, حق أمين.. حق أمين"..!!

وسمع الصحابة هذا الثناء من
رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول
عليه, فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..

يقول عمر بن الخطاب رضي الله
عنه:

" ما أحببت الامارة قط, حبّي
اياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت الى الظهر مهجّرا, فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم,
ثم نظر عن يمينه, وعن يساره, فجعلت أتطاول له ليراني..

فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى
أبا عبيدة بن الجرّاح, فدعاه, فقال: أخرج معهم, فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا
فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!

ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن
أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..


انما تعني أنه كان واحدا من
الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية, وهذا التقدير الكريم..

ثم كان الواحد أو الوحيد الذي
تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة, وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه
مزاياه لانجازها..

وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول
صلى الله عليه وسلم أمينا, عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة
تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..



ولقد سار تحت راية الاسلام أنى سارت, جنديّا,
كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا, كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة
المقاتلين..

وعندما كان خالد بن الوليد..
يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده
بتولية أبي عبيدة مكان خالد..



لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر
الجديد, حتى استكتمه الخبر, وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد, فطن, أمين.. حتى
أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..

وآنئذ, تقدّم اليه في أدب جليل
بكتاب أمير المؤمنين!!

ويسأله خالد:


" يرحمك الله يا أبا عبيدة. ما
منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟

فيجيبه أمين الأمة:


" اني كرهت أن أكسر عليك حربك,
وما سلطان الدنيا نريد, ولا للدنيا نعمل, كلنا في الله اخوة".!!!




**





ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام, ويصير
تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..

فما كنت تحسبه حين تراه الا
واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..

وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل
الشام عنه, وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..


فانظروا ماذا قال للذين رآهم
يفتنون بقوته, وعظمته, وأمانته..

" يا أيها الناس..


اني مسلم من قريش..


وما منكم من أحد, أحمر, ولا
أسود, يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ

حيّاك الله يا أبا عبيدة..


وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا
علمك..

مسلم من قريش, لا أقل ولا
أكثر.

الدين: الاسلام..


والقبيلة: قريش.


هذه لا غير هويته..


أما هو كأمير الأمراء, وقائد
لأكثر جيوش الاسلام عددا, وأشدّها بأسا, وأعظمها فوزا..

أما هو كحاكم لبلاد الشام,أمره
مطاع ومشيئته نافذة..

كل ذلك ومثله معه, لا ينال من
انتباهه لفتة, وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!



**





ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام,
ويسأل مستقبليه:

أين أخي..؟


فيقولون من..؟


فيجيبهم: أبو عبيدة بن
الجراح.

ويأتي أبو عبيدة, فيعانقه أمير
المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره, فلا يجد
فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه, وترسه ورحله..


ويسأله عمر وهو يبتسم:


" ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع
الناس"..؟

فيجيبه أبو عبيدة:


" يا أمير المؤمنين, هذا
يبلّغني المقيل"..!!



**





وذات يوم, وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في
المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع, جاءه الناعي, أن قد مات أبو عبيدة..


وأسبل الفاروق جفنيه على عينين
غصّتا بالدموع..

وغاض الدمع, ففتح عينيه في
استسلام..

ورحّم على صاحبه, واستعاد
ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..

وأعاد مقالته عنه:


" لو كنت متمنيّا, ما تمنيّت
الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..



**





ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية
الفرس, واضطهاد الرومان..

وهناك اليوم تحت ثرى الأردن
يثوي رفات نبيل, كان مستقرا لروح خير, ونفس مطمئنة..

وسواء عليه, وعليك, أن يكون
قبره اليوم معروف أو غير معروف..

فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون
بحاجة الى من يقودك اليه..

ذلك أن عبير رفاته, سيدلك
عليه..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بريق الامل
من اسره مترو
من اسره مترو
بريق الامل


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 2939
نقاط : 3423
تاريخ التسجيل : 16/02/2011
الموقع : الجيزه

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 11, 2011 10:54 pm

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص 30283_1496147441821e8a49
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
ربيع محمد
ناظر محطة الابداع
ناظر محطة الابداع
ربيع محمد


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 5716
نقاط : 8102
تاريخ التسجيل : 17/07/2010
العمر : 65
الموقع : الجيزه- مصر

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالسبت مارس 12, 2011 1:06 am

شكرا موضوع جيد فيه الدروس والعبر
شتان الفارق بين هؤلاء الرجال ...........
والعياذ بالله الرجال اللى كانو حول الرئيس لعنهم الله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله حمزه بن عبد المطلب و سعيد بن عامر   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالسبت مارس 12, 2011 8:11 am

New Page 1

حمزة بن عبد المطلب


أسد الله وسيّد
الشهداء




كانت مكة تغطّ في نومها, بعد يوم مليء بالسعي,
وبالكدّ, وبالعبادة وباللهو..

والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم
هاجعين.. غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه, يأوي الى فراشه مبركا, ويستريح
ساعات قليلة, ثم ينهض في شوق عظيم, لأنه مع الله على موعد, فيعمد الى مصلاه في
حجرته, ويظل يناجي ربه ويدعوه.. وكلما استيقظت زوجته على أزير صدره الضارع
وابتهالاته الحارّه والملحة, أخذتها الشفقة عليه, ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من
النوم, يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته:

" لقد انقضى عهد النوم يا
خديجة"..!!

لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد,
وان كان قد بدأ يشغل انتباهها, فلقد كان حديث عهد بدعوته, وكان يقول كلمته سرا
وهمسا.

كان الذين آمنوا به يومئذ
قليلين جدا..

وكان هناك من غير المؤمنين به
من يحمل له كل الحب والاجلال, ويطوي جوانحه على شوق عظيم الى الايمان به والسير في
قافلته المباركة, لا يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة, وضغوط التقاليد والوراثة,
والتردد بين نداء الغروب, ونداء الشروق.

من هؤلاء كان حمزة بن عبد
المطلب.. عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.



**





كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله.. وكان على
بيّنة من حقيقة أمره, وجوهر خصاله..

فهو لا يعرف معرفة العم بابن
أخيه فحسب, بل معرفة الأخ بالأخ, والصديق بالصديق.. ذلك أن رسول الله وحمزة من جيل
واحد, وسن متقاربة. نشأ معا وتآخيا معا, وسارا معا على الدرب من أوله خطوة
خطوة..



ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق, فأخذ
حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة, وافساح مكان لنفسه بين زعماء مكة وسادات
قريش.. في حين عكف محمد على اضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق الى الله وعلى
حديث قلبه الذي نأى به من ضوضاء الحياة الى التأمل العميق, والى التهيؤ لمصافحة
الحق وتلقيه..

نقول لئن كان شباب كل منهما قد
اتخذ وجهة مغايرة, فان حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه وابن أخيه..
تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة,
وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم.

في صبيحة ذلك اليوم, خرج حمزة
كعادته.

وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف
قريش وساداتها فجلس معهم, يستمع لما يقولون..

وكانوا يتحدثون عن محمد..


ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ
عليهم القلق من دعوة ابن أخيه.. وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد, والغيظ
والمرارة.

لقد كانوا من قبل لا يبالون, أو
هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة.

أما اليوم, فوجوههم تموج موجا
بالقلق, والهمّ, والرغبة في الافتراس.

وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا..
ورماهم بالمبالغة, وسوء التقدير..



وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الانس
علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن الأمر حتى تنام قريش, ثم تصبح
يوما وقد ساء صاحبها, وظهر أمر ابن أخيه عليها...

ومضوا في حديثهم يزمجرون,
ويتوعدون.. وحمزة يبتسم تارّة, ويمتعض أخرى, وحين انفض الجميع وذهب كل الى سبيله,
كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة, وخواطر جديدة. راح يستقبل بها أمر ابن أخيه,
ويناقشه مع نفسه من جديد...!!!



**





ومضت الأيام, ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم
تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول..

ثم تتحوّل همهمة قريش الى
تحرّش. وحمزة يرقب الموقف من بعيد..

ان ثبات ابن أخيه ليبهره.. وان
تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها, برغم ما عرفت من تفان
وصمود..!!

ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع
أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه, فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد الى
وعي حمزة منفذا أو سبيلا..

فحمزة خير من عرف محمدا, من
طفولته الباكرة, الى شبابه الطاهر, الى رجولته الأمينة السامقة..


انه يعرفه تماما كما يعرف نفسه,
بل أكثر مما يعرف نفسه, ومنذ جاءا الى الحياة معا, وترعرعا معا, وبلغا أشدّهما معا,
وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس..!! لا يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة,
لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا, أو قانطا, أو طامعا,أو لاهيا, أو مهزوزا...


وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم
فحسب, بل وبرجاحة العقل, وقوة الارادة أيضا..

ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن
يتخلف عن متابعة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة.. وهكذا طوى صدره الى حين على
أمر سيتكشّف في يوم قريب..



**





وجاء اليوم الموعود..

وخرج حمزة من داره,متوشحا قوسه,
ميمّما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة, ورياضته الأثيرة, الصيد.. وكان صاحب
مهارة فائقة فيه..

وقضى هناك بعض يومه, ولما عاد
من قنصه, ذهب كعادته الى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا الى داره.


وقريبا من الكعبة, لقته خادم
لعبدالله بن جدعان..

ولم تكد تبصره حتى قالت له:

" يا أبا عمارة.. لو رأيت ما
لاقي ابن أخيك محمد آنفا, من أبي الحكم بن هشام.. وجده جالسا هناك , فآذاه وسبّه
وبلغ منه ما يكره"..

ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل
برسول الله..

واستمع حمزة جيدا لقولها, ثم
أطرق لحظة, ثم مد يمينه الى قوسه فثبتها فوق كتفه.. ثم انطلق في خطى سريعة حازمة
صوب الكعبة راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل.. فان هو لم يجده هناك, فسيتابع البحث
عنه في كل مكان حتى يلاقيه..

ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة, حتى
يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش..

وفي هدوء رهيب, تقدّم حمزة من
أبي جهل, ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه, وقبل أن يفيق
الجالسون من الدهشة, صاح حمزة في أبي جهل:

" أتشتم محمدا, وأنا على دينه
أقول ما يقول..؟! الا فردّ ذلك عليّ ان استطعت"..



وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الاهانة التي نزلت
بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه, وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم
كالصاعقة.. الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه, ويقول ما
يقوله..

أحمزة يسلم..؟


أعزّ فتيان قريش وأقواهم
شكيمة..؟؟

انها الطامّة التي لن تملك قريش
لها دفعا.. فاسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالاسلام, وسيجد محمد حوله من القوة
والبأس ما يعزز دعوته ويشدّ ازره, وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم
أصنامها وآلهتها..!!

أجل أسلم حمزة, وأعلن على الملأ
الأمر الذي كان يطوي عليه صدره, وترك الجمع الذاهل يجترّ خيبة أمله, وأبا جهل يلعق
دماءه النازفة من رأسه المشجوج.. ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى الى قوسه فثبتها فوق كتفه, واستقبل الطريق الى
داره في خطواته الثابتة, وبأسه الشديد..!



**





كان حمزة يحمل عقلا نافذا, وضميرا
مستقيما..

وحين عاد الى بيته ونضا عنه
متاعب يومه. جلس يفكر, ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب..


كيف أعلن اسلامه ومتى..؟


لقد أعلنه في لحظات الحميّة,
والغضب, والانفعال..

لقد ساءه أن يساء الى ابن اخيه,
ويظلم دون أن يجد له ناصرا, فيغضب له, وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم, فشجّ رأس أبي
جهل وصرخ في وجهه باسلامه...

ولكن هل هذا هو الطريق الأمثل
لك يغدار الانسان دين آبائه وقومه... دين الدهور والعصور.. ثم يستقبل دينا جديدا لم
يختبر بعد تعاليمه, ولا يعرف عن حقيقته الا قليلا..

صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق
محمد ونزاهة قصده..

ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا
جديدا, بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات, في لحظة غضب, مثلما صنع حمزة
الآن..؟؟؟



وشرع يفكّر.. وقضى أياما, لا يهدأ له خاطر..
وليالي لا يرقأ له فيها جفن..

وحين ننشد الحقيقة بواسطة
العقل, يفرض الشك نفسه كوسيلة الى المعرفة.

وهكذا, لم يكد حمزة يستعمل في بحث قضية الاسلام, ويوازن بين الدين القديم,
والدين الجديد, حتى ثارت في نفسه شكوك أرجاها الحنين الفطري الموروث الى دين
آبائه.. والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد..



واستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة, وآلهاها
وأصنامها... وعن الأمجاد الدينية التى أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة على قريش كلها,
وعلى مكة بأسرها.

لقد كان يطوي صدره على احترام
هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها..

ولكن اذا كان مقدورا له أن يكون
أحد أتباع هذه الدعوة, المؤمنين بها, والذائدين عنها.. فما الوقت المناسب للدخول في
هذا الدين..؟

لحظة غضب وحميّة..؟ أم أوقات
تفكير ورويّة..؟

وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره,
ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق..




وبدأ الانسلاخ من هذا التاريخ كله.. وهذا الدين القديم العريق, هوّة
تتعاظم مجتازها..

وعجب حمزة كيف يتسنى لانسان أن
يغادر دين آبائه بهذه السهولة وهذه السرعة.. وندم على ما فعل.. ولكنه واصل رحلة
العقل.. ولما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ الى الغيب بكل اخلاصه وصدقه..


وعند الكعبة, كان يستقبل السماء
ضارعا, مبتهلا, مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة ونور, كي يهتدي الى الحق والى
الطريق المستقيم..

ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ
فيقول:

".. ثم أدركني الندم على فراق
دين آبائي وقومي.. وبت من الشك في أمر عظيم, لا أكتحل بنوم..


ثم أتيت الكعبة, وتضرّعت الى
الله أن يشرح صدري للحق, ويذهب عني الريب.. فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينا..


وغدوت الى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري, فدعى الله أن يثبت قلبي على دينه.."


وهكذا أسلم حمزة اسلام
اليقين..



**





أعز الله الاسلام بحمزة.. ووقف شامخا قويا يذود
عن رسول الله, وعن المستضعفين من أصحابه..

ورآه أبو جهل يقف في صفوف
المسلمين, فأدرك أنها الحرب لا محالة, وراح يحرّض قريشا على انزال الأذى بالرسول
وصحبه, ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طريقها مغايظة وأحقاده..


ولم يستطع حمزة أن يمنع كل
الأذى ولكن اسلامه مع ذلك كان وقاية ودرعا.. كما كان اغراء ناجحا لكثير من القبائل
التي قادها اسلام حمزة أولا. ثم اسلام عمر بن الخطاب بعد ذلك الى الاسلام فدخلت فيه
أفواجا..!!

ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته,
وبأسه, وحياته, لله ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم:


"أسد الله, وأسد رسوله"..


وأول سرية خرج فيها المسلمون
للقاء عدو, كان أميرها حمزة..

وأول راية عقدها رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأحد من المسلمين كانت لحمزة..

ويوم التقى الجمعان في غزوة
بدر, كان أسد الله ورسوله هناك يصنع الأعاجيب..!!



**





وعادت فلول قريش من بدر الى مكة تتعثر في
هزيمتها وخيبتها... ورجع أبو سفيان مخلوع القلب, مطأطئ الراس. وقد خلّف على أرض
المعركة جثث سادة قريش, من أمثال أبي جهل.. وعتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة, وأميّة
بن خلف. وعقبة بن أبي معيط.. والأسود بن عبدالله المخزومي, والوليد بن عتبة..
والنفر بن الحارث.. والعاص بن سعيد.. وطعمة ابن عديّ.. وعشرات مثلهم من رجال قريش
وصناديدها.

وما كانت قريش لتتجرّع هذه
الهزيمة المنكرة في سلام... فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها, لتثأر لنفسها ولشرفها
ولقتلاها.. وصمّمت قريش على الحرب..



**





وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها,
ومعها حلفاؤها من قبائل العرب, وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى.

وكان زعماء قريش يهدفون
بمعركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين: الرسول صلى اله عليه وسلم, وحمزة رضي الله
عنه وأرضاه..

أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج
للحرب, يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة..




ولقد اختاروا قبل الخروج, الرجل الذي وكلوا
اليه أمر حمزة, وهو عبد حبشي, كان ذا
مهارة خارقة في قذف الحربة, جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه
ضربة قاتلة من رمحه, وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر, مهما يكن مصير
المعركة واتجاه القتال.

ووعدوه بثمن غال وعظيم هو
حريّته.. فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا
لجبير بن مطعم.. وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير"


" اخرج مع الناس وان أنت قتلت
حمزة فأنت عتيق"..!!

ثم أحالوه الى هند بنت عتبة
زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون..


وكانت هند قد فقدت في معركة بدر
أباها, وعمها, وأخاها, وابنها.. وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء, وأجهز على
البعض الآخر..

من أجل هذا كانت أكثر القرشيين
والقرشيّات تحريضا على الخروج للحرب, لا لشيء الا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن
الذي تتطلبه المغامرة..!!

ولقد لبثت أياما قبل الخروج
للحرب, ولا عمل لها الا افراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم
به..



ولقد وعدته ان هو نجح في قتل حمزة بأثمن ما
تملك المرأة من متاع وزينة, فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين
وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها, ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي:


" كل هذا لك, ان قتلت
حمزة"..!!

وسال لعاب وحشي, وطارت خواطره
توّاقة مشتاقة الى المعركة التي سيربح فيها حريّته, فلا يصير بعد عبدا أو رقيقا,
والتي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش, وزوجة زعيمها,
وابنة سيّدها..!!

كانت المؤمرة اذن.. وكانت الحرب
كلها تريد حمزة رضي الله عنه بشكل واضح وحاسم..



**





وجاءت غزوة أحد...

والتقى الجيشان. وتوسط حمزة أرض
الموت والقتال, مرتديا لباس الحرب, وعلى صدره ريشة النعام التي تعوّد أن يزيّن بها
صدره في القتال..

وراح يصول ويجول, لا يريد رأسا
الا قطعه بسيفه, ومضى يضرب في المشركين, وكأن المنايا طوع أمره, يقف بها من يشاء
فتصيبه في صميمه.!!



وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم..
وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة.. ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل,
ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم.. لولا تركهم مكانهم وفتحوا
الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة لقريش كلها, رجالها, ونسائها بل
وخيلها وابلها..!!



لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين
غفلة, واعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة.. وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديد
ويحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد وضعه حين رأى جيش محمد ينسحب ويولي الأدبار..
ولكن المفاجأة كانت قاسية عنيفة.

ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته
ونشاطه وبلاءه..

وأخذ يضرب عن يمينه وشماله..
وبين يديه ومن خلفه.. ووحشيّ هناك يراقبه, ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحنوه
ضربته..

ولندع وحشا يصف لنا المشهد
بكلماته:

[.. وكنت جلا حبشيا, أقذف
بالحربة قذف لحبشة, فقلما أخطئ بها شيئا.. فلما التقى الانس خرجت أنظر حمزة
وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق.. يهدّ الناس بسيفه هدّا, ما يقف
امامه شيء, فوالله اني لأتهيأ له أريده, وأستتر منه بشجرة لأقتحمه أو ليدنو مني, اذ
تقدّمني اليه سباع بن عبد العزى. فلما رآه حمزة صاح به: هلمّ اليّ يا بن مقطّعة
البظرو. ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه..

عندئذ هززت حربتي حتى اذا رضيت
منها دفعتها فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه.. ونهض نحوي فغلب على امره ثم
مات..

وأتيته فأخذت حربتي, ثم رجعت
الى المعسكر فقعدت فيه, اذ لم يكن لي فيه حاجة, فقد قتلته لأعتق..]




ولا بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه:


[فلما قدمت مكة أعتقت, ثم أقمت
بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فهربت الى الطائف..


فلما خرج وفد الطائف الى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليسلم تعيّت عليّ المذاهب. وقلت : الحق بالشام أو اليمن أو
سواها..

فوالله اني لفي ذلك من همي اذ
قال لي رجل: ويحك..! ان رسول اله, والله لا يقتل أحد من الناس يدخل دينه..


فخرجت حتى قدمت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرني الا قائما أمامه أشهد شهادة الحق. فلما رآني
قال: أوحشيّ أنت..؟ قلت: نعم يا رسول الله.. قال:
فحدّثني كيف قتلت حمزة, فحدّثته.. فلما فرغت من حديثي قال: ويحك.. غيّب عني
وجهك.. فكنت أتنكّب طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان, لئلا يراني حتى
قبضه الله اليه..

فلما خرج المسلمون الى مسيلمة
الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم, وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة.. فلما التقى الانس
رأيت مسيلمة الكذاب قائما, في يده السيف, فتهيأت له, وهززت حربتي, حتى اذا رضيته
منها دفعتها عليه فوقعت فيه..

فان كنت قد قتلت بحربتي هذه خير
الناس وهو حمزة.. فاني لأرجو أن يغفر الله لي اذ قتلت بها شرّ الناس مسيلمة]..




**





هكذا سقط أسد الله ورسوله, شهيدا
مجيدا..!!

وكما كانت حياته مدوّية, كانت موتته مدوّية كذلك..


فلم يكتف أعداؤه بمقتله.. وكيف
يكتفون أو يقتنعون, وهم الذين جنّدوا كل أموال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي
لم يريدوا بها سوى الرسول وعمّه حمزة..

لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي
سفيان.. أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة.. واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة..
وعندما عاد بها الى هند كان يناولها الكبد
بيمناه, ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه, مكافأة له على انجاز مهمته..






ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر,
وزوجة أبي سفيان قائد جيوش الشرك الوثنية,مضغت كبد حمزة, راجية أن تشفي تلك الحماقة
حقدها وغلها. ولكن الكبد استعصت على أنيابها, وأعجزتها أن تسيغها, فأخرجتها من
فمها, ثم علت صخرة مرتفعة, وراحت تصرخ قائلة:

نحن جزيناكم بيوم بدر


والحرب بعد الحرب ذات
سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر


ولا أخي وعمّه
وبكري

شفيت نفسي وقضيت نذري


أزاح وحشي غليل صدري




وانتهت المعركة, وامتطى المشركون ابلهم, وساقوا
خيلهم قافلين الى مكة..

ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم
وأصحابه معه الى أرض المعركة لينظر شهداءها..

وهناك في بطن الوادي. وهو يتفحص
وجوه أصحابه الذين باعوا لله أنفسهم, وقدّموها قرابين مبرورة لربهم الكبير. وقف
فجأة.. ونظر. فوجم.. وضغط على أسنانه.. وأسبل جفنيه..



فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على
هذه الوحشية البشعة فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد
حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيّد الشهداء..

وفتح الرسول عينيه التي تألق
بريقهما كومض القدر وقال وعيناه على جثمان عمّه:

" لن اصاب بمصلك أبدا..


وما وقفت موقفا قط أغيظ اليّ من
موقفي هذا..".



ثم التفت الى أصحابه وقال:


" لولا أن تحزن صفيّة _أخت
حمزة_ ويكون سنّه من بعدي, لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير.. ولئن
أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن, لأمثلن بثلاثين رجلا منهم.."


فصاح أصحاب الرسول:


" والله لئن ظفرنا بهم يوما من
الدهر, لنمثلن بهم, مثلة لم يمثلها أحد من العرب..!!"



ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة, يكرّمه مرة
أخرى بأن يجعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي العدالة الى الأبد, ويجعل الرحمة حتى
في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا..

وهكذا لم يكد الرسول صلى الله
عليه وسلم يفرغ من القاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه
الآية الكريمة:

(ادع الى ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة, وجادلهم بالتي هي أحسن, ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله , وهو أعلم
بالمهتدين.

وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما
عوقبتم به, ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.

واصبر وما صبرك الا بالله, ولا
تحزن عليهم, ولا تك في ضيق مما يمكرون.

ان الله مع الذين اتقوا, والذين
هم محسنون..)

وكان نزول هذه الآيات, في هذا
الموطن, خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله..



**




كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه أعظم
الحب, فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب..

بل كان اخاه من الرضاعة..


وتربه في الطفولة..


وصديق العمر كله..


وفي لحظات الوداع هذه, لم يجد
الرسول صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد الشهداء
المعركة جميعا..

وهكذا حمل جثمان حمزة الى مكان
الصلاة على أرض المعركة التي شهدت بلاءه, واحتضنت دماءه, فصلى عليه الرسول صلى الله
عليه وسلم وأصحابه, ثم جيء يشهيد آخر, فصلى عليه الرسول.. ثم رفع وترك حمزة مكانه,
وجيء بشهيد ثالث فوضع الى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول..

وهكذا جيء بالشهداء.. شهيد بعد
شهيد.. والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي على كل واحد منهم وعلى حمزة معه حتى صلى
على عمّه يومئذ سبعين صلاة..



**





وينصرف الرسول من المعركة الي بيته, فيسمع في
طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن, فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه
وحبه:

" لكنّ حمزة لا بواكي
له"..!!



ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه
الصلاة والسلام يطيب نفسا اذا بكت النساء عمه, فيسرع الى نساء بني عبد الأشهل
ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن… ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج اليهن,
ويقول

" ما الى هذا قصدت, ارجعن
يرحمكن الله, فلا بكاء بعد اليوم"

ولقد ذهب أصحاب رسول الله
يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة.



فقال حسان بن ثابت:

دع عنك دارا قد عفا رسمها


وابك على حمزة ذي
النائل

اللابس الخيل اذا أحجمت


كالليث في غابته
الباسل

أبيض في الذروة من بني
هاشم

لم يمر دون الحق
بالباطل

مال شهيدا بين أسيافكم


شلت يدا وحشي من
قاتل



وقال عبد الله بن رواحة:


بكت عيني وحق لها بكاها


وما يغني البكاء
ولا العويل

على أسد الاله غداة قالوا:


أحمزة ذاكم الرجل
القتيل

أصيب المسلمون به جميعا


هناك وقد أصيب به
الرسول

أبا يعلى, لك الأركان هدّت


وأنت الماجد البرّ
الوصول



وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله
عليه وسلم وأخت حمزة:

دعاه اله الحق ذو العرش
دعوة

الى جنة يحيا بها
وسرور

فذاك ما كنا نرجي ونرتجي


لحمزة يوم الحشر خير
مصير

فوالله ما أنساك ما هبّت
الصبا

بكاءا وحزنا محضري
وميسري

على أسد الله الذي كان
مدرها

يذود عن الاسلام كل
كفور

أقول وقد أعلى النعي
عشيرتي

جزى الله خيرا من أخ
ونصير



على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول
الله له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال:


" رحمة الله عليك, فانك كنت
وصولا للرحم فعولا للخيرات"..



**




لقد كان مصاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمه
العظيم حمزة فادحا. وكان العزاء فيه مهمة صعبة.. بيد أن الأقدر كانت تدّخر لرسول
الله أجمل عزاء.

ففي طريقه من أحد الى داره مرّ
عليه الصلاة والسلام بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها,
وأخوها..

وحين أبصرت المسلمين عائدين من
الغزو, سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة..

فنعوا اليها الزوج..والأب
..والأخ..

واذا بها تسألهم في لهفة:


" وماذا فعل رسول
الله"..؟؟

قالوا:

" خيرا.. هو بحمد الله كما
تحبين"..!!

قالت:

" أرونيه, حتىأنظر
اليه"..!!

ولبثوا بجوارها حتى اقترب
الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما رأته أقبلت نحوه تقول:

" كل مصيبة بعدك, أمرها
يهون"..!!



**





أجل..

لقد كان هذا أجمل عزاء
وأبقاه..

ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم
قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ الفريد, فليس في دنيا البذل, والولاء, والفداء لهذا
نظير..

سيدة ضعيفة, مسكينة, تفقد في
ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها.. ثم يكون ردّها على الناعي لحظة سمعها الخبر الذي
يهدّ الجبال:

" وماذا فعل رسول الله"..؟؟!!




لقد كان مشهد أجاد القدر رسمه وتوقيته ليجعل
منه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء.. في أسد الله, وسيّد
الشهداء..!!

سعيد بن عامر


العظمة تحت
الاسمال




أيّنا سمع هذا الاسم, وأيّنا سمع به من
قبل..؟

أغلب الظن أن أكثرنا, ان لم نكن
جميعا, لم نسمع به قط.. وكأني بكم اذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن يكون ابن عامر هذا..؟؟

أجل سنعلم من هذا
السعيد..!!



**





انه واحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم, وان
لم يكن لاسمه ذلك الرنين المألوف لأسماء كبار الصحابة.

انه واحد من كبار الأتقياء
الأخفياء..!!

ولعل من نافلة القول وتكراره,
أن ننوه بملازمته رسول الله في جميع مشاهده وغزواته.. فذلك كان نهج المسلمين جميعا.
وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله في سلم أو جهاد.

أسلم سعيد قبيل فتح خيبر, ومنذ
عانق الاسلام وبايع الرسول, أعطاهما كل حياته, ووجوده ومصيره.


فالطاعة, والزهد, والسمو..
والاخبات, والورع, والترفع.

كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا
الانسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..

وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها,
علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر..


فحين تقع العين على سعيد في
الزحام, لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..

ستجد العين واحدا من أفراد
الكتيبة الامينة.. أشعث أغبر. . ليس في ملبسه, ولا في شكله الخارجي, ما يميزه عن
فقراء المسلمين بشيء.!!

فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله
الخارجي دليلا على حقيقته, فلن نبصر شيئا, فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن
تتبدى في أيّ من مظاهر البذخ والزخرف.

انها هناك كامنة مخبوءة وراء
بساطته وأسماله.

أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف
الصدف..؟ انه شيء يشبه هذا..



**





عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية
عن ولاية الشام, تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.

وأسلوب عمر في اختيار ولاته
ومعاونيه, أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر, والدقة, والأناة.. ذلك أنه كان يؤمن أن أي
خطأ يرتكبه وال في أقصى الأرض سيسأل عنه الله اثنين: عمر أولا.. وصاحب الخطأ
ثانيا..

ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرهفة,
ومحيطة,وبصيرة, أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا..

والشام يومئذ حاضرة كبيرة,
والحياة فيها قبل دخول الاسلام بقرون, تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي مركز هام
للتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا, ولهذا درء اغراء. ولا يصلح لها في رأي عمر
الا قديس تفر كل شياطين الاغراء أمام عزوفه.. والا زاهد, عابد, قانت, أواب..


وصاح عمر: قد وجدته, اليّ بسعيد
بن عامر..!!

وفيما بعد يجيء سعيد الى أمير
المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص..

ولكن سعيدا يعتذر ويقول: " لا
تفتنّي يا أمير المؤمنين"..

فيصيح به عمر:


" والله لا أدعك.. أتضعون
أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!



واقتنع
سعيد في لحظة, فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا الاقناع.


أجل. ليس من العدل أن يقلدوه
أمانتهم وخلافتهم, ثم يتركوه وحيدا..واذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن
عامر, فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟

خرج سعيد الى حمص ومعه زوجته,
وكانا عروسين جديدين, وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة.. وزوّده عمر
بقدر طيّب من المال.

ولما استقرّا في حمص أرادت
زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر.. وأشارت عليه بأن
يشتري ما يلزمهما من لباس لائق, ومتاع وأثاث.. ثم يدخر الباقي..


وقال لها سعيد: ألا أدلك على
خير من هذا..؟؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة, وسوقها رائجة, فلنعط المال من يتجر لنا فيه وينمّيه..

قالت: وان خسرت تجارته..؟


قال سعيد: سأجعل ضمانا
عليه..!!

قالت: فنعم اذن..


وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات
عيشه المتقشف, ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..



ومرّت الأيام.. وبين الحين والحين تسأله زوجه
عن تجارتهما وأيّان بلغت من الأرباح..

ويجيبها سعيد: انها تجارة
موفقة.. وان الارباح تنمو وتزيد.

وذات يوم سألته نفس السؤال أمام
قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت الى روع الزوجة بالشك والريب, فألحت عليه أن يصارحها
الحديث, فقا لها: لقد تصدق بماله جميعه من ذلك اليوم البعيد.


فبكت زوجة سعيد, وآسفها أنها لم
تذهب من هذا المال بطائل فلا هي ابتاعت لنفسها ما تريد, ولا المال بقي..


ونظر اليها سعيد وقد زادتها
دموعها الوديعة الآسية جمالا وروعة.

وقبل أن ينال المشهد الفاتن من
نفسه ضعفا, ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها
أصحابه السابقين الراحلين فقال:

" لقد كان لي أصحاب سبقوني الى
الله... وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"..!!




واذ خشي أن تدل عليه بجمالها, وكأنه يوجه
الحديث الى نفسه معها:

" تعلمين أن في الجنة من الحور
العين والخيرات الحسان, ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعا, ولقهر
نورها نور الشمس والقمر معا.. فلأن أضحي بك من أجلهن, أحرى أولى من أن أضحي بهن من
أجلك"..!!

وأنهى حديثه كما بدأه, هادئا مبتسما راضيا..


وسكنت زوجته, وأدركت أنه لا شيء
أفضل لهما من السير في طريق سعيد, وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه..!!




**





كانت حمص أيامئذ, توصف بأنها الكوفة الثانية
وسبب هذا الوصف, كثرة تمرّد أهلها واختلافهم على ولاتهم.

ولما كانت الكوفة في العراق
صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها...


وعلى الرغم من ولع الحمصيين
بالتمرّد كما ذكرنا, فقد هدى الله قلوبهم لعبده الصالح سعيد, فأحبوه وأطاعوه.


ولقد سأله عمر يوما فقال: " ان
أهل الشام يحبونك".؟

فأجابه سعيد قائلا:" لأني
أعاونهم وأواسيهم"..!

بيد أن مهما يكن أهل حمص حب
لسعيد, فلا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى.. على الأقل لتثبت حمص أنها لا
تزال المانفس القوي لكوفة العراق...

وتقدم البعض يشكون منه, وكانت
شكوى مباركة, فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل, عجيب عجيب جدا..


طلب عمر من الزمرة الشاكية أن
تعدد نقاط شكواها, واحدة واحدة..

فنهض المتحدث بلسان هذه
المجموعة وقال: نشكو منه أربعا:

" لا يخرج الينا حت يتعالى
النهار..

والا يجيب أحدا بليل..


وله في الشهر يومان لا يخرج
فيهما الينا ولا نراه,

وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها
تضايقنا, وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..

وجلس الرجل:


وأطرق عمر مليا, وابتهل الى
الله همسا قال:

" اللهم اني أعرفه من خير
عبادك..

اللهم لا تخيّب فيه
فراستي"..

ودعاه للدفاع عن نفسه, فقال
سعيد:

أما قولهم اني لا أخرج اليهم
حتى يتعالى النهار..

" فوالله لقد كنت أكره ذكر
السبب.. انه ليس لأهلي خادم, فأنا أعجن عجيني, ثم أدعه يختمر, ثم اخبز خبزي, ثم
أتوضأ للضحى, ثم أخرج اليهم"..

وتهلل وجه عمر وقال: الحمد
للله.. والثانية..؟!

وتابع سعيد حديثه:


وأما قولهم: لا أجيب أحدا
بليل..

فوالله, لقد كنت أكره ذكر
السبب.. اني جعلت النهار لهم,والليل لربي"..

أما قولهم: ان لي يومين في
الشهر لا أخرج فيهما...
" فليس لي خادم يغسل ثوبي, وليس لي ثياب أبدّلها, فأنا
أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج اليهم ".


وأما قولهم: ان الغشية تأخذني
بين الحين والحين..


" فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري
بمكة, وقد بضعت قريش لحمه, وحملوه على جذعه, وهم يقولون له: أتحب أن محمدا مكانك,
وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلا: والله ما أحب أني في أهلي وولدي, معي عافية
الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة..

فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي
رأيته وأنا يومئذ من المشركين, ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها, أرتجف خوفا من عذاب
الله, ويغشاني الذي يغشاني"..

وانتهت كلمات سعيد التي كانت
تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..

ولم يمالك عمر نفسه ونشوه, فصاح
من فرط حبوره.

" الحمد لله الذي لم يخيّب
فراستي".!

وعانق سعيدا, وقبّل جبهته
المضيئة العالية...

**





أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من
الخلق..؟

أي معلم كان رسول الله..؟


اي نور نافذ, كان كتاب
الله..؟؟

وأي مدرسة ملهمة ومعلمة, كان
الاسلام..؟؟

ولكن, هل تستطيع الأرض أن تحمل
فوق ظهرها عددا كثيرا من هذا الطراز..؟؟

انه لو حدث هذا, لما بقيت أرضا,
انها تصير فردوسا..

أجل تصير الفردوس
الموعود..

ولما كان الفردوس لم يأت زمانه
بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الأرض من هذا الطراز المجيد الجليل.. قليلون
دائما ونادرون..

وسعيد بن عامر واحد منهم..


كان عطاؤه وراتبه بحكم عمله
ووظيفته, ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه.. ثم يوزع باقيه على بيوت أخرى
فقيرة...

ولقد قيل له يوما:


" توسّع بهذا الفائض على أهلك
وأصهارك"..

فأجاب قائلا:


" ولماذا أهلي وأصهاري..؟


لا والله ما أنا ببائع رضا الله
بقرابة"..



وطالما كان يقال له:

" توسّع وأهل بيتك في النفقة
وخذ من طيّبات الحياة"..

ولكنه كان يجيب دائما, ويردد
أبدا كلماته العظيمة هذه:

" ما أنا بالمتخلف عن الرعيل
الأول, بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجمع الله عز وجل الناس
للحساب, فيحيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحامائم, فيقال لهم: قفوا للحساب,
فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه.. فيقول الله: صدق عبادي.. فيدخلون الجنة قبل
الناس"..



**





وفي العام العشرين من الهجرة, لقي سعيد ربه
أنقى ما يكون صفحة, وأتقى ما يكون قلبا, وأنضر ما يكون سيرة..


لقد طال شوقه الى الرعيل الأول
الذي نذر حياته لحفظه وعهده, وتتبع خطاه..

أجل لقد طال شوقه الى رسوله
ومعلمه.. والى رفاقه الأوّابين المتطهرين..

واليوم يلاقيهم قرير العين,
مطمئن النفس, خفيف الظهر..

ليس معه ولا وراءه من أحمال
الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله,,

ليس معه الا ورعه, وزهده,
وتقاه, وعظمة نفسه وسلوكه..

وفضائل تثقل الميزان, ولكنها لا
تثقل الظهور..!!

ومزايا هز بها صاحبها الدنيا,
ولم يهزها غرور..!!



**





سلام على سعيد بن عامر..


سلام عليه في محياه,
وأخراه..

وسلام.. ثم سلام على سيرته
وذكراه..

وسلام على الكرام البررة..
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.






[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله عبد الله بن مسعود و حذيفه بن اليمان   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 13, 2011 7:42 pm


عبدالله بن مسعود


أول صادح
بالقرآن

قبل أن
يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم, كان عبدالله بن مسعود قد آمن به,
وأصبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول, عليه وعليهم الصلاة والسلام..


هو اذن من الأوائل
المبكرين..

ولقد تحدث عن أول لقائه برسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال:

" كنت غلاما يافعا, أرعى غنما
لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, وأبوبكر فقالا: يا غلام,هل عندك
من لبن تسقينا..؟؟

فقلت: اني مؤتمن, ولست
ساقيكما..

فقال النبي عليه الصلاة
والسلام: هل عندك من شاة حائل, لم ينز عليها الفحل..؟

قلت: نعم..

فأتيتهما بها, فاعتلفها النبي
ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة, فاحتلب فيها, فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم
قال للضرع: اقلص, فقلص..

فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
بعد لك, فقلت: علمني من هذا القول.

فقال: انك غلام معلم"...
**

لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله
الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه, ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد, فهذا هو يعطي من
خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!

وما كان يدري يومها, أنه انما
يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا, وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات
تهز الدنيا, وتلمؤها هدى ونور..

بل ما كان يدري يومها, أنه وهو
ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم
عقبة بن معيط, سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه مؤمنا يهز
بايمانه كبرياء قريش, ويقهر جبروت ساداتها..

فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن
يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه
الى مجمع الأشراف عند الكعبة, وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على
رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:

(بسم الله الرحمن الرحيم,
الرحمن, علّم القرآن, خلق الانسان, علّمه البيان, الشمس والقمر بحسبان, والنجم
والشجر يسجدان).

ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش
مشدوهون, لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا
الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم, وراعي غنم لشريف من
شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!

ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك
المشهد المثير..

انه الزبير رضي الله عنه
يقول:

" كان أول من جهر بالقرآن بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, عبدالله بن مسعود رضي الله عنه, اذ اجتمع يوما
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:

والله ما سمعت قريش مثل هذا
القرآن يجهر لها به قط, فمن رجل يسمعهموه..؟؟
فقال عبدالله بن
مسعود:أنا..
قالوا: ان نخشاهم عليك, انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم
ان أرادوه..

قال: دعوني, فان الله
سيمنعني..

فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام
في الضحى, وقريش في أنديتها, فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم
_رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن, ثم استقبلهم يقرؤها..

فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام
عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..

فقاموا اليه وجعلوا يضربون
وجهه, وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ..

ثم عاد الى أصحابه مصابا في
وجهه وجسده, فقالوا له:

هذا الذي خشينا عليك..


فقال: ما كان أعداء الله أهون
عليّ منهم الآن, ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..

قالوا: حسبك, فقد أسمعتهم ما
يكرهون"..!!

أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل
باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء,
سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله, ويقهرون بها نور الشمس
وضوء النهار..!!

ما كان يعلم أن ذلك اليوم
قريب..

ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت
الساعة, وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!

**

لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..


بل ولا بعيدا عن
الزحام..!!

فلا مكان له بين الذين أوتوا
بسطة من المال, ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم, ولا بين الذين أوتوا حظا من
الجاه..

فهو من المال معدم.. وهو في
الجسم ناحل, ضامر.. وهو في الجاه مغمور..

ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر
نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!

ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف
بنيانه ارادة تقهر الجبارين, وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!


ويمنحه مكان انزوائه وضياعه,
خلودا, وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!

ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول
عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه, حتى صار فقيه
الأمة, وعميد حفظة القرآن جميعا.

يقول على نفسه:


" أخذت من فم رسول الله صلى
الله عليه وسلم سبعين سورة, لا ينازعني فيها أحد"..

ولكأنما أراد الله مثوبته حين
خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد
والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته, والفهم السديد في ادراك
معانيه..


ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن
مسعود فيقول:

" تمسّكوا بعهد ابن أم
عبد".

ويوصيهم بأن يحاكوا
قراءته,ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.

يقول عليه السلام:


" من أحب أن يسمع القرآن غضّا
كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..
" من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل,
فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!

ولطالما كان يطيب لرسول الله
عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..

دعاه يوما الرسول, وقال
له:

" اقرأ عليّ يا عبد
الله"..

قال عبد الله:


" أقرأ عليك, وعليك أنزل يا
رسول الله"؟!

فقال له الرسول:


"اني أحب أن أسمعه من
غيري"..

فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة
النساء حتى وصل الى قوله تعالى:

(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..

يومئذ يود الذين كفروا وعصوا
الرسول لو تسوّى بهم الأرض..

ولا يكتمون الله حديثا)..

فغلب البكاء على رسول الله صلى
الله عليه وسلم, وفاضت عيناه بالدموع, وأشار بيده الى ابن مسعود:


أن" حسبك.. حسبك يا ابن
مسعود"..

وتحدث هو بنعمة الله فقال:


" والله ما نزل من القرآن شيء
الا وأنا أعلم في أي شيء نزل, وما أحد أعلم بكتاب الله مني, ولو أعلم أحدا تمتطى
اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!

ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم.

قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه:

" لقد ملئ فقها"..


وقال أبو موسى الأشعري:


" لا تسألونا عن شيء ما دام هذا
الحبر فيكم"

ولم يكن سبقه في القرآن والفقه
موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.

يقول عنه حذيفة:


" ما رأيت أحدا أشبه برسول الله
في هديه, ودلّه, وسمته من ابن مسعود...

ولقد علم المحفوظون من أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!!


واجتمع نفر من الصحابة يوما عند
علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:

"يا أمير المؤمنين, ما رأينا
رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما, ولا أحسن مجالسة, ولا أشد ورعا من عبدالله بن
مسعود..

قال علي:


نشدتكم الله, أهو صدق من
قلوبكم..؟؟

قالوا:

نعم..

قال:

اللهم اني أشهدك.. اللهم اني
أقول مثل ما قالوا أو أفضل..

لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله,
وحرّم حرامه..فقيه في الدين, عالم بالسنة"..!

وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام
يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:

" ان كان ليؤذن له اذا حججنا,
ويشهد اذا غبنا"..

وهم يريدون بهذا, أن عبد الله
رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه, فيدخل
عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من
الصّحب موضع سرّه ونجواه, حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر..

يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:


"لقد رأيت النبي عليه الصلاة
والسلام, وما أرى الا ابن مسعود من أهله"..

ذلك أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يحبّه حبا عظيما, وكان يحب فيه ورعه وفطنته, وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول
صلى الله عليه وسلم فيه:

" لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى
المسلمين, لأمّرت ابن أم عبد"..

وقد مرّت بنا من قبل, وصية
االرسول لأصحابه:

" تمسكوا بعهد ابن أم
عبد"...

وهذا الحب, وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد
القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له
الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..

فكان هذا ايذانا بحقه في أن
يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...


وهكذا قال عنه أصحابه:


" كان يؤذن له اذا حججنا, ويشهد
اذا غبنا"..

ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى
الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو, من شأنها أن ترفع الكلفة, فان ابن مسعود
لم يزدد بها الا خشوعا, واجلالا, وأدبا..

ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق
عنده, مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...


فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه
السلام, نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول
الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة
ويبدو عليه الاضطراب والقلق, خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!

ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة..


يقول عمرو بن ميمون:


" اختلفت الى عبدالله بن مسعود
سنة, ما سمعته يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, الا أنه حدّث ذات يوم
بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله, فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته,
ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!

ويقول علقمة بن قيس:


" كان عبدالله بن مسعود يقوم
عشيّة كل خميس متحدثا, فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة..
فنظرت اليه وهو معتمد على عصا, فاذا عصاه ترتجف, وتتزعزع"..!!


ويحدثنا مسروق عن عبدالله:

" حدّث ابن مسعود يوما حديثا
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو
ذا.. أو شبه ذا"..!!

الى هذا المدى العظيم بلغ
اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبلغ توقيره اياه, وهذه أمارة فطنته قبل أن
تكون امارة تقاه..!!

فالرجل الذي عاصره رسول الله
صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره, كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا
سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته, ومع ذكراه في
مماته, أدبا فريدا..!!

**
لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في
سفر, ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع
أبي جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه
له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله
اليهم:

" اني والله الذي لا اله الا
هو, قد آثرتكم به على نفسي, فخذوا منه وتعلموا".

ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما
لم يظفر بمثله أحد قبله, ولا أحد مثله..

واجماع أهل الكوفة على حب
انسان, أمر يشبه المعجزات..

ذلك أنهم أهل تمرّد وثورة, لا
يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..

ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد
الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج, ونحن
نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه"..

ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات
تصوّر عظمة نفسه وتقاه, اذ قال لهم:

" ان له عليّ الطاعة, وانها
ستكون أمور وفتن, ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!

ان هذا الموقف الجليل الورع
يصلنا بموقف ابن مسعود من الخبيفة عثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى
حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل,, ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه
كلمة سوء واحدة..

بل وقف موقف المدافع والمحذر
حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة..

وحين ترامى الى مسمعه محاولات
اغتيال عثمان, قال كلمته المأثورة:

" لئن قتلوه, لا يستخلفون بعده
مثله".

ويقول بعض أصحاب ابن
مسعود:

" ما سمعت ابن مسعود يقول في
عثمان سبّة قط"..

ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه
التقوى.

وكان يملك القدرة على رؤية
الأعماق, والتعبير عنها في أناقة وسداد..

لنستمع له مثلا وهو يلخص حياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول:


" كان اسلامه فتحا.. وكانت
هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..".

ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية
الزمان فيقول:

" ان ربكم ليس عنده ليل ولا
نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!

ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع
المستوى الأدبي لصاحبه, فيقول:" اني لأمقت الرجل, اذ أراه فارغا.. ليس في شيء من
عمل الدنيا, ولا عمل الآخرة"..

ومن كلماته الجامعة:


" خير الغنى غنى النفس , وخير
الزاد التقوى, وشر العمى عمى القلب, وأعظم الخطايا الكذب, وشرّ المكاسب الربا, وشرّ
المأكل مال اليتيم, ومن يعف الله عنه, ومن يغفر الله له"..
**

هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم.

وهذه ومضة من حياة عظيمة
مستبسلة, عاشها صاحبها في سبيل الله, ورسوله ودينه..

هذا هو الرجل الذي كان جسمه في
حجم العصفور..!!

نحيف, قصير, يكاد الجالس يوازيه
طولا وهو قائم..

له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد
بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب
النبي دقتهما فضحكوا, فقال عليه الصلاة والسلام:

" تضحكون من ساقيْ ابن مسعود,
لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!

أجل هذا هو الفقير الأجير,
الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى
والنور..

ولقد حظي من توفيق الله ومن
نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك
الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..



وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة
والسلام, مع خلفائه من بعده..

وشهد أعظم امبراطوريتين في
عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته..

ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين,
والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم, فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله
عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته..

ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة
كان يأخذه الحنين اليها فيرددها, ويتغنى بها, ويتمنى لو أنه أدركها..

ولنصغ اليه يحدثنا بكلماته عنها:


" قمت من جوف الليل وأنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر
فأتبعتها أنظر اليها, فاذا رسول الله, وأبوبكر وعمر, واذا عبدالله ذو البجادين
المزني قد مات واذا هم قد حفروا له, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته, وأبو
بكر وعمر يدليانه اليه, والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه, فلما هيأه
للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه
الحفرة"..!!

**
تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في
دنياه.

وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت
الناس عليه من مجد وثراء, ومنصب وجاه..

ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب,
عظيم النفس, وثيق اليقين.. رجل هداه الله, وربّاه الرسول, وقاده القرآن..!!



[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]



حذيفة بن اليمان


عدوّ النفاق وصديق
الوضوح

خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد
الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه..

خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا
الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عن ورعه وتقاه.. وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في
فتوحات العراق..

واذ هم ينتظرون الموكب الوافد,
أبصروا أمامهم رجلا مضيئا, يركب حمارا على ظهره اكاف قديم, وقد أسدل الرجل ساقيه,
وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا, وهو يأكل ويمضغ طعامه..!

وحين توسط جمعهم, وعرفوا أنه
حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون, كاد صوابهم يطير..!!

ولكن فيم العجب..؟!


وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في
اختيار عمر..؟!

الحق أنهم معذورون, فما عهدت
بلادهم أيام فارس, ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!!

**

وسار حذيفة, والناس محتشدون حوله, وحافون
به..

وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم
ينتظرون منه حديثا, ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال:

" اياكم ومواقف الفتن"..!!


قالوا:

وما مواقف الفتن يا أبا
عبدالله..!!

قال:

" أبواب الأمراء"..


يدخل أحدكم على الوالي أو
الأمير, فيصدّقه بالكذب, ويمتدحه بما ليس فيه"..!

وكان استهلالا بارعا, بقدر ما
هو عجيب..!!

واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه
عن واليهم الجديد, من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر
مما يمقت النفاق ويحتقره.

وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير
عن شخصية الحاكم الجديد, وعن منهجه في الحكم والولاية..


فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا
بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق, وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه
البعيدة.

ومنذ جاء هو وأخوه صفوان في
صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنق ثلاثتهم الاسلام, والاسلام
يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا..

فلقد عانق دينا قويا, نظيفا,
شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق, والكذب...

وتأدّب على يدي رسول الله واضح
كفلق الصبح, لا تخفى عليهم من حياته, ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب
الأقوياء في الحق, ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!

فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر
مثل هذا المجال, في رحاب هذا الدين, وبين يدي هذا الرسول, ووسط هذا الرّعيل العظيم
من الأصحاب..!!

ولقد نمت موهبته فعلا أعظم
نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلو كنه الأعماق
المستترة, والدخائل المخبوءة. في غير عناء..

ولقد بلغ من ذلك ما يريد, حتى
كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه, وهو الملهم الفطن الأريب, يستدل برأي حذيفة,
وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.

ولقد أوتي حذيفة من
الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه
الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى, ومن ثم يجب على الأريب
أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه, ومظانه..

وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه
على دراسة الشر والأشرار, والنفاق والمؤمنين..

يقول:

" كان الناس يسألون رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..


قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا
الخير من شر؟

قال: نعم..


قلت: فهل بعد هذا الشر من
خير؟

قال: نعم, وفيه دخن..


قلت: وما دخنه..؟


قال: قوم يستنون بغير سنتي..
ويهتدون يغير هديي, وتعرف منهم وتنكر..

قلت: وهل بعد ذلك الخير من
شر..؟

قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم,
من أجابهم اليها قذفوه فيها..

قلت: يا رسول الله, فما تأمرني
ان أدركني ذلك..؟

قال: تلزم جماعة المسلمين
وامامهم..

قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا
امام..؟؟

قال: تعتزل تلك الفرق كلها, ولو
أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!

أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن
يدركني"..؟؟

لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة
على مآتي الفتن, مسالك الشرور ليتقها, وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا
بالدنيا, وخبرة بالانس, ومعرفة بالزمن.. وكان يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب
فيلسوف, وحصافة حكيم...



ويقول رضي الله عنه:

" ان الله تعالى بعث محمدا صلى
الله عليه وسلم, فدعا الانس من الضلالة الى الهدى, ومن الكفر الى الايمان, فاستجاب
له من استجاب, فحيي بالحق من كان ميتا...

ومات بالباطل من كان حيا..


ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة
على مناهجها..

ثم يكون ملكا عضوضا..!!


فمن الانس من ينكر بقلبه, ويده
ولسانه.. أولئك استجابوا للحق..

ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه,
كافا يده, فهذا ترك شعبة من الحق..

ومنهم من ينكر بقلبه, كافا يده
ولسانه, فهذا ترك شعبتين من الحق..

ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا
بيده ولا بلسانه, فذلك ميّت الأحياء"...!



ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها
فيقول:

" القلوب أربعة:


قلب أغلف, فذلك قلب
الكافر..

وقلب مصفح, فذلك قلب
المنافق..

وقلب أجرد, فيه سراج يزهر, فذلك
قلب المؤمن..

وقلب فيه نفاق وايمان, فمثل
الايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب,
غلب"...!!



وخبرة حذيفة بالشر, واصراره على مقاومته
وتحدّيه, أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة, وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:


فيقول:

" جئت النبي صلى الله عليه وسلم
فقلت: يا رسول الله, ان لي لسانا ذربا على أهلي, وأخشى أن يدخلني النار..


فقال لي النبي عليه الصلاة
والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...


هذا هو حذيفة عدو النفاق, صديق الوضوح..


ورجل من هذا الطراز, لا يكون
ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه
وولائه..

لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم
أحد..وبأيد مسلمة, قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن..!!


وكان حذيفة يتلفت مصادفة, فرأى
السيوف تنوشه, فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!!

لكن القضاء كان قد حم..


وحين عرف المسلمون, تولاهم
الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة, وقال:

" يغفر الله لكم, وهو أرحم
الراحمين"..

ثم انطلق بسيفه صوب المعركة
المشبوبة يبلي فيها بلاءه, ويؤدي واجبه..

وتنتهي المعركة, ويبلغ الخبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله
عنه, ويتصدّق بها على المسلمين, فيزداد الرسول حبا له وتقديرا...


وايمان حذيفة وولاؤه, لا يعترفان


بالعجز, ولا بالضعف..بل ولا
بالمستحيل....

في غزوة الخندق..وبعد أن دبّ
الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود, أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام
أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه.



كان الليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر
وتصطخب, كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله
بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع, وكان الجوع المضني قد بلغ
مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم..

فمن يملك آنئذ القوة,وأي قوة
ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء
ويقتحمه, أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟

ان الرسول هو الذي سيختار من
أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..

ترى من يكون البطل..؟


انه هو..حذيفة بن
اليمان..!

دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم
فلبى, ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا
بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه, ويخشى عواقبها, والقيام بها تحت وطأة
الجوع, والصقيع, والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو
يزيد..!

وكان أمر حذيفة تلك الليلة
عجيبا...

فقد قطع المسافة بين المعسكرين,
واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش, وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران
المعسكر, فخيّم عليه الظلام,واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف
المحاربين...

وخشي أبوسفيان قائد قريش, أن
يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين, فقام يحذر جيشه, وسمعه حذيفة يقول بصوته
المرتفع:

" يا معشر قريش, لينظر كل منكم
جليسه, وليأخذ بيده, وليعرف اسمه".

يقول حذيفة"


" فسارعت الى يد الرجل الذي
بجواري, وقلت له من أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...

وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في
سلام..!

واستأنف أبو سفيان نداءه الى
الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _
أي الخيل_ والخف_ أي الابل_, وأخلفتنا بنو قريظة, وبلغنا عنهم الذي نكره, ولقينا من
شدّة الريح, ما تطمئن لنا قدر, ولا تقوم لنا نار, ولا يستمسك لنا بناء, فارتحلوا
فاني مرتحل"..

ثم نهض فوق جمله, وبدأ المسير
فتبعه المحاربون..

يقول حذيفة:


" لولا عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم اليّ ألا تحدث شيئا حتى تأتيني, لقتلته بسهم"..

وعاد حذيفة الى الرسول عليه
الصلاة والسلام فأخبره الخبر, وزف البشرى اليه...

ومع هذا فان حذيفة يخلف في هذا المجال كل
الظنون..

ورجل الصومعة العابد, المتأمل
لا يكاد يحمل سيفه ويقابل جيوش الوثنية والضلال حتى يكشف لنا عن عبقرية تبهر
الأبصار..

وحسبنا أن نعلم, أنه كان ثالث
ثلاثة, أو خامس خمسة كانوا أصحاب السبق العظيم في فتوح العراق جميعها..!

وفي همدان والري والدينور تم الفتح على
يديه..

وفي معركة نهاوند العظمى, حيث
احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين الفا.. اختار عمر لقيادة الجيوش المسلمة
النعمان بن مقرّن ثم كتب الى حذيفة أن يسير اليه على رأس جيش من الكوفة..


وأرسل عمر الى المقاتلين كتابه
يقول:

" اذا اجتمع المسلمون فليكن على
كل أمير جيشه.. وليكن أمير الجيوش جميعها النعمان بن مقرّن..


فاذا استشهد النعمان, فليأخذ
الراية حذيفة, فاذا استشهد فجرير بن عبدالله..

وهكذا مضى أمير المؤمنين يختار
قوّاد المعركة حتى سمّى منهم سبع...

والتقى الجيشان..


الفرس في مائة ألف وخمسين
ألفا..

والمسلمون في ثلاثين ألفا
لاغير...

وينشب قتال يفوق كل تصور ونظير
ودارت معركة من أشد معارك التاريخ فدائية وعنفا..

وسقط قائد المسلمين قتيلا, سقط
النعمان بن مقرّن, وقبل أن تهوي الراية المسلمة الى الأرض كان القائد الجديد قد
تسلمها بيمينه, وساق بها رياح النصر في عنفوان لجب واستبسال عظيم... ولم يكن هذا
القائد سوى حذيفة بن اليمان...

حمل الراية من فوره, وأوصى بألا
ندع نبأ موت النعمان حتى تنجلي المعركة..
ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان تكريما له..

أنجزت المهمة في لحظات والقتال
يدور, بديهيته المشرقة.. ثم انثنى كالاعصار المدمدم على صفوف الفرس صائحا:


" الله أكبر صدق وعده!!


الله أكبر نصر جنده!!"


ثم لوى زمام فرسه صوب المقاتلين
في جيوشه ونادى: يا أتباع محمد.. هاهي ذي جنان الله تتهيأ لاستقبالكم فلا تطيلوا
عليها الانتظار..

هيا يا رجال بدر..


تقدموا يا ابطال الخندق وأحد
وتبوك..

لقد احتفظ حذيفة بكل حماسة
المعركة وأشواقها, ان لم يكن قد زاد منها وفيها..

وانتهى القتال بهزيمة ساحقة
للفرس.. هزيمة لا نكاد نجد لها نظيرا..!!


هذا العبقري في حمته, حين تضمّه
صومعته..

والعبقري في فدائيته, حين يقف
فوق أرض القتال..

هو كذلك العبقري في كل مهمة
توكل اليه, ومشورة تطلب منه.. فحين انتقل سعد بن أبي وقاص والمسلمون معه من المدائن
الى الكوفة واستوطنوها..

وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن
بالعرب المسلمين أذى بليغا.

مما جعل عمر يكتب الى سعد كي
يغادرها فورا بعد أن يبحث عن أكثر البقاع ملاءمة, فينتقل بالمسلمين اليها..


يومئذ من الذي وكل اليه أمر
اختيار البقعة والمكان..؟

انه حذيفة بن اليمان.. ذهب ومعه
سلمان بن زياد, يرتادان للمسلمين المكان الملائم..

فلما بلغا أرض الكوفة, وكانت
حصباء جرداء مرملة. شمّ حذيفة عليها أنسام العافية, فقال لصاحبه: هنا المنزل ان شاء
الله..

وهكذا خططت الكوفة وأحالتها يد
التعمير الى مدينة عامرة...

وما كاد المسلمون ينتقلون
اليها, حتى شفي سقيمهم. وقوي ضعيفهم. ونبضت بالعافية عروقهم..!!


لقد كان حذيفة واسع الذكاء,
متنوع الخبرة, وكان يقول للمسلمين دائما:

" ليس خياركم الذين يتركون
الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن
هذه"...

وذات يوم من أيام العام الهجري السادس
والثلاثين..دعي للقاء الله.. واذ هو يتهيأ للرحلة الأخيرة دخل عليه بعض أصحابه,
فسألهم:

أجئتم معكم بأكفان..؟؟


قالوا: نعم..


قال: أرونيها..


فلما رآها, وجدها جديدة
فارهة..

فارتسمت على شفتيه آخر بسماته
الساخرة, وقال لهم:

" ما هذا لي بكفن.. انما يكفيني
لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص..

فاني لن أترك في القبر الا
قليلا, حتى أبدّل خيرا منهما... أو شرّ منهما"..!!

وتمتم بكلمات, ألقى الجالسون
أسماعهم فسمعوها:

" مرحبا بالموت..


حبيب جاء على شوق..


لا أفلح من ندم"..


وصعدت الى الله روح من أعظم
أرواح البشر, ومن أكثرها تقى, وتآلقا, واخباتا...

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله عمار بن ياسر و نقيب بن حزب   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 13, 2011 7:48 pm

عمّار بن ياسر


رجل من
الجنة..!!




لو كان هناك أناس يولدون في الجنة, ثم يشيبون
في رحابها ويكبرون..

ثم يجاء بهم الى الارض ليكون
زينة لها, ونورا, لكان عمّار, وأمه سميّة, وأبوه ياسر من هؤلاء..!!


ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا
نفترض هذا الافتراض, وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟

وما كان الرسول عليه الصلاة
والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال:

" صبرا آل ياسر ان موعدكم
الجنة"..

بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد
واقعا يبصره ويراه..



**





خرج ياسر والد عمّار, من بلده في اليمن يطلب
أخا له, ويبحث عنه..

وفي مكة طاب له المقام,
فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..

وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه
سميّة بنت خياط..

ومن هذا الزواج المبارك رزق
الله الأبوين عمارا..

وكان اسلامهم مبكرا.. شأن
الأبرار الذين هداهم الله..

وشأن الأبرار المبكّرين أيضا,
أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!

ولقد كانت قريش تتربّص
بالمؤمنين الدوائر..

فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف
ومنعة, تولوهم بالوعيد والتهديد, ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين
آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك, ولنضعنّ شرفك, ولنكسدنّ تجارتك, ولنهلكنّ مالك"
ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.

وان كان المؤمن من ضعفاء مكة
وفقرائها, أو عبيدها, أصلتهم سعيرا.

ولقد كان آل ياسر من هذا
الفريق..

ووكل أمر تعذيبهم الى بني
مخزوم, يخرجون بهم جميعا.. ياسر, سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة,
ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!



ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا.
ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا ان شاء الله مع جلال تضحيتها, وعظمة ثباتها
لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..


وليكن حسبنا الآن أن نذكر في
غير مبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أولها الى
آخرها شرفا لا ينفد, وكرامة لا ينصل بهاؤها..!

موقفا جعل منها أمّا عظيمة
للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!



**





كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث
علم أن آل ياسر يعذبون..

ولم يكن حينذاك يملك من أسباب
المقاومة ودفع الأذى شيئا..

وكانت تلك مشيئة الله..


فالدين الجديد, ملة ابراهيم
حنيفا, الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة اصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة
للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل بطولاته,
وتضحياته ومخاطراته...

ان هذه التضحيات النبيلة
الهائلة, هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول, وخلودا لا
يبلى..!!!



انها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء, وغبطة
وحبورا.

وانها المنار الذي يهدي الأجيال
الوافدة الى حقيقة الدين, وصدقه وعظمته..

وهكذا لم يكن هناك بد من أن
يكون للاسلام تضحياته وضحاياه, ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في
أكثر من آية...

فهو يقول:


(أحسب الناس أن يتركوا, أن
يقولوا آمنّا, وهم لا يفتنون)؟!



(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة,
ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم, ويعلم الصابرين)؟



(ولقد فتنّا الذين من قبلهم,
فليعلمنّ الله الذين صدقوا, وليعلمنّ الكاذبين).



(أم حسبتم أن تتركوا, ولما يعلم
الله الذين جاهدوا منكم..)



(ما كان الله ليذر المؤمنين على
ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)..



(وما أصابكم يوم التقى الجمعان,
فباذن الله, وليعلم المؤمنين).



أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه, أن التضحية
جوهر الايمان, وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالاصرار..
انما تشكّل أبهى فضائل الايمان وأروعها..

ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو
يضع قواعده, ويرسي دعائمه, ويعطي مثله, لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية, ويزكّي
نفسه بالفداء, مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون
قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين.

ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر..
وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اختارتها مقادير الاسلام لتصوغ من
تضحياتها وثباتها واصراراها وثيقة عظمته وخلوده..



**





قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج
كل يوم الى أسرة ياسر, محيّيا صمودها, وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوب رحمة
وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.

وذات يوم وهو يعودهم ناداه
عمّار:

" يا رسول الله.. لقد بلغ منا
العذاب كل مبلغ"..

فنا داه الرسول: صبرا أبا
اليقظان..

صبرا آل ياسر..


فان موعدكم الجنة"..


ولقد وصف أصحاب عمّار العذاب
الذي نزل به في أحاديث كثيرة.

فيقول عمرو بن الحكم:


" كان عمّار يعذب حتى لا يدري
ما يقول".

ويقول عمرو بن ميمون:


" أحرق المشركون عمّار بن ياسر
بالنار, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به, ويمر يده على رأسه ويقول: يا
نار كوني بردا وسلاما على عمّار, كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم"..


على أن ذلك الهول كله لم يكن
ليفدح روح عمار, وان فدح ظهره ودغدغ قواه..

ولم يشعر عمار بالهلاك حقا, الا
في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي
بالنار, الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء
حتى تختنق أنفسه, وتتسلخ قروحه وجروحه..

في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت
وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير, وأخذوا يقولون له, وهو يردد وراءهم
القول في غير شعور.

في ذلك اليوم, وبعد أن أفاق
قليلا من غيبوبة تعذيبه, تذكّر ما قاله فطار صوابه, وتجسمت هذه الهفوة أمام نفسه
حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات, أوقع به الشعور بالاثم
من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!!



ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه
لا محالة..

لقد كان يحتمل الهول المنصّب
على جسده, لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت
به همومه وجزعه على الموت والهلاك..

لكن الله العليّ القدير أراد
للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه..

وبسط الوحي يمينه المباركة
مصافحا بها عمّارا, وهاتفا به: انهض أيها البطل.. لا تثريب عليك ولا حرج..


ولقي رسول الله صلى الله عليه
وسلم صاحبه فألفاه يبكي, فجعل يمسح دموعه بيده, ويقول له:

" أخذك الكفار, فغطوك في الماء,
فقلت كذا.. وكذا..؟؟"

أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا
رسول الله...

فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا, فقل لهم مثل قولك هذا"..!!

ثم تلا عليه الآية
الكريمة:

( الا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان)..

واستردّ عمّار سكينة نفسه, ولم
يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما, ولم يعد يلقي له وبالا..


لقد ربح روحه, وربح ايمانه..
ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة, فليكن بعدئذ ما يكون..!!


وصمد عمّار حتى حل الاعياء
بجلاديه, وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!!



**





استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم
اليها, وأخذ المجتمع الاسلامي هناك يتشكّل سريعا, ويستكمل نفسه..


ووسط هذه الجماعة المسلمة
المؤمنة,أخذ عمار مكانه عليّا..!!

كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يحبه حبا جمّا, ويباهي أصحابه بايمانه وهديه..

يقول عنه صلى الله عليه
وسلم/

: ان عمّارا ملئ ايمانا الى
مشاشه".



وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد, قال رسول الله:" من
عادى عمارا, عاداه الله, ومن أبغض عمارا أبغضه الله"

ولم يكن أمام خالد بن الوليد
بطل الاسلام الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه, وطامعا في صفحه الجميل..!!


وحين كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها, ارتجز الامام علي كرّم
الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه, فيقولون:


لا يستوي من يعمر المساجدا


يدأب فيها قائما وقاعدا


ومن يرى عن الغبار حائدا




وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد
الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به, فغاضبه ببعض القول
فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:

" ما لهم ولعمّار..؟


يدعوهم الى الجنة, ويدعونه الى
النار..

ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ
وأنفي"...



واذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما
الى هذا الحد, فلا بد أن يكون ايمانه, وبلاؤه, وولاؤه, وعظمة نفسه, واستقامة ضميره
ونهجه.. قد بلغت المدى, وانتهت الى ذروة الكمال الميسور..!!

وكذلكم كان عمار..


لقد كال الله له نعمته وهداه
بالمكيال الأوفى, وبلغ في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم
يزكّي ايمانه, ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:

" اقتدوا بالذين من بعدي أبي
بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..

ولقد وصفه الرواة فقالوا:


" كان طوّالا, أشهل, رحب ما بين
المنكبين.. من أطول الناس سكوتا, وأقلهم كلاما"..

فكيف سارت حياة هذا العملاق,
الصامت الأشهل, العريض الصدر, الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع, كما يحمل في نفس
الوقت وثيقة صموده الهائل, والمذهل وعظمته الخارقة..؟!

كيف سارت حياة هذا الحواري
المخلص, والمؤمن الصادق, والفدائي الباهر..؟؟

لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع
المشاهد.. بدرا, وأحدا, والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعا.

ولما ذهب الرسول صلى الله عليه
وسلم الى الرفيق الأعلى, واصل العملاق زحفه..

ففي لقاء المسلمين مع الفرس,
ومع الروم, ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجراّرة كان عمّار هناك في
الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا, لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا,
لا تأخذه عن الله رغبة..

وحين كان أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يختار مصيره, كانت عيناه
تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..

وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة,
وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..

وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم
فيه بواليهم الجديد, فقال:

" اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر
أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..

وانهما من النجباء, من أصحاب
محمد, ومن أهل بدر"..



ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين
في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..

لقد زادته الولاية تواضعا وورعا
وزهدا..

يقول ابن أبي الهذيل, وهو من
معاصريه في الكوفة:

" رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير
الكوفة يشتري من قثائها, ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره, ويمضي بها الى
داره"..!!



ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:" يا
أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد
الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:

" خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت
في سبيل الله"..!!

أجل لقد أصيب في سبيل الله في
يوم اليمامة, وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف
يحصد في جيش مسيلمة الكذاب, ويهدي اليه المنايا والدمار..

واذا يرى في المسلمين
فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل,
فيندفعون كالسهام المقذوفة.

يقول عبدالله بن عمر رضي الله
عنهما:

" رايت عمّار بن ياسر يوم
اليمامة على صخرة, وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا
عمّار بن ياسر, هلموا اليّ.. فنظرت اليه, فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح, وهو يقاتل أشد
القتال"..!!!



ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق,
والمعلم الكامل, فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه, وليسأل نفسه: هل يقدر
على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم, ومعلم عظيم؟؟



اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع
من يبحث عن المنيّة, لا عن النصر..!!

واذا كانوا خلفاء وحكّاما, ذهب
الخليفة يحلب شياه الأيامى, ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!


واذا كانوا ولاة حملوا طعامم
على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من
الخوص المجدول أوعية ومكايل, كما صنع سلمان..!!

ألا فلنحن الجباه تحيّة واجلالا
للدين الذي أنجبهم, وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول, الله العليّ الكبير
الذي اجتباهم لهذا كله..

وهداهم لهذا كله.. وجعلهم
روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!



**





كان الحذيفة بن اليمان, الخبير بلغة السرائر
والقلوب يتهيأ للقاء الله, ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين
له" بمن تأمرنا, اذا اختلف الناس"..؟

فأجابهم حذيفة, وهو يلقي
بآخر كلماته:

" عليكم بابن سميّة.. فانه لن
يفارق الحق حتى يموت"..

أجل ان عمارا ليدور مع الحق حيث
يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة, ونتتبع
معالم حياته العظيمة, تعلوْا نقترب من مشهد عظيم..

ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد
في روعته وجلاله, في صولته وكماله, في تفانيه واصراره, في تفوقه واقتداره, تعالْوا
نبصر مشهدا يسبق هذا المشهد, ويتنبأ به, ويهيئ له...



كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة, وقد
نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار, شعثا لربهم وغبرا, يبنون بيته, ويقيمون
مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة, وتألقت بشرا, وابتهلت حمدا لربها
وشكرا..

الجميع يعملون في خبور وأمل..
يحملون الحجارة, أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء..

فوج هنا وفوج هناك..


والأفق السعيد يردد تغريدهم
الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا
العمل المضلل

هكذا يغنون وينشدون..


ثم تتعالى أصواتهم الصادحة
بتغريدة أخرى:

اللهم ان العيش عيش الآخرة
فارحم الأنصار والمهاجرة

وتغريدة ثالثة:


لا يستوي من يعمّر مسجدا


يدأب فيها قائما وقاعدا


ومن يرى الغبار عنه حائدا




انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده, يحملون
لواءه, ويرفعون بناءه..

ورسوله الطيّب الأمين معهم,
يحمل من الحجارة أعتاها, ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة
أنفسهم الراضية المخبتة..

والسماء من فوقهم تغبط الأرض
التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!!


وعمار بن ياسر هناك وسط
المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها...




ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله, فيأخذه
اليه حنان عظيم, ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه, ويتأمّل وجهه
الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله, ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعا:


" ويح ابن سميّة..!! تقتله
الفئة الباغية"...



وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان
يعمل تحته, فيظن بعض اخوانه أنه قد مات,
فيذهب ينعاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويفزّع الأصحاب من وقع النبأ.. لكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:

" ما مات عمّار تقتله الفئة
الباغية"..

فمن تكون هذه الفئة يا
ترى..؟؟

ومتى..؟ وأي..؟


لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء
من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم..

ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم,
وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار...

ومضت الأيام.. والأعوام..


ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم
الى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به الى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما الى رضوان
الله عمر..

وولي الخلافة ذي النورين عثمان
بن عفان رضي الله عنه..

وكانت المؤمرات ضدّ الاسلام
تعمل عملها االمستميت, وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في
الحرب..

وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته
هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر
الاسلام ملكها وعروشها..

وأغراها استشهاد عمر على مواصلة
مساعيها, فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الاسلام..

ولعل عثمان رضي الله عنه, لم
يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر, فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله
عنه, وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا
كرّم الله وجهه حقه في الأمر, وفي الخلافة...



وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من
الخلاف وأوى الى بيته, جاعلا شعاره كلمة ابن عمر:

" من قال حيّ على الصلاة
أجبته...

ومن قال حيّ على الفلاح
أجبته..

ومن قال حيّ على قتل أخيك
المسلم وأخذ ماله, قلات: لا؟..

ومنهم من انحاز الى
معاوية..

ومنهم من وقف الى جوار عليّ
صاحب البيعة, وخليفة المسلمين..

ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟


أين يقف الرجل الذي قال عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" واهتدوا بهدي عمّار"..؟


أين يقف الرجل الذي قال عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" من عادى عمّارا عاداه
الله"..؟

والذي كان اذا سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:

" مرحبا بالطيّب المقدام,
ائذنوا له"..!!



لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب, لا
متحيّزا ولا متعصبا, بل مذعنا للحق, وحافظا للعهد..

فعليّ خليفة المسلمين, وصاحب
البيعة بالامامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير..


وعليّ قبل هذا وبعد هذا, صاحب
المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من
موسى..

ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث
دار, ليهتدي بنور بصيرته واخلاصه الى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب
الحق يومئذ في يقينه سوى عليّ, فأخذ مكانه الى جواره..

وفرح علي رضي الله عنه بنصرته
فرحا لعله لم يفرح يومئذ مثله وازداد
ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه..


وجاء يوم صفين الرهيب.


وخرج الامام علي يواجه العمل
الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه.

وخرج معه عمار..


كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ
ثلاثة وتسعين..

ثلاث وتسعون عاما ويخرج
للقتال..؟

أجل ما دام يعتقد أن القتال
مسؤليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!!


كان الرجل الدائم الصمت, القليل
الكلام, لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما الا بهذه الضراعة:


" عائذ بالله من فتنة...


عائذ بالله من فتنة..".


وبعيد وفاة الرسول صلى الله
عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم..

وكلما كانت الأيام تمر, كان هو
يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت
أيامه..

وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة, كان ابن سميّة.
يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به
حقا من يؤمن بوجوب مناصرته..

ولقد أعلن وجهة نظره في هذا
القتال قائلا:



" ايها الناس:

سيروا بنا نحو هؤلاء القوم
الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان, ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره, ولكنهم ذاقوا
الدنيا, واستمرءوها, وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم
ودنياهم..

وما كان لهؤلاء سابقة في
الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم, ولا الولاية عليهم, ولا عرفت قلوبهم من
خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق...

وانهم ليخادعون الناس بزعمهم
أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون الا أن يكونوا جبابرة وملوكا؟...


ثم أخذ الراية بيده, ورفعها فوق
الرؤوس عالية خافقة, وصاح في الناس قائلا:

" والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت
بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهأنذا أقاتل بها اليوم..


والذي نفسي بيده. لو هزمونا حتى
يبلغوا سعفات هجر, لعلمت أننا على الحق, وأنهم على الباطل"..


ولقد تبع الناس عمارا, وآمنوا
بصدق كلماته..

يقول أبو عبدالرحمن
السلمي:

" شهدنا مع عليّ رضي الله عنه
صفين, فرأيت عمار ابن ياسر رضي الله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها, ولا واد من
أوديتها, الا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!!


كان عمّار وهو يجول في المعركة
ويصول, يؤمن أنه واحد من شهدائها..

وقد كانت نبوءة رسول الله صلى
الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبيرة:

" تقتل عمّار الفئة
الباغية"..

من أجل هذا كان صوته يجلجل في
أفق المعركة بهذه التغريدة:

"اليوم القى الأحبة محمدا
وصحبه"..!!



ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن
حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما:

لقد ضربناكم على تنزيله


واليوم نضربكم على
تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقليه


ويذهل الخليل عن
خليله

أو يرجع الحق الى سبيله


وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول
السابقين, وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل
لواء الشرك, ويقود جيوش المشركين..

قاتلوهم بالأمس, وكان القرآن
الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون..

أما اليوم, وان يكونوا قد
أسلموا, وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم, الا أن اجتهاد عمار رضي
الله عنه في بحثه عن الحق, وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود
الحق المغتصب الى ذويه, وحتى تنصفئ الى الابد نار التمرّد والفتنة..


ويعني كذلك, أنهم بالأمس قاتلوا
الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن..

واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين,
وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره, ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه
لأغراضهم وأطماعهم..!!



كان ابن الثالثة والتسعين, يخوض آخر معارك
حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات
على الحق, ويترك لها آخر مواقفه العظيمة, الشريفة المعلمة..

ولقد حاول رجال معاوية أن
يتجنبوا عمّار ما استطاعوا, حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة
الباغية..

بيد أن شجاعة عمار الذي كان
يقتل وكأنه جيش واحد, أفقدتهم صوابهم, فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة
لاصابته, حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه...




**





كان جيش معاوية ينتظم من كثيرين من المسلمين
الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها
الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد
معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة, والامام, كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها
اشتعالا..

وهذا الخلاف على خطورته, كان
يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ
أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام, وذهبت تذكي النار
وتزيدها ضراما..

شاع في الغداة خبر مقتل عمار
وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها
أصحابه جميعا ذات يوم بعيد, وهم يبنون المسجد بالمدينة..

" ويح ابن سمية, تقتله الفئة
الباغية".

وعرف الناس الآن من تكون الفئة
الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله الا فئة معاوية..




وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا..


أما فريق معاوية, فقد بدأ الشك
يغز قلوبهم, وتهيأ بعضهم للتمرد, والانضمام الى عليّ..

ولم يكد معاوية يسمع بما حدث.
حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق , وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا
بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا...؟ ثم صاح في الناس
الذين معه قائلا:

" انما قتله الذين خرجوا به من
داره, وجاؤا به الى القتال"..

وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى
بهذا التأويل المتهالك, واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم...




**





أمّا عمّار, فقد حمله الامام علي فوق صدره الى
حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه..

أجل في ثيابه المضمّخة بدمه
الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل,
وقدّيس عظيم من طراز عمّار...



ووقف المسلمون على قبره يعجبون..


منذ ساعات كان عمّار يغرّد
بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه, وهو
يصيح:

" اليوم ألقى الأحبة, محمدا
وصحبة"..!!

أكان معهم اليوم على موعد
يعرفه, وميقات ينتظره...؟؟!!

وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم
يتساءلون...

قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل
ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه
وقال:

" اشتاقت الجنة
لعمّار"..؟؟

قال له صاحبه نعم, ولقد ذكر
يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال..

اذن فالجنة كانت مشتاقة
لعمّار..

واذن, فقد طال شوقها اليه, وهو
يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته, وينجز آخر واجباته..

ولقد أدّاها في ذمّة, وأنجزها
في غبطة..

أفما آن له أن يلبي نداء الشوق
الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟

بلى آن له أن يبلي النداء.. فما
جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى..



وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق
جثمانه, كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق, التي طال شوقها
لعمّار...!



[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]


نقيب في حزب


الله




انه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم:

" لو أن الأنصار سلكوا واديا أو
شعبا, لسلكت وادي الأنصار وشعبهم, ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار"..هو عبادة
بن الصامت بعد كونه من الأنصار, فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم
وعشائرهم...

وحينما جاء وفد الأنصار الأول
الى مكة ليبايع الرسول عليه السلام, تلك البيعة المشهورة بـ بيعة العقبة الأولى,
كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا, الذين سارعوا الى الاسلام,
وبسطوا أيمانهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين, وشدّوا على يمينه
مؤازرين ومسلمين...



وحينما كان موعد الحج في العام التالي, يشهد
بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد الأنصار الثاني, مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة,
كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار..



وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية
والبذل, والفداء تتابع, كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية...


ومنذ اختار الله ورسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار..


كل ولائه لله, وكل طاعته لله,
وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي
يفرضه هذا الايمان..

كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف
قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة..



ومنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة, ويهودها
يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد, فشرع يهود
المدينة يتنمّرون..

وافتعلت احدى قبائلهم بنو
قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين..

ولا يكاد عبادة يرى موقفهم هذا,
حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا:

" انما أتولى الله, ورسوله,
والمؤمنين...

فيتنزل القرآن محييا موقفه
وولاءه, قائلا في آياته:

( ومن يتولى الله ورسوله,
والذين آمنوا, فان حزب الله هم الغالبون)...



**





لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله..


وحزب الله, هم أولئك المؤمنون
الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق, والذين
يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم
ورسلهم, مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم..




ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله
عليه وسلم, بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة, والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن
عليها, ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله..



وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة
تحيي موقفه وتشيد بولائه وايمانه, لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة, بل سيصير
نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا.

أجل لقد أصبح عبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج,
رائدا من روّاد الاسلام, وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار
الأرض لا في جيل, ولا في جيلين, أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال.. ومن
أزمان.. ومن آماد..!!



**





سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث
عن مسؤلية الأمراء والولاة..

سمعه يتحدث عليه الصلاة
والسلام, عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق, أو تعبث ذمته بمال, فزلزل
زلزالا, وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا..

ولقد برّ بقسمه..


وفي خلافة أمير المؤمنين عمر
ؤضي الله عنه, لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما, الا تعليم الانس
وتفقيههم في الدين.

أجل هذا هو العمل الوحيد الذي
آثره عبادة, مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى, المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء,
والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه

وهكذا سافر الى الشام ثالث
ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا...


وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي
قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك, معاوية..



**





كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو
ببصره الى ما وراء الحدود.. الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة, فيرى
فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!!

ثم يرتد بصره الى حيث يقيم, في
فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا, ويعشق السلطان...


وعبادة من الرعيل الأول الذي
عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته
التضحية, وعانق الاسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله...

عبادة من الرعيل الذي رباه محمد
بيديه, وأفرغ عليه من روحه ونوره
وعظمته..

واذا كان هناك من الأحياء مثل
أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة, وقلبه ثقة, فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في
المدينة.. عمر بن الخطاب..

فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات
معاوية بهذا المقياس, فستكون الشقة بين الاثنين واسعة, وسيكون الصراع محتوما.. وقد
كان..!!



**





يقول عبادة رضي الله عنه:


" بايعنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم"..

وعبادة خير من يفي بالبيعة.
واذن فهو لن يخشى معاوية بكل سلطانه, وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه..


ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ
عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار
كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا..

وعلى الرغم من الحلم الواسع
الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا
لهيبة سلطانه..

ورأى عبادة من جانبه أن مسافة
الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع, فقال لمعاوية:" والله لا أساكنك أرضا واحدة
أبدا".. وغادر فلسطين الى المدينة..



**





كان أمير المؤمنين عمر, عظيم الفطنة, بعيد
النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم
ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء
المخلصين, كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة, وكي يكونوا لهم وللناس
تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده..



من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن
الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله:" ما الذي جاء بك يا عبادة"...؟؟ ولما قصّ
عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر:

" ارجع الى مكانك, فقبّح الله
أرضا ليس فيها مثلك..!!

ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا
يقول فيه:

" لا امرة لك على
عبادة"..!!

أجل ان عبادة أمير نفسه..


وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا
مثل هذا التكريم, فانه يكون عظيما..

وقد كان عبادة عظيما في ايمانه,
وفي استقامة ضميره وحياته...



**


وفي العام الهجري الرابع والثلاثين, توفي
بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام, تاركا في
الحياة عبيره وشذاه....
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله عثمان بن مظعون    رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 13, 2011 7:51 pm


عثمان بن مظعون


راهب صومعته
الحياة




اذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفق سبقهم الزمني الى الاسلام فاعلم اذا بلغت الرقم الرابع عشر أن صاحبه هو
عثمان بن مظعون..

واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا,
كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة.. كما كان أول المسلمين دفنا بالبقيع..


واعلم أخيرا أن هذا الصحابي
الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع, بل من رهبان
الحياة...!!

أجل.. كانت الحياة بكل جيشانها,
ومسؤولياتها, وفضائلها هي صومعته..

وكانت رهبانيته عملا دائبا في
سبيل الحق, وتفانيا مثابرا في سبيل الخير والصلاح...



**





عندما كان الاسلام يتسرّب ضوؤه الباكر النديّ
من قلب الرسول صلى الله عليه عليه وسلم.. ومن كلماته , عليه الصلاة والسلام, التي
يلقيها في بعض الأسماع سرا وخفية..

كان عثمان بن معظون هناك, وحدا
من القلة التي سارعت الى الله والتفت حول رسوله..

ولقد نزل به من الأذى والضر, ما
كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين..

وحين آثر رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذه القلة المؤمنة المضطهدة بالعافية. آمرا ايّاها بالهجرة الى الحبشة.
مؤثرا أن يبقى في مواجهة الأذى وحده, كان عثمان بن مظعون أمير الفوج الأول من
المهاجرين, مصطحبا معه ابنه السائب موليّا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله
أبي جهل. وضراوة قريش, وهو عذابها....



**





وكشأن المهاجرين الى الحبشة في كلتا
الهجرتين... الأولى والثانية, لم يزدد عثمان بن مظعون رضي الله عنه الا استمساكا
بالاسلام. واعتصاما به..

والحق أن هجرتي الحبشة تمثلان
ظاهرة فريدة, ومجيدة في قضية الاسلام..

فالذين آمنوا بالرسول صلى
الله وصدّقوه, واتبعوا النور الذي أنزل
معه, كانوا قد سئموا الوثنية بكل ضلالاتها وجهالاتها, وكانوا يحملون فطرة سديدة لم
تعد تسيغ عبادة أصنام منحوتة من حجارة أو معجونة من صلصال..!!


وحين هاجروا الى الحبشة واجهوا
فيها دينا سائدا, ومنظما.. له كنائسه وأحباره ورهبانه..

وهو, مهما تكن نظرتهم اليه,
بعيد عن الوثنية التي ألفوها في بلادهم, وعن عبادة الأصنام بشكلها المعروف وطقوسها
التي خلفوها وراء ظهورهم..

ولا بدّ أن رجال الكنيسة في
الحبشة قد بذلوا جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين لدينهم, واقناعهم بالمسيحية
دينا...

ومع هذا كله نرى أولئك
المهاجرين يبقون على ولائهم العميق للاسلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم.. مترقبين في
شوق وقلق, ذلك اليوم القريب الذي يعودون فيه الى بلادهم الحبيبة, ليعبدوا الله
وحده, وليأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم.. في المسجد أيام السلام.. وفي ميدان
القتال, اذا اضطرتهم قوى الشرك للقتال..



في الحبشة اذن عاش المهاجرون آمنين مطمئنين..
وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي لم ينس في غربته مكايد ابن عمّه أمية بن خلف, وما
ألحقه به وبغيره من أذى وضرّ, فراح يتسلى بهجائه ويتوعده:

تريش نبالا لا يواتيك
ريشها

وتبري نبالا, ريشها
لك أجمع

وحاربت أقواما مراما أعزة


وأهلكت أقواما بهم
كنت تزغ

ستعلم ان نابتك يوما ملمّة


وأسلمك الأوباش ما
كنت تصنع



**





وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله,
ويتدارسون ما معهم من القرآن, ويحملون برغم الغربة توهج روح منقطع النظير.. اذ
الأنباء تواتيهم أن قريش أسلمت, وسجدت عم الرسول لله الواحد القهار..


هنالك حمل المهاجرون أمتعتهم
وطاروا الى مكة تسبقهم أشواقهم, ويحدوهم حنينهم..

بيد أنهم ما كادوا يقتربون من
مشارفها حتى تبيّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن اسلام قريش..

وساعتئذ سقط في أيديهم, ورأوا
أنهم قد عجلوا.. ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر..!!


وقد سمع مشركو مكة بمقدم الصيد
الذي طالما ردوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.. ثم ها هو ذا الآن, تحيّن فرصته, وتأتي به
مقاديره..!!



كان الجوّار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات
القداسة والاجلال, فاذا دخل رجل مستضعف جوار سيّد قرشي, أصبح في حمى منيع لا يهدر
له دم, ولا يضطرب منه مأمن...

ولم يكن العائدون سواء في
القدرة على الظفر بجوار..

من أجل ذلك ظفر بالجوار منهم
قلة, كان من بين أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل في جوار الوليد بن المغيرة.


وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا,
ومضى يعبر دروبها, ويشهد ندواتها, لا يسام خسفا ولا ضيما.



**





ولكن ابن مظعون.. الرجل الذي يصقله القرآن, ويربيه محمد صلى الله عليه
وسلم, يتلفت حواليه, فيرى اخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين, الين لم يجدوا
لهم جوارا ولا مجيرا.. يراهم والأذى ينوشهم من كل جانب.. والبغي يطاردهم في كل
سبيل.. بينما هو آمن في سربه, بعيد من أذى قومه, فيثور روحه الحر, ويجيش وجدانه
النبيل, ويتفوق بنفسه على نفسه, ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد, وأن
ينضو عن كاهله تلك الحماية التي حرمته لذة تحمل الأذى في سبيل الله, وشرف الشبه
باخوانه المسلمين, طلائع الدنيا المؤمنة, وبشائر العالم الذي ستتفجر جوانبه غدا
ايمانا, وتوحيدا, ونورا..



ولندع شاهد عيان يصف لنا ما حدث:


" لما رأى عثمان بن مظعون ما
فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان الوليد
بن المغيرة, قال: والله ان غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك, واصحابي وأهل
ديني يلقون من البلاء والأذى ما لايصيبني, لنقص كبير في نفسي..


فمشى الى الوليد بن المغيرة
فقال له:

يا أبا عبد شمس وفت ذمتك. وقد
رددت اليك جوارك..

فقال له:


لم يا ابن أخي.. لعله آذاك أحد
من قومي..؟

قال.. لا. ولكني أرضى بجوار
الله, ولا أريد أن أستجير بغيره...

فانطلق الى المسجد فاردد عليّ
جواري علانية ..

فانطلقا حتى أتيا المسجد, فقال
الوليد: هذا عثمان..

قد جاء يردد عليّ جواري..


قال عثمان: صدق.. ولقد وجدته
وفيّا كريما الجوار, ولكنني أحببت ألا أستجير بغير الله..

ثم انصرف عثمان, ولبيد بن ربيعة
في مجلس من مجالس قريش ينشدهم, فجلس معهم عثمان فقال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله
باطل

فقال عثمان: صدقت..


قال لبيد:


وكل نعيم لا محالة زائل


قال عثمان: كذبت.. نعيم الجنة
لا يزول..

فقال لبيد: يا معشر قريش, والله
ما كان يؤذى جليسكم, فمتى حدث هذا فيكم..؟

فقال رجل من القوم: ان هذا سفيه
فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله..

فرد عليه عثمان بن مظعون حتى
سري أمرهما. فقام اليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابا, والوليد بن المغيرة قريب, يرى
ما يحدث لعثمان, فقال: أما والله يا بن أخي ان كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة, لقد كانت في ذمة
منيعة..

فال عثمان: بل والله ان عيني
الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر
يا أبا عبد شمس..!!

فقا له الوليد: هلم يا بن أخي,
ا ن شئت فعد الى جواري..

قال ابن مظعون: لا...


وغادر ابن مظعون هذا المشهد
وعينه تضجّ بالألم, ولكن روحه تتفجر عافية, وصلابة, وبشرا..

ولقد مضى في الطريق الى داره
يتغنى بشعره هذا:

فان تك عيني في رضا الله
نالها

يدا ملحدا في
الدين ليس بمهتدي

فقد عوّض الرحمن منها
ثوابه

ومن يرضه
الرحمن يا قوم يسعد

فاني وان قلتم غويّ مضلل


لأحيا على دين
الرسول محمد

أريد بذاك الله, والحق
ديننا

على رغم من
يبغي علينا ويعتدي



**





هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثلا, هو له أهل, وبه
جدير..

وهكذا شهدت الحياة انسانا شامخا يعطّر الوجود
بموقفه الفذ هذا..

وبكلماته الرائعة الخالدة:


" والله ان عيني الصحيحة,
لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك
وأقدر"..!!

ولقد ذهب عثمان بن مظعون بعد
ردّ جوار الوليد يتلقى من قريش أذاها, وكان بهذا سعيدا جدّ سعيد.. فقد كان ذلك
الأذىبمثابة الانر التي تنضج الايمان وتصهره وتزكّيه..

وهكذا سار مع اخوانه المؤمنين,
لا يروعهم زجر.. وبل يصدّهم اثخان..!!



**





ويهاجر عثمان الى المدينة, حيث لا يؤرّقه أبو
جهل هناك, ولا أبو لهب.... ولا أميّة.. ولا عتبة, ولا شيء من هذه الغيلان التي
طالما أرّقت ليلهم, وأدمت نهارهم..

يذهب الى المدينة مع أولئك
الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته,
والذين لم يهاجروا الى المدينة ليستريحوا ويكسروا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح
الرحب الى كل أقطار الأرض حاملين راية الله, مبشرين بكلماته وآياته وهداه..


وفي دار الهجرة المنوّرة,
يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة, فاذا هو العابد,
الزاهد, المتبتل, الأوّاب...

واذا هو الراهب الجليل, الذكي
الذي لا يأوي الى صومعة يعتزل فيها الحياة..

بل يملأ الحياة بعمله, وبجهاده
في سبيل الله..

أجل..

راهب الليل فارس النهار, بل
راهب الليل والنهار, وفارسهما معا..

ولئن كان أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم, لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم, كانوا جميعا يحملون روح الزهد
والتبتل, فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده
وتفانيه امعانا رائعا, أحال حياته كلها في ليله ونهاره الى صلاة دائمة مضيئة,
وتسبيحة طويلة عذبة..!!

وما ان ذاق حلاوة الاستغراق في
العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة..

فمضى لا يلبس الا الملبس الخشن,
ولا يأكل الا الطعام الجشب..

دخل يوما المسجد, ورسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس, وكان يرتدي لباسا تمزق, فرقّعه بقطعة من فروة..
فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم, ودمعت عيون أصحابه, فقال لهم النبي صلى الله
عليه وسلم:

" كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في
حلة, ويروح في أخرى.. وتوضع في قصعة. وترفع أخرى.. وسترتم بيوتكم كما تستر
الكعب..؟!"..

قال الأصحاب:


" وددنا أن يكون ذلك يا رسول
الله, فنصيب الرخاء والعيش"..

فأجابهم الرسول صلى الله عليه
وسلم قائلا:

" ان ذلك لكائن.. وأنتم اليوم
خير منكم يومئذ"..

وكان بديهيا, وابن مظعون يسمع
هذا, أن يزداد اقبالا على الشظف وهربا من النعيم..!!

بل حتى الرفث الى زوجته
نأى عنه وانتهى, لولا أن رسول الله عليه
السلام علم عن ذلك فناداه وقال له:

" ان لأهلك عليك حقا"..




**





وأحبّه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبّا
عظيما..

وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ
للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة, وأولهم ارتياد لطريق الجنة, كان
الرسول عليه الصلاة والسلام, هناك الى جواره..

ولقد أكبّ على جبينه يقبله,
ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت
في أبهى لحظات اشراقه وجلاله..

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم
يودّع صاحبه الحبيب:

" رحمك الله يا أبا السائب..
خرجت من الدنيا وما أصبت منها, ولا أصابت منك"..



**





ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته, بل كان
دائم الذكر له, والثناء عليه..

حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه
السلام لابنته رقيّة, حين فاضت روحها:

" الحقي بسلفنا الخيّر,
عثمان بن مظعون"..!!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله جعفر بن ابى طالب و زيد بن حارثه   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 13, 2011 8:05 pm



جعفر بن أبي
طالب

أشبهت خلقي,
وخلقي

انظروا جلال شبابه..


انظروا نضارة اهابه..
انظروا أناته وحلمه, حدبه,
وبرّه, تواضعه وتقاه..

انظروا شجاعته التي لا تعرف
الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر..

انظروا طهره وعفته..
انظروا صدقه وأمانته...
انظروا فيه كل رائعة من روائع
الحسن, والفضيلة, والعظمة, ثم لا تعجبوا, فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا,
وخلقا..

أنتم أمام من كنّاه الرسول بـ
أبي المساكين..

أنت تجاه من لقبه الرسول بـ ذي
الجناحين..

أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد,
جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم اسهام في صوغ
ضمير الحياة..!!

أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما,
آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين..

وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته
أسماء بنت عميس..

وحملا نصيبهما من الأذى ومن
الاضطهاد في شجاعة وغبطة..

فلما اختار الرسول لأصحابه
الهجرة الى الحبشة, خرج جعفر وزوجه حيث لبثا بها سنين عددا, رزقا خلالها بأولادهما
الثلاثة محمد, وعبد الله, وعوف...

وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث
اللبق, الموفق باسم الاسلام ورسوله..

ذلك أن الله أنعم عليه فيما
أنعم, بذكاء القلب, واشراق العقل, وفطنة النفس, وفصاحة اللسان..

ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل
فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها..

فان يوم المحاورة التي أجراها
أمام النجاشي بالحيشة, لن يقلّ روعة ولا بهاء, ولا مجدا..

لقد كان يوما فذّا, ومشهدا
عجبا...

وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها, ولم يذهب من
غيظها, ولم يطامن كم أحقادها, هجرة المسلمين الى الحبشة, بل خشيت أن يقوى هناك
بأسهم, ويتكاثر طمعهم.. وحتى اذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة, فقد عز على
كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها, ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا
رحبا تهتز له نفس الرسول, وينشرح له صدر الاسلام..

هنالك قرر ساداتها ارسال مبعوثين الى النجاشي
يحملان هدايا قريش النفيسة, ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا اليها
لائذين ومستجيرين...

وكان هذان المبعوثان: عبدالله
بن أبي ربيعة, وعمرو بن العاص, وكانا لم يسلما بعد...

كان النجاشي الذي كان يجلس أيامئذ على عرش
الحبشة, رجلا يحمل ايمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية,
بعيدة عن الانحراف, نائية عن التعصب والانغلاق...

وكان ذكره يسبقه.. وسيرته
العادلة, تنشر غبيرها في كل مكان تبلغه..

من أجل هذا, اختار الرسول صلى
الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه..

ومن أجل هذا, خافت قريش ألا
تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة, وكبار رجال الكنيسة هناك,
وأوصى زعماء قريش مبعوثيهاألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولا,
وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما, ليكونوا لهم عونا عند النجاشي.

وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة,
وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة, ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها اليهم..
ثم أرسلا للنجاشي هداياه..

ومضيا يوغران صدور القسس
والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين, ويستنجدان بهم لحمل النجاشي, ويواجهان بين يديه
خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها.


وفي وقار مهيب, وتواضع جليل, جلس النجاشي على
كرسيه العالي, تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية, وجلس أمامه في البهو الفسيح,
المسلمون المهاجرون, تغشاهم سكينة الله, وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران
الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذ الاجتماع
الحاشد الكبير:

" أيها الملك.. انه قد ضوى لك
الى بلدك غلمان سفهاء, فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك, بل جاؤوا بدين
ابتدعوه, لا نعرفه نحن ولا أنت, وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم,
أعمامهم, وعشائرهم, لتردّهم اليهم"...

وولّى النجاشي وجهه شطر
المسلمين, ملقيا عليهم سؤاله:

" ما هذا الدين الذي فارقتم فيه
قومكم, واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟

ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة
التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها ابّان تشاورهم, وقبل مجيئهم الى هذا
الاجتماع..



نهض جعفر في تؤدة وجلال, وألقى نظرات محبّة على
الملك الذي أحسن جوارهم وقال:

" يا أيها الملك..


كنا قوما أهل جاهلية: نعبد
الأصنام, ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش, ونقطع الأرحام, ونسيء الجوار, ويأكل القوي
منا الضعيف, حتى بعث الله الينا رسولا منا, نعرف نسبه وصدقه, وأمانته, وعفافه,
فدعانا الى الله لنوحّده ونعبده, ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة
والأوثان..

وأمرنا بصدق الحديث, وأداء
الأمانة, وصلة الرحم, وحسن الجوار, والكفّ عن المحارم والدماء..


ونهانا عن الفواحش, وقول الزور,
وأكل مال اليتيم, وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به, واتبعناه على ما جاءه من
ربه, فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا, وحرّمنا ما حرّم علينا, وأحللنا ما أحلّ
لنا, فغدا علينا قومنا, فعذبونا وفتنونا عن ديننا, ليردّونا الى عبادة الأوثان,
والى ما كنّا عليه من الخبائث..

فلما قهرونا, وظلمونا, وضيّقوا
علينا, وحالوا بيننا وبين ديننا, خرجنا الى بلادك ورغبنا في جوارك, ورجونا ألا نظلم
عندك"...

ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر,
فملأت نفس النجاشي احساسا وروعة, والتفت الى جعفر وساله:

" هل معك مما أنزل على رسولكم
شيء"..؟

قال جعفر: نعم..


قال النجاشي: فاقرأه علي..


ومضى حعفر يتلو لآيات من سورة
مريم, في أداء عذب, وخشوع فبكى النجاشي, وبكى معه أساقفته جميعا..


ولما كفكف دموعه الهاطلة
الغزيرة, التفت الى مبعوثي قريش, وقال:

" ان هذا, والذي جاء به عيسى
ليخرج من مشكاة واحدة..

انطلقا فلا والله, لا أسلمهم
اليكما"..!!

انفضّ الجميع, وقد نصر الله عباده وآرهم, في
حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة..

لكن عمرو بن العاص كان داهية
واسع الحيلة, لا يتجرّع الهزيمة, ولا يذعن لليأس..

وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه الى
نزلهما, حتى ذهب يفكّر ويدبّر, وقال لزميله:

" والله لأرجعنّ للنجاشي غدا,
ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم"..

وأجابه صاحبه: " لا تفعل, فان
لهم أرحاما, وان كانوا قد خالفونا"..

قال عمرو: " والله لأخبرنّه
أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد, كبقية العباد"..

هذه اذن هي المكيدة الجديدة
الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم الى الزاوية الحادة, ويضعهم بين
شقّي الرحى, فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله, حرّكوا ضدهم أضان الملك
والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!!

وفي الغداة أغذا السير الى مقابلة الملك, وقال
له عمرو:

" أيها الملك: انهم ليقولون في
عيسى قولا عظيما".

واضطرب الأساقفة..


واهتاجتهم هذه العبارة
القصيرة..

ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم
عن موقف دينهم من المسيح..

وعلم المسلمون بالمؤامرة
الجديدة, فجلسوا يتشاورون..

ثم اتفقوا على أن يقولوا الحق
الذي سمعوه من نبيهم عليه الصلاة والسلام, لايحيدون عنه قيد شعرة, وليكن ما
يكن..!!

وانعقد الاجتماع من جديد, وبدأ
النجاشي الحديث سائلا جعفر:

"ماذا تقولون في عيسى"..؟؟


ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار
المضيء وقال:

" نقول فيه ما جاءنا به نبينا
صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله, وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه"..


فهتف النجاشي مصدّقا ومعلنا أن
هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..

لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما
يشبه النكير..

ومضى النجاشي المستنير المؤمن
يتابع حديثه قائلا للمسلمين:

" اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي,
ومن سبّكم أو آذاكم, فعليه غرم ما يفعل"..

ثم التفت صوب حاشيته, وقال
وسبّابته تشير الى مبعوثي قريش:

" ردّوا عليهما هداياهما, فلا
حاجة لي بها...

فوالله ما أخذ الله مني الرشوة
حين ردّ عليّ ملكي, فآخذ الرشوة فيه"...!!

وخرج مبعوثا قريش مخذولين, حيث
وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائين اليها...

وخرج المسلمون بزعامة جعفر
ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة, لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير
جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة الى رسولهم واخوانهم وديارهم...


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع
المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا
لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..

وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة
والسلام بمقدمة غبطة, وسعادة وبشرا..

وعانقه النبي صلى الله عليه
وسلم وهو يقول:

" لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح
خيبر.. أم بقدوم جعفر..".



وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الى
مكة, حيث اعتمروا عمرة القضاء, وعادوا الى المدينة, وقد اكتلأت نفس جعفر روعة بما
سمع من انباء اخوانه المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر,
وأحد.. وغيرهما من المشاهد والمغازي.. وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما
عاهدوا الله عليه, وقضوا نحبهم شهداء أبرار..

وطار فؤداه شوقا الى الجنة,
وأخذ يتحيّن فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..!!

وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها,
تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف, وللمسير..

ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة
العمر, فامّا أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله, واما أن يظفر باستشهاد عظيم في
سبيل الله..

وتقدّم من رسول الله صلى الله
عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..

كان جعفر يعلم علم اليقين أنها
ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة, انما هي حرب لم يخض الاسلام منها من قبل.. حرب مع
جيوش امبراطورية عريضة باذخة, تملك من العتاد والأعداد, والخبرة والأموال ما لا قبل
للعرب ولا للمسلمين به, ومع هذا طار شوقا اليها, وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله
قواد الجيش وأمراءه..

وخرج الجيش وخرج جعفر
معه..

والتقى الجمعان في يوم
رهيب..



وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده
عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل, فانه على العكس, أخذته نشوة عارمة اذا
احسّ في أنفه المؤمن العزيز, واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له
وأندادا..!!

وما كادت الراية توشك على
السقوط من يمين زيد بن حارثة, حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في اقدام
خارق.. اقدام رجل لا يبحث عن النصر, بل عن الشهادة...

وتكاثر عليه وحوله مقاتلي
الروم, وراى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده الى نحور
أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من ألأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها, فعز عليه
أن يمتطي صهوتها هذا الرجس, فبسط نحوها سيفه, وعقرها..!!

وانطلق وسط الصفوف المتكالبة
عليه يدمدم كالاعصار, وصوته يتعالى بهذا الزجر المتوهج:

يا حبّذا الجنة
واقترابها طيّبة, وبارد
شرابها

والروم روم, قد دنا
عذابها كافرة بعيدة
أنسابها

عليّ اذا لاقيتها
ضرابها

وأدرك مقاتلو الروم
مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل, وكانه جيش لجب..

وأحاطوا به في اصرار
مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..

وضربوا بالسيوف
يمينه, وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى,
فاحتضن الراية بعضديه..

في هذه اللحظة
تركّزت كل مسؤوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو
حيّ..

وحين تكّومت جثته
الطاهرة, كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه, ونادت خفقاتها عبدالله بن
رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها, واخذها في قوة, ومضى بها الى مصير عظيم..!!


وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات
البشر..!!

وهكذا لقي الكبير المتعال,
مضمّخا بفدائيته, مدثرا ببطولاته..

وأنبأ العليم الخبير رسوله
بمصير المعركة, وبمصير جعفر, فاستودعه الله, وبكى..

وقام الى بيت ابن عمّه, ودعا
بأطفاله وبنيه, فشمّمهم, وقبّلهم, وذرفت عيناه..

ثم عاد الى مجلسه, وأصحابه
حافون به. ووقف شاعرالاسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه:


غداة مضوا بالمؤمنين
يقودهم

الى الموت
ميمون النقيبة أزهر

أغرّ كضوء البدر من آل
هاشم

أبيّ اذا سيم
الظلامة مجسر

فطاعن حتى مال غير موسد


لمعترك فيه
القنا يتكسّر

فصار مع المستشهدين ثوابه


جنان, ومتلف
الحدائق أخضر

وكنّا نرى في جعفر من محمد


وفاء وأمرا
حازما حين يأمر

فما زال في الاسلام من آل
هاشم

دعائم عز لا
يزلن ومفخر



وينهض بعد حسّان, كعب بن مالك, فيرسل شعره
الجزل :

وجدا على النفر الذين
تتابعوا

يوما بمؤتة,
أسندوا لم ينقلوا

صلى الاله عليهم من فتية


وسقى عظامهم
الغمام المسبل

صبروا بمؤتة للاله نفوسهم


حذر الردى,
ومخافة أن ينكلوا

اذ يهتدون بجعفر ولواؤه


قدّام أولهم,
فنعم الأول

حتى تفرّجت الصفوف وجعفر


حيث التقى وعث
الصفوف مجدّل

فتغير القمر المنير لفقده


والشمس قد كسفت,
وكادت تأفل



وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم, فقد كان
جعفر رضي الله عنه أبا المساكين..

يقول أبو هريرة:


" كان خير الناس للمساكين جعفر
بن أبي طالب"...

أجل كان أجود الناس بماله وهو
حيّ.. فلما جاء أجله أبى الا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه
وحياته..



يقول عبدالله بن عمر:

" كنت مع جعفر في غزوة مؤتة,
فالتمسناه, فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!!

بضع وتسعون طعنة سيف ورمية
رمح..؟؟!!

ومع هذا, فهل نال القتلة من
روحه ومن مصيره منالا..؟؟

أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم
سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد الى جوار الله الأعلى الرحيم, حيث نزل في رحابه
مكانا عليّا..

انه هنالك في جنان الخلد, يحمل
أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..

وان شئتم, فاسمعوا قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم:

" لقد رأيته في الجنّة.. له

جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!!


زيد بن حارثة


لم يحبّ حبّه
أحد

وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش
الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة,
قائلا:

" عليكم زيد بن حارئة.. فان
أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب.. فان أصيب جعفر, فعبدالله بن رواحة".


فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟


من هذا الذي حمل دون سواه لقب
الحبّ.. حبّ رسول الله..؟

أما مظهره وشكله, فكان كما وصفه
المؤرخون والرواة:

" قصير, آدم, أي أسمر, شديد
الأدمة, في أنفه فطس"..

أمّا نبؤه, فعظيم جدّ
عظيم..!!

أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته
سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.

وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل
بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة, وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت
الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله, ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع
زوجته وولده..

لكنّ الشقّة بعدت, والقافلة
أغذّت سيرها, وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه, ويعود..

وكذا ودّعهما ودموعه تسيل..
ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره, وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه..
كأنه رحل مع الراحلين..!!
ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن
تمكث..

وذات يوم فوجئ الحيّ, حي بني
معن, باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه, وتنزل الهزيمة ببني معن, ثم تحمل فيما
حملت من الأسرى ذلك الطفل اليافع, زيد بن حارثة..

وعادت الأم الى زوجها
وحيدة.

ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى
خرّ صعقا, وحمل عصاه على كاهله, ومضى يجوب الديار, ويقطع الصحارى, ويسائل القبائل
والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد, مسليّا نفسه, وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح
ينشده من بديهته ومن مآقيه:

بكيت على زيد ولم ادر ما
فعل

أحيّ فيرجى؟
أم أتى دونه الأجل

فوالله ما أدري, واني
لسائل

أغالك بعدي
السهل؟ أم غالك الجبل

تذكرينه الشمس عند طلوعها


وتعرض ذكراه
اذا غروبها أقبل

وان هبّت الأرواح هيّجن
ذكره

فيا طول حزني
عليه, ويا وجل

كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف
اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..

كان ذلك في أثينا, حتى في أزهى
عصور حريّتها ورقيّها..

وكذلك كان في روما..


وفي العالم القديم كله..
وبالتالي في جزيرة العرب أيضا..

وعندما اختطفت القبيلة المغيرة
على بني معن نصرها, وعادت حاملة أسراها,
ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ, وباعوا الأسرى..
ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن
حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.

وكانت خديجة رضي الله عنها, قد
صارت زوجة لمحمد بن عبدالله, الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل
الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..

ووهبت خديجة بدورها خادمها
زيد لزوجها رسول الله فتقبله مسرورا
وأعتقه من فوره,وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..


وفي أحد مواسم الحج. التقى نفر
من حيّ حارثة بزيد في مكة, ونقلوا اليه لوعة والديه, وحمّلهم زيد سلامه وحنانه
وشوقه لأمه وأبيه, وقال للحجّاج من قومه"

" أخبروا أبي أني هنا مع أكرم
والد"..



ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ
السير اليه, ومعه أخوه..

وفي مكة مضيا يسألان عن محمد
الأمين.. ولما لقياه قالا له:

"يا بن عبدالمطلب..


يا ابن سيّد قومه, أنتم أهل
حرم, تفكون العاني, وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا, فامنن علينا وأحسن في
فدائه"..

كان الرسول صلى الله عليه وسلم
يعلم تعلق زيد به, وكان في نفس الوقت يقدّر حق ابيه فيه.

هنالك قال حارثة:

"ادعوا زيدا, وخيّروه, فان
اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني
فداء"..!!

وتهلل وجه حارثة الذي لم يكن
يتوقع كل هذا السماح وقال:

" لقد أنصفتنا, وزدتنا عن
الانصاف"..

ثم بعث النبي صلى الله عليه
وسلم الى زيد, ولما جاء سأله:

" هل تعرف هؤلاء"..؟


قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا
عمّي.

وأعاد عليه الرسول صلى الله
عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:

" ما أنا بالذي أختار عليك
أحدا, أنت الأب والعم"..!!

ونديت عينا رسول الله بدموع
شاكرة وحانية, ثم أمسك بيد زيد, وخرج به الى فناء الكعبة, حيث قريش مجتمعة هناك,
ونادى الرسول:

" اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني
وأرثه"..!!

وكاد قلب حارثة يطير من الفرح..
فابنه لم يعد حرّا فحسب, بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني
هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..

وعاد الأب والعم الى قومهما,
مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة, آمنا معافى, بعد أن كان أبوه لا
يدري: أغاله السهل, أم غاله الجبل..!!

تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها
الا باسمه هذا زيد بن محمد..

وفي يوم باهر الشروق, نادى
الوحي محمدا:

( اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق
الانسان من علق, اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم, علّم الانسان ما لك
يعلم)...

ثم تتابعت نجاءاته
وكلماته:

( يا أيها المدثر, قم فأنذر,
وربّك فكبّر)...

(يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل
اليك من ربك, وان لم تفعل فما بلّغت رسالته, والله يعصمك من الناس, ان الله لايهدي
القوم الكافرين)...

وما ان حمل رسول الله صلى الله
عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول
المسلمين...!!

أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما,
وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له, وعظمة روحه, وعفّة ضميره
ولسانه ويده...

كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين
خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة
والسلام..

تقول السيّدة عائشة رضي الله
عنها:

" ما بعث الرسول صلى الله عليه
وسلم في جيش قط الا أمّره عليهم, ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه...


الى هذا المدى كانت منزلة زيد
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..

فمن كان زيد هذا..؟؟


انه كما قلنا ذلك الطفل الذي
سبي, ثم بيع, ثم حرره الرسول وأعتقه..

وانه ذلك الرجال القصير,
الأسمر, الأفطس الأنف, بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..


ومن ثم وجد له في الاسلام, وفي
قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان, فلا الاسلام ولا رسوله من
يعبأ لحظه بجاه النسب, ولا بوجاهة المظهر.

ففي رحاب هذا الدين العظيم,
يتألق بلال, ويتألق صهيب, ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد...


يتألقون جميعا كأبرا,
وقادة..

لقد صحح الاسلام, قيم الحياة
حين قال في كتابه الكريم:

( انّ أكرمكم عند الله
أتقاكم)...

وفتح الأبواب والرحاب للمواهب
الخيّرة, وللكفايات النظيفة, الأمينة, المعطية..

وزوّج رسول الله صلى الله عليه
وسلم زيدا من ابنة عمته زينب, ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت
وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو ترغب بنفسها عن
نفسه..

ولكن الحياة الزوجية أخذت
تتعثر, وتستنفد عوامل بقائها, فانفصل زيد عن زينب.

وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم
مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن امضائه, والذي انتهى بالانفصال, فضمّ
ابنة عمته اليه واختارها زوجة له, ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت
عقبة..



وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد
مطلقة ابنه زيد؟؟

فأجابهم القرآن مفرّقا بين
الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة, ومقررا الغاء عادة التبني, ومعلنا:


( ما كان محمد أبا أحد من
رجالكم, ولكن رسول الله, وخاتم النبين).

وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:"
زيد بن حارثة".
والآن..

هل ترون هذه القوات المسلمة
الخارجة الى معارك, الطرف, أو العيص, وحسمي, وغيرها..

ان أميرها جميعا, هو زيد بن
حارثة..

فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي
الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط, الا جعله أميرا هلى
هذا الجيش".
حتى جاءت غزوة مؤتة..

كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة, قد بدأوا يوجسون من الاسلام خيفة..بل
صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم, ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها, والتي
تتاخم بلاد هذا الدين الجديد, المنطلق في عنفوان واكتساح..

وهكذا راحوا يتخذون من الشام
نقطة وثوب على الجزيرة العربية, وبلاد الاسلام...

وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف
المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الاسلام, فقرر أن يبادرهم, ويقنعهم
بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام, حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من
الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..

ونزل جيش الروم في مكان يسمّى
مشارف..

في حين نزل جيش الاسلام يجوار
بلدة تسمّى مؤتة, حيث سمّيت الغزوة باسمها...

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية
هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل, والفرسان في
النهار..

ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم
لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله
تعالى, ويطالعون وجهه الكريم..

وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم
في امارة الجيش هم:
زيد بن حارثة,


جعفر بن أبي طالب,


عبدالله بن رواحة.


رضي الله عنهم وأرضاهم, ورضي
الله عن الصحابة أجمعين...

وهكذا رأينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف:

" عليكم زيد بن حارثة..


فان أصيب زيد, فجعفر بن أبي طالب,...

فان أصيب جعفر, فعبدالله بن
رواحة"...

وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي
طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم..


وعلى الرغم من شجاعته, وجسارته,
وحسبه ونسبه, فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد, وجعل زيدا
الأمير الأول للجيش...

وبمثل هذا, كان الرسول صلى الله
عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الانسانية
الفاسدة, والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل, لينشئ مكانها علاقات جديدة,
رشيدة, قوامها انسانية الانسان...!!


ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ
غيب المعركة المقبلة حين وضع امراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر, فابن رواحة..
فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!!



ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه
بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..


ولكن متى كانت معارك الايمان
معارك كثرة..؟؟
هنالك أقدموا ولم يبالوا..
وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم, مقتحما رماح العدو
ونباله وسيوفه, لا يبحث عن النصر, بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع
الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.


لم يكن زيد يرى حواليه رمال
البلقاء, ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة, ورفرفها الأخضر, تخفق أمام عينيه
كالأعلام, تنبئه أن اليوم يوم زفافه..

وكان هو يضرب, ويقاتل, لا يطوّح
رؤوس مقاتليه, انما يفتح الأبواب, ويفضّ الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير
الواسع, الذي سيدلف منه الى دار السلام, وجنات الخلد, وجوار الله..

وعانق زيد مصيره...

وكانت روحه وهي في طريقها الى
الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها, لا يلفه الحرير الناعم, بل يضخّمه دم
طهور سال في سبيل الله..

ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة
الهانئة, وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها, وليحملها
قبل أن تغيب في التراب....

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بريق الامل
من اسره مترو
من اسره مترو
بريق الامل


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 2939
نقاط : 3423
تاريخ التسجيل : 16/02/2011
الموقع : الجيزه

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 13, 2011 11:03 pm

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص W6w2005041919345643d1e4f8
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله عبد الله بن رواحه و خالد بن الوليد   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 20, 2011 7:38 pm

عبدالله بن
رواحة


يا نفس, الا تقتلي
تموتي

عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس
مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة, يبايع اثني
عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى, كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من
هؤلاء النقباء, حملة الاسلام الى المدينة, والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي
كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله, والاسلام..

وعندما كان الرسول عليه الصلاة
والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة
الثانية, كان ابن رواحة العظيم واحدا من النقباء المبايعين...

وبعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة
واستقرارهم بها, كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم
بنائه, وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون
لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الاسلام اليها, والذي لم تبارح حلقومه مرارة
الفرصة الضائعة, فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للاسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة
يتعقب هذا الدهاء ببصيرةمنيرة, أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته, وشلّت حركة
دهائه..!!

وكان ابن رواحة رضي الله عنه,
كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيرا..

وكان شاعرا, ينطلق الشعر من بين
ثناياه عذبا قويا..

ومنذ أسلم, وضع مقدرته الشعرية
في خدمة الاسلام..

وكان الرسول يحب شعره ويستزيده
منه..

جلس عليه السلام يوما مع أصحابه, وأقبل عبدالله
بن رواحة, فسأله النبي:

" كيف تقول الشعر اذا أردت أن
نقول"..؟؟

فأجاب عبدالله:" أنظر في ذاك ثم
أقول"..

ومضى على البديهة ينشد:
يا هاشم الخير ان الله
فضّلكم

على البريّة
فضلا ما له غير

اني تفرّست فيك الخير
أعرفه

فراسة خالفتهم
في الذي نظروا

ولو سألت أو استنصرت
بعضهمو

في حلّ أمرك ما
ردّوا ولا نصروا

فثّبت الله ما آتاك من حسن

تثبيت موسى ونصرا
كالذي نصروا

فسرّ الرسول ورضي وقال له:

" واياك, فثّبت الله"..
وحين كان الرسول عليه الصلاة
والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء

كان ابن رواحة بين يديه ينشد من
رجزه:

يا ربّ لولا أنت ما
اهتدينا ولا تصدّقنا ولا
صلينا

فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام ان
لاقينا

ان الذين قد بغوا علينا اذا أرادوا فتنة ألبنا

وكان المسلمون يرددون أنشودته
الجميلة..

وحزن الشاعر المكثر, حين تنزل
الآية الكريمة:

( والشعراء يتبعهم
الغاوون)..

ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين
تنزل آية أخرى:

( الا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات, وذكروا الله كثيرا, وانتصروا من بعد ما ظلموا..)

وحين يضطر الاسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه,
يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما
هذه الكلمات من شعره وقصيده:

" يا نفس الا تقتلي
تموتي"..

وصائحا في المشركين في كل معركة
وغزاة:

خلوا بني الكفار عن سبيله

خلوا, فكل الخير في
رسوله

وجاءت غزوة مؤتة..

وكان عبدالله بن رواحة ثالث
الأمراء, كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر..

ووقف ابن رواحة رضي الله عنه
والجيش يتأهب لمغادرة المدينة..
وقف ينشد ويقول:

لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف
الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء والكبدا

حتى يقال اذا مرّوا على
جدثي يا أرشد الله من غاز,
وقد رشدا

أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء
سواها.. ضربة سيف أو طعنة رمح, تنقله الى عالم الشهداء والظافرين..!!

وتحرّك الجيش الى مؤتة, وحين استشرف المسلمون
عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل, اذ رأوا صفوفا لا آخر لها, وأعداد نفوق
الحصر والحساب..!!

ونظر المسلمون الى عددهم
القليل, فوجموا.. وقال بعضهم:

" فلنبعث الى رسول الله, نخبره
بعدد عدوّنا, فامّا أن يمدّنا بالرجال, وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع"..

بيد أن ابن رواحة نهض وسط
صفوفهم كالنهار, وقال لهم:

" يا قوم..

انّا والله, ما نقاتل الا بهذا
الدين الذي أكرمنا الله به..

فانطلقوا.. فانما هي احدى
الحسنيين, النصر أو الشهادة"...
وهتف المسلمون الأقلون عددا,
الأكثرون ايمانا,..
هتفوا قائلين:

"قد والله صدق ابن
رواحة"..

ومضى الجيش الى غايته, يلاقي
بعدده القليل مائتي ألف, حشدهم الروم للقتال الضاري الرهيب...

والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل..

وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة
شهيدا مجيدا..
وتلاه الأمير الثاني جعفر بن
عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة..
وتلاه ثالث الأمراء عبداله بن
رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته, وكادت القلة المسلمة
تتوه في زحام العرمرم اللجب, الذي حشده هرقل..

وحين كان ابن رواحة يقاتل
كجندي, كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة..

أما الآن, وقد صار أميرا للجيش
ومسؤولا عن حياته, فقد بدا أمام ضراوة الروم, وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب,
لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح..

أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟
يا نفس الا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنّت فقد أعطيت ان تفعلي فعلهما هديت
يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه
الى الشهادة: زيدا وجعفر..

"ان تفعلي فعلهما هديت.
انطلق يعصف بالروم عصفا..
ولا كتاب سبق بأن يكون موعده مع
الجنة, لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة
بدء المسيرة الى الله, فصعد شهيدا..
هوى جسده, فصعدت الى الرفيق
الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة..

وتحققت أغلى أمانيه:
حتى يقال اذا مرّوا على
جدثي

يا أرشد الله
من غار, وقد رشدا

نعم يا ابن رواحة..
يا أرشد الله من غاز وقد
رشدا..!!

وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء
بالشام, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة, يحادثهم
ويحادثونه..

وفجأة والحديث ماض في تهلل
وطمأنينة, صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق
من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!!

وطوفّت نظراته الآسية وجوه
أصحابه وقال:

"أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل
بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها, حتى
قتل شهيدا"..

وصمت قليلا ثم استأنف كلماته
قائلا:

" ثم أخذها عبدالله بن رواحة
فقاتل بها, حتى قتل شهيدا"..

ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض
متهلل, مطمئن, مشتاق. ثم قال:

" لقد رفعوا الى
الجنة"..!!

أيّة رحلة مجيدة كانت..
وأي اتفاق سعيد كان..
لقد خرجوا الى الغزو معا..
وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم
الخالدة, كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" لقد رفعوا الى
الجنة"..

خالد بن الوليد
لا ينام ولا يترك
أحدا ينام

ان أمره لعجيب..!!

هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد
والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!

ألا فلنأت على قصته من
البداية..

ولكن أية بداية..؟؟
انه هو نفسه, لا يكاد يعرف
لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..

ولو استطاع لنحّى عمره وحياته,
كل ماسبق ذلك اليوم من سنين, وأيام..

فلنبدأ معه اذن من حيث يحب.. من
تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه
لله, وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن, وكلتا يديه يمي, فنفجّرت شوقا الى دينه,
والى رسوله, والى استشهاد عظيم في سبيل الحق, ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل
في أيامه الخاليات..

لقد خلا يوما الى نفسه, وأدار خواطره الرشيدة
على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا, وتمنّى على الله علام
الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين,
فقال:

" والله لقد استقام
المنسم....

وان الرجل لرسول..

فحتى متى..؟؟

أذهب والله, فأسلم"..

ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو
يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام, وعن رحلته من مكة الى
المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:

".. وددت لو أجد من أصاحب,
فلقيت عثمان بن طلحة, فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة, وخرجنا جميعا فأدلجنا
سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص, فقال مرحبا يا قوم,

قلنا: وبك..

قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه,
وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.

فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول
يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه
بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق, فأسلمت وشهدت شهادة الحق..

فقال الرسول: قد كنت أرى لك
عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..
وبايعت رسول الله وقلت: استغفر
لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..

فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان
قبله..

قلت: يا رسول الله على
ذلك..

فقال: اللهم اغفر لخالد بن
الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..

وتقدّم عمرو بن العاص, وعثمان
بن طلحة, فأسلما وبايعا رسول الله"...

أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت
فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟

ان الذي يضع هذه العبارة بصره,
وبصيرته, سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله
وبطل الاسلام..
وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة
حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..

أما الآن, فمع خالد الذي أسلم
لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها, لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ
والفرّ, يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره, ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما
جديدا, كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..

مع خالد اذن وقد أسلم, لنرى من
أمره عجبا..!!!!


أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة
مؤتة..؟؟

لقد كانوا زيد بن حارثة, وجعفر
بن أبي طالب, وعبدالله بن رواحة..

لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض
الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل, والتي أبلى المسلمون فيها
بلاء منقطع النظير..

وتذكرون العبارة الجليلة الآسية
التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:

" أخذ الراية زيد بن حارثة
فقاتل بها حتى قتل شهيدا.

ثم أخذها جعفر فقاتل بها, حتى
قتل شهيدا..

ثم أخذها عبدالله بن رواحة
فقاتل بها حتى قتل شهيدا".

كان لحديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذا بقيّة, ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..

هذه البقيّة هي:
" ثم أخذ الراية سيف من سيوف
الله, ففتح الله علي يديه".

فمن كان هذا البطل..؟

لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة
مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد,
وجعفر وعبدالله ابن رواحة, والذين استشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة
الضارية..

وبعد سقوط آخر القواد شهيدا,
سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا
بعثر الفوضى صفوفه..

ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى
توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد, قائلا له:

" خذ اللواء يا أبا
سليمان"...

ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث
العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..
أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو
لها اهل وبها جدير!!

هنالك قال مجيبا ثابت بن
أقرم:

" لا آخذ اللواء, أنت أحق به..
لك سن وقد شهدت بدرا"..

وأجابه ثابت:" خذه, فأنت أدرى
بالقتال مني, ووالله ما أخذته الا لك".
ثم نادى في المسلمين: اترضون
امرة خالد..؟

قالوا: نعم..


واعتلى العبقري جواده. ودفع
الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل
لاحب سيقطعه البطل وثبا..

في حياة الرسول وبعد مماته, حتى
تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...

ولّي خالد امارة الجيش بعد أن
كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون, وجناهم مهيض.. وجيش الروم في
كثرته الساحقة كاسح, ظافر مدمدم..

ولم يكن بوسع أية كفاية حربية
أن تغير من المصير شيئا, فتجعل المغلوب غالبا, والغالب مغلوبا..
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر
عبقريا لكي ينجزه, هو وقف الخسائر في جيش الاسلام, والخروج ببقيته سالما, أي
الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.

بيد أن انسحابا كهذا كان من
الاستحالة بمكان..

ولكن, اذا كان صحيحا أنه لا
مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد, ومن أروع عبقرية وأنفذ
بصيرة..؟؟!

هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة
بعينين كعيني الصقر, ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه, والقتال
دائر, الى مجموعات, ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه
البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة, خرج منها جيش المسلمين كله سليما
معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من
زوال...!!

وفي هذه المعركة أنعم الرسول
على خالد بهذا اللقب العظيم..

وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم, فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..

وعلى الجناح الأيمن من الجيش,
يجعل الرسول خالدا أميرا..

ويدخل خالد مكة, واحدا من قادة
الجيش المسلم, والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش
الوثنية والشرك زمنا طويلا..

وتخطر له ذكريات الطفولة, حيث
مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب, حيث ملاهيه الصاخبة..

ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة
التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام
عاجزة كاسدة..
وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة
المشهد وجلاله..

مشهد المستضعفين الذين لا تزال
جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول, يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا,
يعودون اليه على صهوات جيادهم الصاهلة, وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل
همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس, الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ
مكة رجّا, وتهليلات باهرة ظافرة, يبدو الكون معها, وكأنه كله في عيد...!!

كيف تمّت المعجزة..؟
أي تفسير لهذا الذي حدث؟

لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون
الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:

(وعد الله.. لا يخلف الله
وعده)..!!

ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال
وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:

أجل انه وعد الله ولا يخلف الله
وعده..!!

ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه
الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا, واحدا من الذين يحملون راية
الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..

ويظل خالد الى جانب رسول الله, واضعا كفاياته
المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه, ونذر له كل حياته.
وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى, ويحمل أبو
بكر مسؤولية الخلافة, وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة, مطوقة الدين الجديد بزئيرها
المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل
الساعة.. أبي سليمان, سيف الله, خالد بن الوليد..!!

وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك
المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه, ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل,
وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا, كان رجلها الفذ
وبطلها الملهم..

عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز
مؤامرتها الضخمة, صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه,
ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما..
ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا
الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة, لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في
المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان, وبين جيوش الضلال والردة, والا
قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..

ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة
الخطورة, على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..
لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام
والمتربصين به فرصتهم النادرة, سواء بين قبائل العرب, أم على الحدود, حيث يجثم
سلطان الروم والفرس, هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه, فراح يدفع
الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!

ونشبت نيران الفتننة في قبائل:
أسد, وغطفان, وعبس, وطيء, وذبيان..

ثم في قبائل: بني غامر, وهوازن,
وسليم, وبني تميم..

ولم تكد المناوشات تبدأ حتى
استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..

واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل
البحرين, وعمان, والمهرة, وواجه الاسلام أخطر محنة, واشتعلت الأرض من حول المسلمين
نارا.. ولكن, كان هناك أبو بكر..!!

عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت
قبائل بني عبس, وبني مرّة, وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..

ودار القتال, وتطاول, ثم كتب
للمسلمين نصر مؤزر عظيم..

ولم يكد الجيش المنتصر يستقر
بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..

وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة
خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني, ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم,
ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة, ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام
راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:

" الى أين يا خليفة رسول
الله..؟؟

اني أقول لك ما قاله رسول الله
يوم أحد:

لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا
بنفسك..."

وأمام اجماع مصمم من المسلمين,
رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة
دورها..

وعلى مجموعة ضخمة من تلك
المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..

ولما عقد الخليفة لكل أمير
لواءه, اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:

" سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة, خالد ابن الوليد, سيف من سيوف الله. سلّه
الله على الكفار والمنافقين"..


ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى
معركة, ومن نصر الى نصر حتى كانت المعركة الفاصلة..

فهناك باليمامة كان بنو حنيفة, ومن انحاز اليهم
من القبائل, قد جيّشوا أخطر جيوش الردة قاطبة, يقوده مسيلمة الكذاب.

وكانت بعض القوات المسلمة قد
جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة, فلم تبلغ منه منالا..

وجاء أمر الخليفة الى قائده
المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..

ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن
الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه, وجعل منه خطرا حقيقيا, وخصما
رهيبا..
والتقى الجيشان:

وحين تطالع في كتب السيرة
والتاريخ, سير تلك المعركة الهائلة, تأخذك رهبة مضنية, اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها وجبروتها معارك حروبنا
الحديثة, وان اختلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..

ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف
على اليمامة, وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه, صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن
بانتهاء..!!

وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه,
والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب, وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت
بها عاصفة عنيدة..!!

وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء,
فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة, ذكية وعميقة..

ومن فوره أدرك نقاط الضعف في
جيشه وأحصاها..
رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن
تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة, فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة
المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته, وأعاد تنسيق
مواقعه على أرض المعركة, ثم صاح بصوته المنتصر:

" امتازوا, لنرى اليوم بلاء كل
حيّ".

وامتازوا جميعا..
مضى المهاجرون تحت راياتهم,
والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".

وهكذا صار واضحا تماما, من أين
تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة, اتّقدت مضاء, وامتلأت عزما
وروعة..

وخالد بين الحين والحين, يرسل
تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا, فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها, ولا معوّق
لغاياتها..

وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه
المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون
بالعشرات, فالمئات فالألوف, كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق
مبيد..!!

لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده,
وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..

وهكذا سارت أخطر معارك الردة
وأعنف حروبها, وقتل مسيلمة..

وملأت جثث رجاله وجيشه أرض
القتال, وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..

وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال
صلاة الشكر, اذ منحهم هذا النصر, وهذا البطل..

وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته
وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام
واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..

امبرطوريتان خرعتان, تتشبثان
بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب, بل
وتسخرهم, وأكثرهم عرب, لقتال المسلمين
العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة, يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله,
ويجتثون عفنه وفساده..!

هنالك أرسل الخليفة العظيم
المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..

ويمضي البطل الى العراق, وليت
هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره, اذن لرأينا من أمرها عجبا.

لقد استهلّ عمله في العراق بكتب
أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..

" بسم الله الرحمن الرحيم


من خالد بن الوليد.. الى مرازبة
فارس..

سلام على من اتبع الهدى


أما بعد, فالحمد لله الذي فضّ
خدمكم, وسلب ملككم, ووهّن كيدكم

من صلى صلاتنا, واستقبل قبلتنا,
واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم, له ما لنا وعليه ما علينا

اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ
بالرهن واعتقدوا مني الذمّة

والا, فوالذي لا اله غيره
لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!

وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء
الزّحوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد
الفرس في العراق, فلم يضيّع وقته, وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له
الأرض طيّا عجيبا.

في الأبلّة, الى السّدير,
فالنّجف, الى الحيرة, فالأنبار, فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان
تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء
والمستعبدون.

أجل, الضعفاء والمستعبدون من
أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم, ويسومونهم سوء العذاب..

وكم كان رائعا من خالد أن بدأ
زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:

" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء,
دعوهم في شغلهم آمنين, الا أن يخرج بعضهم لقتالكم, فآنئذ قاتلوا المقاتلين".

وسار بجيشه الظافر كالسكين في
الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..

وهناك دوّت أصوات المؤذنين, وتكبيرات الفاتحين.

ترى هل سمع الروم في
الشام..؟

وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات
نعي أيامهم, وعالمهم..؟

أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا..
وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!

كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في
العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..

فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا
عديدة, واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة, أبو عبيدة بن الجراح, وعمرو بن
العاص, ويزيد بن أبي سفيان, ثم معاوية بن أبي سفيان..

وعندما نمت أخبار هذه الجيوش
الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين, وعدم الدخول معهم في حرب
خاسرة..

بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا
على القتال وقالوا:

" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن
يورد خيله الى أرضنا"..

وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه
مائتي ألف مقاتل, وأربعين ألفا.

وأرسل قادة المسلمين الى
الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:

" والله لأشفينّ وساوسهم
بخالد"..!!!

وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس
التمرّد والعدوان والشرك, تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام, ليكون أميرا على جيوش
الاسلام التي سبقته اليها..

وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع,
فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع
المسلمين بأرض الشام, وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في
وقت وجيز, وبين يدي المعركة واللقاء, وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه
وأثنى عليه:

" ان هذا يوم من أيام الله, لا
ينبغي فيه الفخر ولا البغي..

أخلصوا جهادكم وأريدوا الله
بعملكم, وتعالوا نتعاون الامارة, فيكون أحدنا اليوم أميرا, والآخر غدا, والآخر بعد
غد, حتى يتأمّر كلكم"...

هذا يوم من أيام الله..


ما أروعها من بداية..!!


لا ينبغي فيه الفخر ولا
البغي..

وهذه أكثر روعة وأوفى
ورعا!!
ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة
بالايثار, فعلى الرغم من أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه, فانه لم يشا أن
يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه, فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها
دولة بينهم..

اليوم أمير, وغدا أمير ثان..
وبعد غد أمير آخر..وهكذا..

كان جيش الروم بأعداده وبعتاده,
شيئا بالغ الرهبة..

لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن
في صالح المسلمين, وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما, من أجل
ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى
لهم بعدها وجود, وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ
نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..

ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم
في مثل تلك الظلمات الحالكات, فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!

ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم, فقد قال أبو بكر,
وهو بالرجال جدّ خبير:

" خالد لها".!!
وقال:" والله, لأشفينّ وساوسهم
بخالد".

فليأت الروم بكل هولهم, فمع
المسلمين الترياق..!!

عبأ ابن الوليد جيشه, وقسمه الى
فيالق, ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل
اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..

ومن عجب أن المعركة دارت كما
رسم خالد وتوقع, خطوة خطوة, وحركة حركة, حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف
في المعركة, لما أخطأ التقدير والحساب..!!

كل مناورة توقعها من الروم
صنعوها..

كل انسحاب تنبأ به فعلوه..

وقبل أن يخوض القتال كان يشغل
باله قليلا, احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار, خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد
بالاسلام, بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..

وكان خالد يتمثل عبقرية النصر
في شيء واحد, هو الثبات..

وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها
اثنان أو ثلاثة, يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو
بأسره...

من أجل هذا, كان صارما, تجاه
الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..

وفي تلك الموقعة بالذات موقعة
اليرموك, وبعد أن أخذ جيشه مواقعه, دعا نساء المسلمين, ولأول مرّة سلّمهن السيوف,
وأمرهن, بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:

" من يولّي هاربا
فاقتلنه"..

وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها
على أحسن وجه..!!

وقبيل بدء القتال طلب قائد
الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..

وبرز اليه خالد, حيث تواجها فوق
جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..

وقال ماهان قائد الروم يخاطب
خالدا"

" قد علمنا أنه لم يخرجكم من
بلادكم الا الجوع والجهد..

فان شئتم, أعطيت كل واحد منكم
عشرة دنانير, وكسوة, وطعاما, وترجعون الى بلادكم, وفي العام القادم أبعث اليكم
بمثلها".!!

وضغط خالد الرجل والبطل على
أسنانه, وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..

وقرر أن يرد عليه بجواب مناسب,
فقال له:

" انه لم يخرجنا من بلادنا
الجوع كما ذكرت, ولكننا قوم نشرب الدماء, وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم
الروم, فجئنا لذلك"..!!

ولوى البطل زمام جواده عائدا
الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..

" الله أكبر"

" هبّي رياح الجنة"..

كان جيشه يندفع كالقذيفة
المصبوبة.

ودار قتال ليس لضراوته
نظير..

وأقبل الروم في فيالق
كالجبال..

وبدا لهم من المسلمين ما لم
يكونوا يحتسبون..

ورسم المسلمون صورا تبهر
الألباب من فدائيتهم وثباتهم..

فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة
بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:

" اني قد عزمت على الشهادة, فهل
لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟

فيجيب أبو عبيدة:

" نعم قل له: يا رسول الله انا
قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".

ويندفع الرجل كالسهم المقذوف..
يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه, ويضرب بآلاف السيوف حتى
يرتفع شهيدا..!!

وهذا عكرمة بن أبي جهل..
أجل ابن أبي جهل..
ينادي في المسلمين حين ثقلت
وطأة الروم عليهم قائلا:

" لطالما قاتلت رسول الله صلى
الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام, افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟

ثم يصيح:" من يبايع على
الموت"..

فيبايعه على الموت كوكبة من
المسلمين, ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر, بل عن الشهادة..
ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم,

فيستشهدون..!!
وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح
أليمة, وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم, فلما قدم الماء الى أولهم, أشار الى
الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر, وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الماء, اشار
بدوره لجاره. فلما انتقل اليه أشار بدوره لجاره..

وهكذا, حتى.. جادت أرواح أكثرهم
ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!

أجل..

لقد كانت معركة اليرموك مجالا
لفدائية يعز نظيرها.

ومن بين لوحات الفداء الباهرة
التي رسمتها عزمات مقدرة, تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على
رأس مائة لا غير من جنده, ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي, وخالد
يصيح في المائة الذين معه:

" والذي نفسي بيده ما بقي مع
الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.

واني لأرجو أن يمنحكم الله
أكتافهم".

مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم
ينتصرون..!!

ولكن أي عجب؟؟

أليس ملء قلوبهم ايمان بالله
العلي الكبير..؟؟

وايمان برسوله الصادق الأمين
صلى الله عليه وسلم؟؟

وايمان بقضية هي أكثر قضايا
الحياة برا, وهدى ونبلا؟

وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه, هذا الذي ترتفع راياته
فوق الدنيا, بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد, يحلب بيده شياه
الأيامى, ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟

وأليس قائدهم خالد بن الوليد
ترياق وساوس التجبر, والصلف, والبغي, والعدوان, وسيف الله المسلول على قوى التخلّف
والتعفّن والشرك؟؟

أليس ذلك, كذلك..؟
اذن, هبي رياح النصر...

هبّي قويّة عزيزة, ظافرة,
قاهرة...

لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء
جيشهم, مما حمل أحدهم, واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات
الراحة بين القتال.

وحين يلتقيان, يوجه
القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:

" يا خالد, أصدقني
ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..

هل أنزل على نبيّكم
سيفا من السماء فأعطاك ايّاه, فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟

قال خالد: لا..

قال الرجل:

فبم سميّت سيف
الله"؟
قال خالد: ان الله
بعث فينا نبيه, فمنا من صدّقه ومنا من كذّب. وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا
الى الاسلام, وهدانا برسوله فبايعناه..

فدعا لي الرسول,
وقال لي: أنت سيف من سيوف الله, فهكذا سميّت.. سيف الله".

قال القائد الرومي:
والام تدعون..؟

قال خالد:

الى توحيد الله,
والى الاسلام.

قال:
هل لمن يدخل في
الاسلام اليوم مثل ما لكم من المثوبة والأجر؟

قال خالد: نعم
وأفضل..

قال الرجل: كيف وقد
سبقتموه..؟

قال خالد:
لقد عشنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم, ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا, وسمع ما
سمعنا أن يسلم في يسر..

أما أنتم يا من لم
تروه ولم تسمعوه, ثم آمنتم بالغيب, فان أجركم أجزل وأكبر ان صدقتم الله سرائركم
ونواياكم.

وصاح القائد الرومي,
وقد دفع جواده الى ناحية خالد, ووقف
بجواره:

علمني الاسلام يا
خالد"".!!!

وأسلم وصلى ركعتين
لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما, فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في
صفوف المسلمين مستميتا في طلب الشهادة حتى نالها وظفر بها..!!

وبعد, فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في
مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية,
ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا, بقدر ما هو مضن ورهيب, واذا به يفاجأ
بالبريد القادم من المدينة من الخليفة الجديد, أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه
تحيّة الفاروق للجيش المسلم, نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر
الصديق رضي الله عنه, وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..

قرأ خالد الكتاب,
وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر
والتوفيق لعمر..

ثم طلب من حامل
الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره, وألا يتصل بأحد.
استأنف قيادته
للمعركة مخفيا موت أبي بكر, وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا
وقريبا..

ودقّت ساعة الظفر,
واندحر الروم..

وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة
الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق
نصرا لم يكن في الحسبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا, فقبّل خالد بين
عينيه, وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..
وثمّت رواية تاريخية أخرى, تقول: ان الكتاب
أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة, وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت
المعركة..

وسواء كان الأمر هذا
أو ذاك, فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ
الروعة والعظمة والجلال..

ولا أعرف في حياة
خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق, مثل هذا الموقف...

فسواء عليه أن يكون أميرا, أو جنديا..
ان الامارة
كالجندية, كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به, ونحو الرسول الذي بايعه,
ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..

وجهده المبذول وهو
أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!

ولقد هيأ له هذا
الانتصار العظيم على النفس, كما هيأه لغيره, طراز الخلفاء الذين كانوا على راس
الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..

أبو بكر وعمر..

اسمان لا يكاد
يتحرّك بهما لسان, حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان, وعظمة
الانسان..

وعلى الرغم من الودّ
الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد, فان نزاهة عمر وعدله,وورعه وعظمته الخارقة,
لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..

ومن ثم لم تكن
قراراته موضع شك, لأن الضمير الذي يمليها, قد بلغ
من الورع, ومن الاستقامة, ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه
ورشيد..

لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من
سوء, ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع, والحدّة..

ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على
أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة, فقال:

" ان في سيف خالد رهقا"

أي خفة وحدّة وتسرّع..

فأجابه الصدّيق قائلا:

" ما كنت لأشيم سيف سلّه الله
على الكافرين".

لم يقل عمر ان في خالد رهقا..
بل جعل الرهق لسيفه لا لشخصه, وهي كلمات لا تنمّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب, بل وعن
تقديره لخالد أيضا..

وخالد رجل حرب من المهد الى
اللحد..

فبيئته, ونشأته, وتربيته وحياه
كلها, قبل الاسلام وبعده كانت كلها وعاء لفارس, مخاطر, داهية..

ثم ان الحاح ماضيه قبل السلام, والحروب التي
خاضها ضد الرسول وأصحابه, والضربات التي أسقط بها سيفه أيام الشرك رؤوسا مؤمنة,
وجباها عابدة, كل هذا كان له على ضميره ثقل مبهظ, جعل سيفه توّاقا الى أن يطوّح من
دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الاسلام..

وانكم لتذكرون العبارة التي
أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم اذ قال له:

" يا رسول الله..

استغفر لي كل ما أوضعت فيه عن
صدّ عن سبيل الله".
وعلى الرغم من انباء الرسول صلى
الله عليه وسلم اياه, بأن الاسلام يجبّ ما كان قبله, فانه يظل يتوسل على الظفر بعهد
من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صنعت من قبل يداه..

والسيف حين يكون في يد فارس
خارق كخالد بن الوليد, ثم يحرّك اليد القابضة عليه ضمير متوهج بحرارة التطهر
والتعويض, ومفعم بولاء مطلق لدين تحيط به المؤمرات والعداوات, فان من الصعب على هذا
السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة, وحدّته الخاطفة..

وهكذا رأينا سيف خالد يسبب لصاحبه
المتاعب.

فحين أرسله النبي عليه الصلاة
والسلام بعد الفتح الى بعض قبائل العرب القريبة من مكة, وقال له:

" اني أبعثك داعيا لا
مقاتلا".

غلبه سيفه على أمره ودفعه الى
دور المقاتل.. متخليا عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول مما جعله عليه السلام
ينتفض جزعا وألما حين بلغه صنيع خالد..
وقام مستقبلا القبلة, رافعا يديه, ومعتذرا الى الله بقوله:

" اللهم اني أبرأ اليك مما صنع
خالد".

ثم أرسل عليّا فودى لهم دماءهم
وأموالهم.

وقيل ان خالدا اعتذر عن نفسه
بأن عبدالله بن حذافة السهمي قال له:

ان رسول الله قد أمرك بقتالهم
لامتناعهم عن الاسلام..

كان خالد يحمل طاقة غير عادية.. وكان يستبد به توق عارم الى هدم
عالمه القديم كله..

ولو أننا نبصره وهو يهدم صنم العزّى الذي أرسله النبي
لهدمه.

لو أننا نبصره وهو يدمدم بمعوله
على هذه البناية الحجرية, لأبصرنا رجلا يبدو كأنه يقاتل جيشا بأسره, يطوّح رؤوس
أفرداه ويتبر بالمنايا صفوفه.

فهو يضرب بيمينه, وبشماله,
وبقدمه, ويصيح في الشظايا المتناثرة, والتراب المتساقط:

" يا عزّى كفرانك, لا
سبحانك

اني رأيت الله قد
أهانك"..!!

ثم يحرقها ويشعل النيران في
ترابها..!

كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في
نظر خالد كالعزّى لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه..

ولا يعرف خالد أداة لتصفيتها
الا سيفه..

والا.." كفرانك لا
سبحانك..

اني رأيت الله قد
أهانك"..!!

على أننا اذ نتمنى مع أمير المؤمنين عمر, لوخلا
سيف خالد من هذا الرهق, فاننا سنظل نردد مع أمير المؤمنين قوله:

" عجزت النساء أن يلدن مثل
خالد"..!!

لقد بكاه عمر يوم مات بكاء
كثيرا, وعلم الانس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقده وحسب, بل ويبكي فرصة أضاعها الموت
عن عمر اذ كان يعتزم رد الامارة الى خالد بعد أن زال افتتان الناس به. ومحصت أسباب
عزله, لولا أن تداركه الموت وسارع خالد الى لقاء ربه.

نعم سارع البطل العظيم الى
مثواه في الجنة..

أما آن له أن يستريح..؟؟ هو
الذي لم تشهد الأرض عدوّا للراحة مثله..؟؟

أما آن لجسده المجهد أن ينام
قليلا..؟؟ هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه:

" الرجل الذي لا ينام ولا يترك
أحدا ينام"..؟؟

أما هو, فلو خيّر لاختار أن
يمدّ الله له في عمره مزيدا من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفنة القديمة,
ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والاسلام..

ان روح هذا الرجل وريحانه
ليوجدان دائما وابدا, حيث تصهل الخيل, وتلتمع الأسنّة, وتخفق رايات التوحيد فوق
الجيوش المسلمة..

وأنه ليقول:
" ما ليلة يهدى اليّ فيها عروس,
أو أبشّر فيها بوليد, بأحبّ اليّ من ليلة شديدة الجليد, في سريّة من المهاجرين,
أصبح بهم المشركين"..

من أجل ذلك, كانت مأساة حياته
أن يموت في فراشه, وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده, وتحت بريق سيفه...

هو الذي غزا مع الرسول صلى الله عليه وسلم,
وقهر أصحاب الردّة, وسوّى بالتراب عرش فارس والروم, وقطع الأرض وثبا, في العراق
خطوة خطوة, حتى فتحها للاسلام, وفي بلاد الشام خطوة خطوة حتى فتحها كلها
للاسلام...
أميرا يحمل شظف الجندي
وتواضعه.. وجنديا يحمل مسؤولية الأمير وقدوته..

كانت مأساة حياة البطل أن يموت
البطل على فراشه..!!
هنالك قال ودموعه تنهال من
عينيه:

" لقد شهدت كذا, وكذا زحفا, وما
في جسدي موضع الا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح, أو رمية سهم..

ثم هأنذا أموت على فراشي حتف
أنفي كما يموت البعير, فلا نامت أعين الجبناء"..!

كلمات لا يجيد النطق بها في مثل
هذا الموطن, الا مثل هذا الرجل, وحين كان يستقبل لحظات الرحيل, شرع يملي
وصيّته..

أتدرون الى من أوصى..؟
الى عمر بن الخطاب
ذاته..!!

أتدرون ما تركته..؟
فرسه وسلاحه..!!

ثم ماذا؟؟
لا شيء قط , مما يقتني الناس
ويمتلكون..!!
ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو
حيّ, سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحق.

وما كان في متاع الدنيا جميعه
ما يستحوذ على حرصه..

شيء واحد, كان يحرص عليه في شغف
واستماتة.. تلك هي قلنسوته"..

سقطت منه يوم اليرموك. فأضنى
نفسه والناس في البحث عنها.. فلما عوتب في ذلك قال:

" ان فيها بعضا من شعر ناصية
رسول الله واني أتافاءل بها, وأستنصر".


وأخيرا, خرج جثمان البطل من داره محمولا على
أعناق أصحابه ورمقته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن
فقالت تودّعه:

أنت خير من ألف ألف من
القو م اذا ما كبت وجوه
الرجال

أشجاع..؟ فأنت أشجع من لي ث غضنفر يذود عن أشبال


أجواد..؟ فأنت أجود من سي ل غامر يسيل بين الجبال

وسمعها عمر فازداد قلبه خفقا.. ودمعه دفقا..
وقال:

" صدقت..

والله انه كان لكذلك".


وثوى البطل في مرقده..

ووقف أصحابه في خشوع, والدنيا
من حولهم هاجعة, خاشعة, صامتة..

لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل
فرس جاءت تركض بعد أن خلعت رسنها, وقطعت شوارع المدينة وثبا وراء جثمان صاحبها,
يقودها عبيره وأريجه..


واذ بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوت برأسها
كالراية, وصهيلها يصدح.. تماما مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها, يهدّ عروش فارس
والروم, ويشفي وساوس الوثنية والبغي, ويزيح من طريق الاسلام كل قوى التقهقر
والشرك...

وراحت وعيناها على القبر لا
تزيغان تعلو برأسها وتهبط, ملوّحة لسيدها وبطلها مؤدية له تحية الوداع..!!


ثم وقفت ساكنة ورأسها مرتفع..
وجبهتها عالية.. ولكن من مآقيها تسيل دموع غزار وكبار..!!

لقد وقفها خالد مع سلاحه في
سبيل الله..

ولكن هل سيقدر فارس على أن
يمتطي صهوتها بعد خالد..؟؟

وهل ستذلل ظهرها لأحد
سواه..؟؟

ايه يا بطل كل نصر..

ويا فجر كل ليلة..

لقد كنت تعلو بروح جيشك على
أهوال الزحف بقولك لجندك:

" عند الصباح يحمد القوم
السرى"..

حتى ذهبت عنك مثلا..

وهأنتذا, قد أتممت مسراك..
فلصباحك الحمد أبا
سليمان..!!

ولذكراك المجد, والعطر, والخلد,
يا خالد..!!

ودعنا.. نردد مع أمير المؤمنين
عمر كلماته العذاب الرطاب التي ودّعك بها ورثاك:

" رحم الله أبا سليمان

ما عند الله خير مما كان
فيه

ولقد عاش حميدا

ومات سعيدا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله أبو الدرداء و عمير بن وهب   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 20, 2011 7:41 pm

أبوالدرداء


أيّ حكيم كان





بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض..
هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في
كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:

" ألا أخبركم بخير أعمالكم,
وأزكاها عند باريكم, وأنماها في درجاتكم, وخير من أن تغزو عدوّكم, فتضربوا رقابهم
ويضربوا رقابكم, وخير من الدراهم والدنانير".؟؟

وتشرئب أعناق الذين ينصتون له..
ويسارعون بسؤاله:

" أي شيء هو.. يا أبا
الدرداء"..؟؟

ويستأنف أبو الدرداء حديثه
فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:

" ذكر الله...


ولذكر الله أكبر"..




**





لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية
ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية, ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك
التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...

أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك
الرجل, وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم, حتى
جاء نصر الله والفتح..

بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي
يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ, كلما خلا الى التأمل, وأوى الى محراب الحكمة,
ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟

ولقد كان حكيم تلك الأيام
العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء
بها..



واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا, فقد آمن
كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم, هو طريقه الأمثل والأوحد الى
الحقيقة..

وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى
نفسه, وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم, ورشد, وعظمة..


ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى
الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما
حين يناجي ربه مرتلا آياته..

( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي
لله رب العلمين).

أجل.. لقد انتهى جهاد أبي
الدرداء ضدّ نفسه, ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى
ذلك التفاني الرهباني, الذي جعل حياته, كل حياته لله رب العالمين..!!




**





والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا
تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟

ألا تشمّون العبير الفوّاح
القادم من ناحيته..؟؟

انه ضياء الحكمة, وعبير
الايمان..

ولقد التقى الايمان والحكمة في
هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا, أيّ سعيد..!!

سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من
عمل.. فأجابت:

" التفكر والاعتبار".


أجل لقد وعى قول الله في أكثر
من آية:

(فاعتبروا يا أولي
الأبصار)...

وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل
والتفكّر يقول لهم:

" تفكّر ساعة خير من عبادة
ليلة"..

لقد استولت العبادة والتأمل
ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..



ويوم اقتنع بالاسلام دينا, وبايع الرسول صلى
الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم, كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين, وكان قد قضى شطر حياته في التجارة
قبل أن يسلم, بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..


بيد أنه لم يمض على اسلامه غير
وقت وجيز حتى..

ولكن لندعه هو يكمل لنا
الحديث:

" أسلمت مع النبي صلى الله عليه
وسلم وأنا تاجر..

وأردت أن تجتمع لي العبادة
والتجارة فلم يجتمعا..

فرفضت التجارة وأقبلت على
العبادة.

وما يسرّني اليوم أن أبيع
وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار, حتى
لو يكون حانوتي على باب المسجد..

ألا اني لا أقول لكم: ان الله
حرّم البيع..

ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا
تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!



أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها, وتشرق
الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟

انه يسارع قبل أن نسأله: وهل
حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟

يسارع فينفض عن خواطرنا هذا
التساؤول, ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده, ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه
فيها..

لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا
وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..



لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير
الأسمى, ويشارف به الحق في جلاله, والحقيقة في مشرقها, ولو أرادها مجرّد تكاليف
تؤدّى, ومحظورات تترك, لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...


فكم من تجار صالحين.. وكم من
صالحين تجار...



ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم
وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام, ويكفوا بها حاجات المسلمين..


ولكن منهج هؤلاء الأصحاب, لا
يغمز منهج أبو الدرداء, كما أن منهجه لا يغمز منهجهم, فكل ميسّر لما خلق له..




وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما
نذر له حياته..

التخصص في نشدان الحقيقة
بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه, ورسوله والاسلام..


سمّوه ان شئتم تصوّفا..


ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة
المؤمن, وقدرة الفيلسوف, وتجربة المحارب, وفقه الصحابي, ما جعل تصوّفه حركة حيّة في
بناء الروح, لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!



أجل..

ذلك هو أبو الدرداء, صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..

وذلكم هو أبو الدرداء, الحكيم,
القدّيس..

ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه,
وزادها بصدره..

رجل عكف على نفسه وصقلها
وزكّاها, وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة, والصواب, والخير, ما جعل من
أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..

سعداء, أولئك الذين يقبلون
عليه, ويصغون اليه..

ألا تعالوا نقترب من حكمته يا
أولي الألباب..

ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا
وتجاه مباهجها وزخارفها..

انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات
القرآن الرادعة عن:

( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب
أن ماله اخلده)...

ومتأثر حتى أعماق روحه بقول
الرسول:

" ما قلّ وكفى, خير مما كثر
وألهى"..

ويقول عليه السلام:


" تفرّغوا من هموم الدنيا ما
استطعتم, فانه من كانت الدنيا أكبر همّه, فرّق الله شمله, وجعل فقره بين عينيه..
ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله, وجعل غناه في قلبه, وكان الله اليه بكل خير
أسرع".

من أجل ذلك, كان يرثي لأولئك
الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:

" اللهم اني أعوذ بك من شتات
القلب"..

سئل:

وما شتات القلب يا أبا
الدرداء..؟؟

فأجاب:

أن يكون لي في كل واد
مال"..!!

وهو يدعو الناس الى امتلاك
الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها
التي لا تؤذن بالانتهاء, فذلك شر ألوان العبودية والرّق.

هنالك يقول:


" من لم يكن غنيا عن الدنيا,
فلا دنيا له"..

والمال عنده وسيلة للعيش القنوع
المعتدل ليس غير.

ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه
من حلال, وأن يكسبوه في رفق واعتدال, لا في جشع وتهالك.

فهو يقول:


" لا تأكل الا طيّبا..


ولا تكسب الا طيّبا..


ولا تدخل بيتك الا طيّبا".


ويكتب لصاحب له فيقول:


".. أما بعد, فلست في شيء من
عرض الدنيا, والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما
قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا, فأنت انما تجمع
لواحد من اثنين:

اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة
الله, فيسعد بما شقيت به..

واما ولد عاص, يعمل فيه بمعصية
الله, فتشقى بما جمعت له,

فثق لهم بما عند الله من رزق,
وانج بنفسك"..!



كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد
عارية..

عندما فتحت قبرص وحملت غنائم
الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه, وتولى
توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":

قال له:

" يا أبا الدرداء, ما يبكيك في
يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟

فأجاب أبو الدرداء في حكمة
بالغة وفهم عميق:

ويحك يا جبير..


ما أهون الخلق على الله اذا هم
تركوا أمره..

بينما هي أمة, ظاهرة, قاهرة,
لها الملك, تركت أمر الله, فصارت الى ما ترى"..!

أجل..



وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه
جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة, افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها, ودين
صحيح يصلها بالله..

ومن هنا أيضا, كان يخشى على
المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان, وتضعف روابطهم بالله, وبالحق, وبالصلاح,
فتنتقل العارية من أيديهم, بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!




**





وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه,
كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..

دخل عليه أصحابه يعودونه وهو
مريض, فوجدوه نائما على فراش من جلد..

فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش
أطيب وأنعم.."

فأجابهم وهو يشير بسبّابته,
وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:

" ان دارنا هناك..


لها نجمع.. واليها نرجع..


نظعن اليها. ونعمل
لها"..!!

وهذه النظرة الى الدنيا ليست
عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..

خطب يزيد بن معاوية ابنته
الدرداء فردّه, ولم يقبل خطبته, ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم, فزوّجها
أبو الدرداء منه.

وعجب الناس لهذا التصرّف,
فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:

" ما ظنّكم بالدرداء, اذا قام
على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..

أين دينها منها يومئذ"..؟!


هذا حكيم قويم النفس, ذكي
الفؤاد..

وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها
كل ما يشدّ النفس اليها, ويولّه القلب بها..

وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل
اليها..

فالسعادة الحقة عنده هي أن
تمتلك الدنيا, لا أن تمتلكك أنت الدنيا..

وكلما وقفت مطالب الناس في
الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى
دار القرار والمآل والخلود, كلما صنعوا هذا, كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى
وأعظم..

وانه ليقول:


" ليس الخير أن يكثر مالك
وولدك, ولكن الخير أن يعظم حلمك, ويكثر علمك, وأن تباري الناس في عبادة الله
تعالى"..

وفي خلافة عثمان رضي الله عنه,
وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي
القضاء..

وهناك في الشام وقف بالمرصاد
لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا, وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته, وزهده,
وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..

وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج
بالمباهج والنعيم..

وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا
الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..

فجمعهم أبو الدرداء, وقام فيهم
خطيبا:

" يا أهل الشام..


أنتم الاخوان في الدين,
والجيران في الدار, والأنصار على الأعداء..

ولكن مالي أراكم لا
تستحيون..؟؟

تجمعون ما لا تأكلون..


وتبنون ما لا تسكنون..


وترجون ما لا تبلّغون..


وقد كانت القرون من قبلكم
يجمعون, فيوعون..

ويؤمّلون, فيطيلون..


ويبنون, فيوثقون..


فأصبح جمعهم بورا..


وأماهم غرورا..


وبيوتهم قبورا..


أولئك قوم عاد, ملؤا ما بين عدن
الى عمان أموالا وأولادا..".

ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة
ساخرة, ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل, وصاح في سخرية لا فحة:


" من يشتري مني تركة آل عاد
بدرهمين"..؟!



رجل باهر, رائع, مضيء, حكمته مؤمنة, ومشاعره
ورعة, ومنطقه سديد ورشيد..!!

العبادة عند أبي الدرداء ليست
غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير, وتعرّض لرحمة الله, وضراعة دائمة تذكّر
الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:

انه يقول:


التمسوا الخير دهركم كله..


وتعرّضوا لنفحات رحمة الله, فان
للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..

" وسلوا الله أن يستر عوراتكم,
ويؤمّن روعاتكم"...

كان ذلك الحكيم مفتوح العينين
دائما على غرور العبادة, يحذّر منه الناس.

هذا الغرور الذي يصيب بعض
الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم, فيتألّون بها على الآخرين
ويدلّون..

فلنستمع له ما يقول:


" مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى
ويقين, أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترّين"..

ويقول أيضا:


"لا تكلفوا الناس ما لم
يكلفوا..

ولا تحاسبوهم دون ربهم


عليكم أنفسكم, فان من تتبع ما
يرى في الانس يطل حزنه"..!

انه لا يريد للعابد مهما يعل في
العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.

عليه أن يحمد الله على توفيقه,
وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا
التوفيق.

هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من
حكمة هذا الحكيم..؟؟

يحدثنا صاحبه أبو قلابة
فيقول:

" مرّ أبو الدرداء يوما على رجل
قد أصاب ذنبا, والناس يسبّونه, فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم
تكونوا مخرجيه منها..؟

قالوا بلى..


قال: فلا تسبّوه اذن, وحمدوا
الله الذي عافاكم.

قالوا: أنبغضه..؟


قال: انما أبغضوا عمله, فاذا
تركه فهو أخي"..!!



**





واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء,
فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..

ان أبا الدرداء يقدّس العلم
تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم, ويقدّسه كعابد فيقول:

" لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون
عالما..

ولن يكون بالعلم جميلا, حتى
يكون به عاملا".

أجل..

فالعلم عنده فهم, وسلوك..
معرفة, ومنهج.. فكرة حياة..

ولأن تقديسه هذا تقديس رجل
حكيم, نراه ينادي بأن المعلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل, والمكانة,
والمثوبة..

ويرى أن عظمة الحياة منوطة
بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..

ها هو ذا يقول:


" مالي أرى علمائكم يذهبون,
وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في
سائر الناس بعدهما"..

ويقول أيضا:


" الناس ثلاثة..


عالم..

ومتعلم..


والثالث همج لا خير فيه".




وكما رأينا من قبل, لا ينفصل العلم في حكمة أبي
الدرداء رضي الله عنه عن العمل.

يقول:

" ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن
يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر, هل علمت؟؟

فأقول نعم..


فيقال لي: فماذا عملت فيما
علمت"..؟

وكان يجلّ العلماء العاملين
ويوقرهم توقيرا كبيرا, بل كان يدعو ربّه ويقول:

" اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني
قلوب العلماء.."

قيل له:

وكيف تلعنك قلوبهم؟


قال رضي الله عنه:


" تكرهني"..!


أرأيتم؟؟


انه يرى في كراهيّة العالم لعنة
لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..



وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا, وتبنى
علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:


" معاتبة الأخ خير لك من فقده,
ومن لك بأخيك كله..؟

أعط أخاك ولن له..


ولا تطع فيه حاسدا, فتكون
مثله.

غدا يأتيك الموت, فيكفيك
فقده..

وكيف تبكيه بعد الموت, وفي
الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟

ومراقبة الله في عباده قاعدة
صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..

يقول رضي الله عنه وأرضاه:


" اني أبغض أن أظلم أحدا..
ولكني أبغض أكثر وأكثر, أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ
الكبير"..!!

يا لعظمة نفسك, واشراق روحك يا
أبا الدرداء..!!

انه يحذّر الناس من خداع الوهم,
حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم, ومن بأسهم..!


ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم
يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم, ويطرحون بين يديه قضيتهم,
وهو أنهم على الناس..!!

هذا هو أبو الدرداء
الحكيم..!

هذا هو أبو الدرداء الزاهد,
العابد, الأوّاب..

هذا هو أبو الدرداء الذي كان
اذا أطرى الناس تقاه, وسألوه الدعاء, أجابهم في تواضع وثيق قائلا:


" لا أحسن السباحة.. وأخاف
الغرق"..!!



**





كل هذا, ولا تحسن السباحة يا أبا
الدرداء..؟؟

ولكن أي عجب, وأنت تربية الرسول
عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر,
وبقيّة الرجال..!؟



[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]



عمير بن وهب


شيطان الجاهلية,
وحواريّ الاسلام




في يوم بدر, كان واحدا من قادة قريش الذين
حملوا سيوفهم ليجهزوا على الاسلام.

وكان حديد البصر, محكم التقدير, ومن ثم ندبه قومه
ليستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول للقائهم, ولينظر ان كان لهم من
وزرائهم كمين أو مدد..

وانطلق عمير بن وهب الجمحيّ وصال بفرسه حول معسكر
المسلمين, ثم رجع يقول لقومه:" انهم ثلاثمائة رجل, يزيدون قليلا أو ينقصون" وكان
حدسه صحيحا.

وسألوه: هل وراءهم امتداد لهم؟؟
فأجابهم قائلا:

" لم أجد وراءهم شيئا.. ولكن يا
معشر قريش, رأيت المطايا تحمل الموت الناقع.. قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ الا
سيوفهم..

" والله ما أرى أن يقتل رجل
منهم حتى يقتل رجل منكم, فاذا أصابوا منكم مثل عددهم, فما خير العيش بعد
ذلك..؟؟

" فانظروا رأيكم"..


وتأثر بقوله ورأيه نفر من زعماء
قريش, وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون الى مكة بغير قتال, لولا أبي جهل الذي أفسد
عليهم رأيهم, وأضرم في النفوس نار الحقد, ونار الحرب والتي كان هو أول
قتلاها..



**





كان أهل مكة يلقبونه بـ شيطان قريش..


ولقد أبلى شيطان قريش يوم بدر
بلاء لم يغن قومه شيئا, فعادت قوات قريش الى مكة مهزومة مدحورة, وخلّف عمير بن وهب
في المدينة بضعة منه.. اذ وقع ابنه في أيدي المسلمين أسيرا..


وذات يوم ضمّه مجلس ابن عمّه
صفوان بن أميّة.. وكان صفوان يمضغ أحقاده في مرارة قاتلة, فان أباه أميّة بن خلف قد
لقي مصرعه في بدر وسكنت عظامه القليب.

جلس صفوان وعمير يجترّان
أحقادهما..

ولندع عروة بن الزبير ينقل
الينا حديثهما الطويل:

" قال صفوان, وهو يذكر قتلى
بدر: والله ما في العيش بعدهم من خير..!

وقال له عمير: صدقت, ووالله
لولا دين محمد عليّ لا أملك قضاءه, وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت الى محمد
حتى أقتله, فان لي عنده علة أعتلّ بها عليه: أٌقول قدمت من أجل ابني هذا
الأسير.

فاغتنمها صفوان وقال: عليّ
دينك.. أنا أقضيه عنك.. وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا..

فقال له عمير:اذن فاكتم شأني
وشأنك..."



ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسمّ, ثم انطلق حتى
قدم المدينة.

وبينما عمر بن الخطاب في نفر من
المسلمين يتحدثون عن يوم بدر, ويذكرون ما أكرمهم الله به, اذ نظر عمر فرأى عمير بن
وهب, قد أناخ راحلته على باب المسجد, متوشحا سيفه, فقال:

هذا الكلب عدو الله عمير بن
وهب, والله ما جاء الا لشرّ..

فهو الذي حرّش بيننا وحزرنا
للقوم يوم بدر..

ثم دخل عمر على رسول الله صلى
الله عليه وسلم, فال:

يا نبي الله هذا عدو الله عمير
بن وهب قد جاء متوشحا سيفه..

قال صلى الله عليه وسلم:


أدخله عليّ.." فأقبل عمر حتى
أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبه بها, وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار, ادخلوا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث, فانه
غير مأمون."

ودخل به عمر على النبي صلى الله
عليه وسلم, وهو آخذ بحمّالة سيفه في عنقه فلما رآه الرسول قال: دعه يا عمر..


ادن يا عمير..


فدنا عمير وقال: انعموا صباحا,
وهي تحيّة الجاهلية,

فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير, بالسلام.. تحية أهل الجنة.


فقال عمير: أما والله يا محمد
ان كنت بها لحديث عهد.

قال لرسول: فما جاء بك يا
عمير..؟؟

قال: جئت لهذا الأسير الذي في
أيديكم.

قال النبي: فما بال السيف في
عنقك..؟؟

قال عمير: قبّحها الله من سيوف,
وهل أغنت عنا شيئا..؟!

قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
أصدقني يا عمير, ما الذي جئت له..؟

قال: ما جئت الا لذلك.


قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش, ثم قلت, لولا
دين عليّ, وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا, فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن
تقتلني له, والله حائل بينك وبين ذلك..!!!

وعندئذ صاح عمير: أشهد أن لا
اله الا الله, وأشهد أنك رسول الله.. هذا أمر لم يحضره الا أنا وصفوان, فوالله ما
أنبأك به الا الله, فالحمد لله الذي هداني للاسلام..

فقال الرسول لأصحابه: فقّهوا
أخاكم في الدين وأقرئه القرآن, وأطلقوا أسيره....!!



**





هكذا أسلم عمير بن وهب..


هكذا أسلم شيطان قريش, وغشيه من
نور الرسول والاسلام ما غشيه فاذا هو في لحظة يتقلب الى حواريّ الاسلام..!!


يقول عمر بن الخطاب رضي الله
عنه:

" والذي نفسي بيده, لخنزير كان
أحبّ اليّ من عمير حين طلع علينا..

ولهو اليوم أحبّ اليّ من بعض
ولدي"..!!



**





جلس عمير يفكّر بعمق في سماحة هذا الدين, وفي
عظمة هذا الرسول:

ثم تذكر بلاءه يوم بدر
وقتاله.

وتذكر أيامه الخوالي في مكة وهو
يكيد للاسلام ويحاربه قبل هجرة الرسول وصحبه الى المدينة.

ثم هاهو ذا يجيء اليوم متوشحا
سيفه ليقتل به الرسول.

كل ذلك يمحوه في لحظة من الزمان
قوله:" لا اله الا الله, محمد رسول الله"..!!

أيّة سماحة, وأي صفاء, وأية ثقة
بالنفس يحملها هذا الدين العظيم..!!

أهكذا في لحظة يمحو الاسلام كل
خطاياه السالفة, وينسى المسلمون كل جرائره وعداواته السابقة, ويفتحون له قلوبهم,
ويأخذونه بالأحضان..؟!

أهكذا والسيف الذي جاء معقودا
على شرّ طوية وشرّ جريمة, لا يزال يلمع أمام أبصارهم, ينسي ذلك كله, ولا يذكر الآن
الا أن عميرا باسلامه, قد أصبح احدا من المسلمين ومن أصحاب الرسول, له ما لهم..
وعليه ما عليهم..؟!!!
أهكذا وهو الذي ودّ عمر بن الخطاب منذ لحظتين أن يقتله,
يصبح أحب الى عمر من ولده وبنيه..؟؟؟!!!

اذا كانت لحظة واحدة من الصدق,
تلك التي أعلن فيها عمر اسلامه, تحظى من الاسلام بكل هذا التقدير والتكريم والمثوبة
والاجلال, فان الاسلام اذن لهو دين عظيم..!!



**





وفي لحظات عرف عمير واجبه تجاه هذا الدين.. أن
يخدمه بقدر ما حاربه, وان يدعو اليه, بقدر ما دعا ضدّه.. وأن يري الله ورسوله ما
يحب الله ورسوله من صدق, وجهاد وطاعة.. وهكذا أقبل على رسول الله ذات يوم,
قائلا:

" يا رسول الله: اني كنت جاهدا
على اطفاء نور الله, شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل, واني أحب أن تأذن لي
فأقدم مكة, فأدعوهم الى الله تعالى, والى رسوله, والى الاسلام, لعلّ الله يهيدهم,
والا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم"..



في تلك الأيام, ومنذ فارق عمير مكة متوجها الى
المدينة كان صفوان بن أمية الذي اغرى عميرا بالخروج لقتل الرسول, يمشي في شوارع مكة
مختالا, ويغشي مجالسها وندواتها فرحا محبورا..!

وكلما سأله قومه واخوته عن سر
فرحته ونشوته, وعظام أبيه لا تزال ساخنة في حظائر بدر, يفرك كفّيه في غرور يقول
للناس:" أبشروا بوقعة يأتيكم نبأها بعد أيام تنسيكم وقعة بدر"..!


وكان يخرج الى مشارف مكة كل
صباح يسأل القوافل والركبان:" ألم يحدث بالمدينةأمر".

وكانوا يجيبونه بما لا يحب
ويرضى, فما منهم من أحد سمع أو رأى في المدينة حدثا ذا بال.

ولم ييأس صفوان.. بل ظلّ مثابرا
على مساءلة الركبان, حتى لقي بعضهم يوما فسأله:" ألم يحدث بالمدينةأمر"..؟؟


فأجابه المسافر: بلى حدث أمر
عظيم..!!

وتهللت أسارير صفوان وفاضت نفسه
بكل ما في الدنيا من بهجة وفرح..

وعاد يسأل الرجل في عجلة
المشتاق:" ماذا حدث اقصص عليّ".. وأجابه الرجل: لقد أسلم عمير بن وهب, وهو هناك
يتفقه في الدين, ويتعلم القرآن"..!!

ودرات الأرض بصفوان.. والوقعة
التي كان يبشر بها قومه, والتي كان ينتظرها لتنسيه وقعة بدر جاءته اليوم في هذا
النبأ الصاعق لتجعله حطاما..!!



**





وذات يوم بلغ المسافر داره.. وعاد عمير الى مكة
شاهرا سيفه, متحفزا للقتال, ولقيه أول ما لقيه صفوان بن أمية..


وما كاد يراه حتى هم بمهاجمته,
ولكن السيف المتحفز في يد عمير ردّه الى صوابه, فاكتفى بأن ألقى على سمع عمير بعض
شتائمه ثم مضى لسبيله..

دخل عمير بن وهب مكة مسلما, وهو
الذي فارقها من أيام مشركا, دخلها وفي روعة صورة عمر بن الخطاب يوم أسلم, ثم صاح
فور اسلامه قائلا:

" والله لا أدع مكانا جلست فيه
بالكفر, الا جلست فيه بالايمان".



ولكأنما اتخذ عمير من هذه الكلمات شعارا, ومن
ذلك الموقف قدوة, فقد صمم على نذر حياته للدين الذي طالما حاربه.. ولقد كان في موقف
يسمح له بأن ينزل الأذى بمن يريد له الأذى..

وهكذا راح يعوّض ما فاته..
ويسابق الزمن الى غايته, فيبشر بالاسلام ليلا ونهارا.. علانية واجهارا..


في قلبه ايمانه يفيض عليه أمنا,
وهدى ونورا..

وعلى لسانه كلمات حق, يدعو بها
الى العدل والاحسان والمعروف والخير..

وفي يمينه سيف يرهب به قطاع
الطرق الذين يصدّون عن سبيل الله من آمن به, ويبغونها عوجا.

وفي بضعة أسابيع كان الذين هدوا
الى الاسلام على يد عمير يفوق عددهم كل تقدير يمكن أن يخطر ببال.


وخرج عمير بهم الى المدينة في
موكب طويل مشرق.

وكانت الصحراء التي يجتازونها
في سفرهم لا تكتم دهشتها وعجبها من هذا الرجل الذي مرّ من قريب حاملا سيفه, حاثّا
خطاه الى المدينة ليقتل الرسول, ثم عبرها مرّة أخرى راجعا من المدينة بغير الوجه
الذي ذهب به يرتل القرآن من فوق ظهر ناقته المحبورة.. ثم ها هو ذا يجتازها مرة
ثالثة على رأس موكب كبير من المؤمنين يملؤون رحابها تهليلا وتكبيرا..




**




أجل انه لنبأ عظيم.. نبأ شيطان قريش الذي
أحالته هداية الله الى حواريّ باسل من حوارييّ الاسلام, والذي ظلّ واقفا الى جوار
رسول الله في الغزوات والمشاهد, وظلّ ولاؤه لدين الله راسخا بعد رحيل الرسول عن
الدنيا.

وفي يوم فتح مكة لم ينس عمير
صاحبه وقريبه صفوان بن أمية فراح اليه يناشده الاسلام ويدعوه اليه بعد أن لم يبق شك
في صدق الرسول, وصدق الرسالة..

بيد أن صفوان كان قد شدّ رحاله
صوب جدّة ليبحر منها الى اليمن..

واشتدّ اشفاق عمير على صفوان,
وصمم على أن يستردّه من يد الشيطان بكل وسيلة.

وذهب مسرعا الى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال له:

" يا نبيّ الله ان صفوان بن
أميّة سيّد قومه, وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمّنه صلى الله
عليك,

فقال النبي: هو آمن.


قال رسول الله فأعطني آية يعرف
بها أمانك, فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة"..




ولندع عروة بن الزبير يكمل لنا الحديث:


" فخرج بها عمير حتى أدركه وهو
يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان, فداك أبي وأمي.. الله الله في نفسك أن تهلكها..
هذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به..

قال له صفوان: ويحك, اغرب عني
فلا تكلمني. قال: أي صفوان..فداك أبي وأمي, ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل
الناس, وأبرّ الناس , وأحلم الناس, وخير الانس.. عزّه عزّك, وشرفه شرفك..


قال: اني أخاف على نفسي..


قال: هوأحلم من ذاك
وأكرم..

فرجع معه حتى وقف به على رسول
الله صلى الله عليه وسلم..

فقال صفوان للنبي صلى الله عليه
وسلم: ان هذا يزعم أنك أمّنتني..

قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
صدق..

قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار
شهرين..

قال صلى الله عليه وسلم: أنت
بالخيار أربعة أشهر".

وفيما بعد أسلم صفوان..


وسعد عمير باسلامه أيّما
سعادة..

وواصل ابن وهب مسيرته المباركة
الى الله, متبعا أثر الرسول العظيم الذي هدى الله به الناس من الضلالة وأخرجهم من
الظلمات الى النور.















الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله زيد بن الخطاب و قيس بن سعدبن عباده   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالأحد مارس 20, 2011 7:43 pm


زيد بن الخطاب
صقر يوم
اليمامة
جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوما, وحوله
جماعة من المسلمين وبينما الحديث يجري, أطرق الرسول لحظات, ثم وجّه الحديث لمن حوله
قائلا:

" ان فيكم لرجلا ضرسه في النار
أعظم من جبل أحد"..

وظل الخوف بل الرعب من الفتنة
في الدين, يراود ويلحّ على جميع الذين شهدوا هذا المجلس مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم... كل منهم يحاذر ويخشى أن يكون هو الذي يتربّص به سوء المنقلب وسوء
الختام..
ولكن جميع الذين وجّه اليهم
الحديث يومئذ ختم لهم بخير, وقضوا نحبهم شهداء في سبيل الله. وما بقي منهم حيّا سوى
أبي هريرة والرّجّال ابن عنفوة.

ولقد ظلّ أبو هريرة ترتعد فرائصه خوفا من أن
تصيبه تلك النبوءة. ولم يرقأ له جفن, وما هدأ له بال حتى دفع القدر الستار عن صاحب
الحظ التعس. فارتدّ الرّجّال عن الاسلام ولحق بمسيلمة الكذاب, وشهد له
بالنبوّة.

هنالك استبان الذي تنبأ له
الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء المنقلب وسوء المصير..

والرّجّال بن عنفوة هذا, ذهب
ذات يوم الى الرسول مبايعا ومسلما, ولما تلقّى منه الاسلام عاد الى قومه.. ولم يرجع
الى المدينة الا اثر وفاة الرسول واختيار الصدّيق خليفة على المسملين.. ونقل الى
أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة, واقترح على الدّيق أن يكون مبعوثه
اليهم يثبّتهم على الاسلام, فأذن له الخليفة..

وتوجّه الرّجّال الى أهل
اليمامة.. ولما رأى كثرتهم الهائلة ظنّ أنهم الغالبون, فحدّثته نفسه الغتدرة أن
يحتجز له من اليوم مكانا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة وآتية, فترك الاسلام,
وانضمّ لصفوف مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود.
وكان خطر الرّجّال على الاسلام أشدّ من خطر
مسيلمة ذاته.

ذلك, لأنه استغلّ اسلامه
السابق, والفترة التي عاشها بالمدينة أيام الرسول, وحفظه لآيات كثيرة من القرآن,
وسفارته لأبي بكر خليفة المسلمين.. استغلّ ذلك كله استغلالا خبيثا في دعم سلطان
مسيلمة وتوكيد نبوّته الكاذبة.
لقد سار بين الناس يقول لهم:
انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" انه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر"..
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات, فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي
بعده, هو مسيلمة..!!
ولقد زادت أعين الملتفين حول
مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا. وبسبب استغلاله الماكر لعلاقاته
السابقة بالاسلام وبالرسول.
وكانت أنباء الرّجّال تبلغ
المدينة, فيتحرّق المسلمون غيظا من هذا المرتدّ الخطر الذي يضلّ الناس ضلالا بعيدا,
والذي يوسّع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها.
وكان أكثر المسلمين تغيّظا,
وتحرّقا للقاء الرّجّال صحابي جليل تتألق ذكراه في كتب السيرة والتاريخ تحت هذا
الاسم الحبيب زيد بن الخطّاب..!!

زيد بن الخطّاب..؟
لا بد أنكم عرفتموه..

انه أخو عمر بن الخطّاب..

أجل أخوه الأكبر,
والأسبق..

جاء الحياة قبل عمر, فكان أكبر
منه سنا..

وسبقه الى الاسلام.. كما سبقه
الى الشهادة في سبيل الله..

وكان زيد بطلا باهر البطولة..
وكان العمل الصامت. الممعن في الصمت جوهر بطولته.

وكان ايمانه بالله وبرسوله
وبدينه ايمانا وثيقا, ولم يتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشهد ولا في
غزاة.

وفي كل مشهد لم يكن يبحث عن
النصر, بقدر ما يبحث عن الشهادة..!

يوم أحد, حين حمي القتال بين
المسلمين والمشركين والمؤمنين. راح زيد بن الخطاب يضرب ويضرب..


وأبصره أخوه عمر بن الخطّاب,
وقد سقط درعه عنه, وأصبح أدنى منالا للأعداء, فصاح به عمر.

" خذ درعي يا زيد فقاتل
بها"..

فأجابه زيد:
" اني أريد من الشهادة ما تريد
يا عمر"..!!!

وظل يقاتل بغير درع في فدائية
باهرة, واستبسال عظيم.

قلنا انه رضي الله عنه, كان يتحرّق شوقا للقاء
الرّجّال متمنيّا أن يكون الاجهاز على حياته الخبيثة من حظه وحده.. فالرّجّال في
رأي زيد, لم يكن مرتدّا فحسب.. بل كان كذّابا منافقا, وصوليا.
لم يرتدّ عن اقتناع.. بل عن
وصولية حقيرة, ونفاق يغيض هزيل.

وزيد في بغضه النفاق والكذب,
كأخيه عمر تماما..!

كلاهما لا يثير اشمئزازه, ولا
يستجش بغضاءه, مثل النفاق الذي تزجيه النفعيّة الهابطة, والأغراض الدنيئة.

ومن أجل تلك الأغراض المنحطّة,
لعب الرّجّال دوره الآثم, فأربى عدد الملتفين حول مسيلمة ارباء فاحشا, وهو بهذا
يقدّم بيديه الى الموت والهلاك أعدادا كثيرة ستلاقي حتفها في معارك الردّة..

أضلّها أولا, وأهلكها أخيرا..
وفي سبيل ماذا..؟ في سبيل أطماع لئيمة زيّنتها له نفسه, وزخرفها له هواه, ولقد أعدّ
زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة, لا في شخص مسيلمة بل في شخص من هو
أكبر من خطرا, وأشدّ جرما الرّجّال بن عنفوة.

وبدأ يوم اليمامة مكفهرّا شاحبا.

وجمع خالد بن الوليد جيش
الاسلام, ووزعه على مواقعه ودفع لواء الجيش الى من..؟؟

الى زيد بن الخطّاب.

وقاتل بنو حنيفة أتباع مسيلمة
قتالا مستميتا ضاريا..

ومالت المعركة في بدايتها على
المسلمين, وسقط منهم شهداء كثيرون.

ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض
أفئدة المسلمين, فعلا ربوة هناك, وصاح في اخوانه:

" أيها الناس.. عضوا على
أضراسكم, واضربوا في عدوّكم, وامضوا قدما.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله, أو
ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي"..!!

ونزل من فوق الربوة, عاضّا على
أضراسه, زامّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس.

وتركّز مصير المعركة لديه في
مصير الرّجّال, فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم, باحثا عن الرّجّال حتى
أبصره..

وهناك راح يأتيه من يمين, ومن شمال, وكلما
ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه, غاص زيد وراءه حتى يدفع الموج الى السطح من
جديد, فيقترب منه زيد ويبسط اليه سيفه, ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال
مرّة أخرى, فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت..

وأخيرا يمسك بخناقه, ويطوح
بسيفه رأسه المملوء غرورا, وكذبا, وخسّة..

وبسقوط الأكذوبة, أخذ عالمها
كله يتساقط, فدبّ الرعب في نفس مسيلمة في روع المحكم بن الطفيل ثم في جيش مسيلمة
الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف..

لقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر
المحتوم, وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة, والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر
دينهم وبناء دولتهم..!!

وها هو ذا الرّجّال قد سقط
صريعا.. اذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة..

وغدا يسقط المحكم, وبعد غد
مسيلمة..!!

هكذا احدثت ضربة زيد بن الخطاب
كل هذا المدار في صفوف مسيلمة..

أما المسلمون, فما كاد الخبر
يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال, ونهض جريحهم من جديد, حاملا سيفه, وغير
عابئ بجراحه..

حتى الذين كانوا على شفا الموت,
لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب, مسّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل,
فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها الى الحياة ليقاتلو, وليشهدوا النصر في روعة
ختامه..

ولكن أنّى لهم هذا, وقد تفتحت
أبواب الجنّة لاستقبالهم وانهم الآن ليسمعون أسماءهم وهم ينادون للمثول..؟؟!!

رفع زيد بن الخطاب ذراعيه الى السماء مبتهلا
لربّه, شاكرا نعمته..
ثم عاد الى سيفه والى صمته,
فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة..

ولقد أخذت المعركة تمضي لالح
المسلمين.. وراح نصرهم المحتوم يقترب ويسرع..

هنالك وقد رأى زيد رياح النصر مقبلة, لم يعرف
لحياته ختاما أروع من هذا الختام, فتمنّى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة
هذا..

وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه
شوقا, ومآقيه دموعا,وعزمه اصرارا..
وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره
العظيم..
وسقط البطل شهيدا..
بل قولوا: صعد شهيدا..
صعد عظيما, ممجّدا,
سعيدا..
وعاد جيش الاسلام الى المدينة
ظافرا..

وبينما كان عمر, يستقبل مع
الخليفة أبي بكرو أولئك العائدين الظافرين, راح يرمق بعينين مشتاقين أخاه
العائد..

وكان زيد طويل بائن الطول, ومن
ثمّ كان تعرّف العين عليه أمرا ميسورا..

ولكن قبل أن يجهد بصره, اقترب
اليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد..

وقال عمر:
" رحم الله زيدا..
سبقني الى الحسنيين..

أسلم قبلي..
واستشهد قبلي".

وعلى كثرة الانتصارات التي راح الاسلام يظفر
بها وينعم, فان زيدا لم يغب عن خاطر أخيه الفاروق لحظة..

ودائما كان يقول:


" ما هبّت الصبا, الا وجدت منها
ريح زيد".

أجل..

ان الصبا لتحمل ريح زيد, وعبير
شمائله المتفوقة..

ولكن, اذا اذن أمير المؤمنين,
أضفت لعبارته الجليلة هذه, كلمات تكتمل معها جوانب الاطار.

تلك هي:

" .. وما هبّت رياح النصر على
الاسلام منذ يوم اليمامة الا وجد الاسلام فيها ريح زيد.. وبلاء زيد.. وبطولة زيد..
وعظمة زيد..!!"

بورك آل الخطّاب تحت راية رسول الله صلى الله
عليه وسلم..

بوركوا يوم أسلموا.. وبوركوا
أيام جاهدوا, واستشهدوا.. وبوركوا يوم يبعثون..!!



قيس بن سعد بن
عبادة

أدهى العرب, لولا
الاسلام
كان
الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم..

وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن
نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا"..

ذلك أنه كان أجرد, ولم يكن
ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها
وجوههم.

فمن هذا الفتى الذي ودّى قومه
لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه, وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية,
وزعامته المتفوقة..؟؟

انه قيس بن سعد بن عبادة.

من أجود بيوت لعرب وأعرقها..
البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:

" ان الجود شيمة أهل هذا
البيت"..

وانه الداهية الذي يتفجر حيلة,
ومهارة, وذكاء, والذي قال عن نفسه وهو صادق:

" لولا الاسلام, لمكرت مكرا لا
تطيقه العرب"..!!

ذلك أنه حادّ الذكاء, واسع
الحيلة, متوقّد الذهن.

ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية..
وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض
يوم, بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السيء الخطر,
ثم يذكر قول الله سبحانه:

( ولا يحيق المكر السوء الا
بأهله)..
فيهبّ من فوره مستنكرا,
ومستغفرا, ولسان حاله يقول:

" والله لئن قدّر لمعاوية أن
يغلبنا, فلن يغلبنا بذكائه, بل بورعنا وتقوانا"..!!
ان هذا الأنصاري الخزرجي من بيت
زعامة عظيم, ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة, زعيم الخزرج الذي
سيكون لنا معه فيما بعد لقاء..

وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس
وقدّمه الى الرسول قائلا:

" هذا خادمك يا رسول
الله"..
ورأى الرسول في قيس كل سمات
التفوّق وأمائر الصلاح..

فأدناه منه وقرّبه اليه وظل قيس
صاحب هذه المكانة دائما..

يقول أنس صاحب رسول الله:
" كان قيس بن سعد من النبي,
بمكان صاحب الشرطة من الأمير"..

وحين كان قيس, قبل الاسلام
يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن, ولم يكن في المدينة وما حولها
الا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم, علّمه الاسلام أن يعامل الناس باخلاصه,
لا بدهائه, ولقد كان ابنا بارّا للاسلام, ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا, ولم يعد ينسج
به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا, يأخذه الحنين الى دهائه المقيد,
فيقول عبارته المأثورة:

" لولا الاسلام, لمكرت مكرا لا
تطيقه العرب"...!!

ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده..
ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس, فهو من بيت عريق في الجود والسخاء, كان لأسرة
قيس, على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ, مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان
الى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ
يقولون:" من أحبّ الشحم, واللحم, فليأت أطم دليم بن حارثة"...

ودليم بن حارثة, هو الجد الثاني
لقيس..

ففي هذا البيت العريق أرضع قيس
الجود والسماح..

تحّث يوما أبا بكر وعمر حول جود
قيس وسخائه وقالا:

" لو تركنا هذا الفتى لسخائه,
لأهلك مال أبيه"..

وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن
ابنه قيس, فصاح قائلا:

" من يعذرني من أبي قحافة, وابن
الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!!

وأقرض أحد اخوانه المعسرين يوما
قرضا كبيرا..

وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب
الرجل يردّ الى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال:

" انا لا نعود في شيء
أعطيناه"..!!


وللفطرة الانسانية نهج لا يتخلف, وسنّة لا
تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة..

أجل ان الجود الحقيقي والشجاعة
الحقيقية توأمان, لا يتخلف أحدهما عن الاخر أبدا.. واذا وجدت جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس
جودا.. وانما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الأدّعاء... واذا وجدت شجاعة لا
يصاحبها جود, فاعلم أنها ليست شجاعة, انما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش...

ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه
فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والاقدام..

لكأنه المعنيّ بقول الشاعر:

اذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

تألقت شجاعته في جميع المشاهد
التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ..

وواصلت تألقها, في المشاهد التي
خاضها بعد أن ذهب الرسول الى الرفيق الأعلى..

والشجاعة التي تعتمد على الصدق
بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والمواجهة, لا بالمناورة والمراوغة, تحمّل صاحبها من
المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه..

ومنذ ألقى قيس وراء ظهره, قدرته
الخارقة على الدهاء والمناورة, وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة, وهو
قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات...

ان الشجاعة الحقة تنقذف من
اقتناع صاحبها وحده..

هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه
شهوة أو نزوة, انما يكوّنه الصدق مع النفس, والاخلاص للحق...

وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية, نرى
قيسا يخلو بنفسه, ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه, حتى اذا ما رآه مع عليّ ينهض الى
جواره شامخا, قويا مستبسلا..

وفي معارك صفّين, والجمل,
ونهروان, كان قيس أحد أبطالها المستبسلين..

كان يحمل لواء الأنصار وهو
يصيح:

هذا اللواء الذي كنا نخفّ
به

مع النبي وجبريل
لنا مدد

ما ضرّ من كانت الأنصار
عيبته

ألا يكون له من
غيرهم أحد

ولقد ولاه الامام عليّ حكم
مصر..

وكانت عين معاوية على مصر
دائما... كان ينظر اليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر...

من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى امارتها حتى
جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر الى الأبد, حتى لو انتصر هو على الامام
عليّ انتصارا حاسما..

وهكذا راح بكل وسائله الماكرة,
وحيله التي لا تحجم عن أمر, يدسّ عند علي ضدّ قيس, حتى استدعاه الامام من
مصر..

وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستعمل ذكاءه
استعمالا مشروعا, فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة بعد أن فشل في استمالته الى جانبه, لكي يوغر
صدره ضدّ الامام علي, ولكي يضائل من ولائه له.. واذن فخير رد على دهاء معاوية هو
المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ, والذي هو في نفس الوقت مناط
الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة..

وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا
عزله عن مصر.. فما الولاية, وما الامارة, وما المناصب كلها عند قيس الا أدوات يخدم
بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت امارته على مصر وسيلة لخدمة الحق, فان موقفه بجوار
عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة..


وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها, بعد
استشهاد عليّ وبيعة الحسن..

لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي
الله عنه, هو الوارث الشرعي للامامة فبايعه ووقف الى جانبه غير ملق الى الأخطار
وبالا..

وحين يضطرّهم معاوية لامتشاق
السيوف, ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الامام
علي..

ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح
المسلمين التي طال شحوبها, ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم
يبايعه..



هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد, فيرى
أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب, فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار
المصير, وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا:

" ان شئتم جالدت بكم حتى يموت
الأعجل منا, وان شئتم أخذت لكم أمانا:..

واختار جنوده الأمر الثاني,
فأخذ لهم الامام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى
خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة...

وفي المدينة المنوّرة, عام تسع
وخمسين, مات الداهية الذي روّض الاسلام دهاءه..

مات الرجل الذي كان يقول:


لولا أني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ب\يقول:

" المكر والخديعة في النار,
لكنت من أمكر هذه الأمة"..

أجل.. ومات تاركا وراءه عبير
رجل أمين على كل ما للاسلام عنده من ذمّة, وعهد وميثاق...



[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
بريق الامل
من اسره مترو
من اسره مترو
بريق الامل


الجنس : انثى
عدد المساهمات : 2939
نقاط : 3423
تاريخ التسجيل : 16/02/2011
الموقع : الجيزه

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالإثنين مارس 21, 2011 6:36 pm

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص 30283_25179474411f1de335
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله الزبير بن العوام و خبيب بن عدى   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 25, 2011 5:51 pm


الزبير بن
العوّام

حواريّ رسول
الله


لا
يجيء ذكر طلحة الا ويذكر الزبير معه..

ولا يجيء ذكر الزبير الا ويذكر
طلحة معه..

فحين كان الرسول عليه الصلاة
والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة, آخى بين طلحة والزبير.


وطالما كان عليه السلام يتحدث
عنهما معا.. مثل قوله:

" طلحة والزبير جاراي في
الجنة".

وكلاهما يجتمع مع الرسول في
القرابة والنسب.

أما طلحة, فيجتمع في نسبه مع
الرسول في مرة بن كعب.

وأما الزبير, فيلتقي في نسبه مع
الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..


وكل منهما طلحة والزبير كان
أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..

فالتماثل بينهما كبير, في
النشأة, في الثراء, في السخاء, في قوة الدين, في روعة الشجاعة, وكلاهما من المسلمين
المبكرين باسلامهم...

ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول
بالجتة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل اليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.


وحتى مصيرهما كان كامل
التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.



ولقد أسلم الزبير, اسلاما مبكرا, اذ كان واحدا
من السبعة الأوائل الذين سارعوا الى الاسلام, وأسهموا في طليعته المباركة في دار
الأرقم..

وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة..
وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..

ولقد كان فارسا ومقداما منذ
صباه. حتى ان المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الاسلام كان سيف الزبير.


ففي الأيام الأولى للاسلام,
والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت اشاعة ذات يوم أن الرسول قتل..
فما كان من الزبير الا أن استلّ سيفه وامتشقه, وسار في شوارع مكة, على حداثة سنه
كالاعصار..!

ذهب أولا يتبيّن الخبر, معتزما
ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفربهم أو يظفروا به..


وفي أعلى مكة لقيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم, فسأله ماذا به....؟ فأنهى اليه الزبير النبأ.. فصلى عليه
الرسول, ودعا له بالخير, ولسيفه بالغلب.

وعلى الرغم من شرف الزبير في
قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.

وكان الذي تولى تعذيبه عمه..
كان يلفه في حصير, ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه, ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد, أدرأ عنك
العذاب".

فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم
ذاك أكثر من فتى ناشئ, غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهب:

" لا..

والله لا أعود لكفر
أبدا"...

ويهاجر الزبير الى الحبشة,
الهجرتين الأولى والثانية, ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده
غزوة ولا معركة.


وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها
بعد اندمال جراحاتها, أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!

ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك
الأوسمة التي تزدحم على جسده, يحدثنا عنها فيقول:

" صحبت الزبير بن العوّام في
بعض أسفاره ورأيت جسده, فرأيته مجذّعا بالسيوف, وان في صدره لأمثال العيون الغائرة
من الطعن والرمي.

فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك
ما لم أره بأحد قط.

فقال لي: أم والله ما منها
جراحة الا مع رسول الله وفي سبيل الله"..

وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش
قريش راجعا الى مكةو ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن
المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع الى المدينة واستئناف القتال..


وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين, وعلى
الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق
والزبير, جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين, وجعلتها تحسب أن هذه
الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق
ابراز قوتها, وما هي الا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة
رهيبة فأغذّت قريش سيرها, وأسرعت خطاها الى مكة..!!



ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى
أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة, صاح هو"
الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده, ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط
الصفوف الرهيبة ذاتها, وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو, ولا يحبو..!!


وكان رضي الله عنه شديد الولع
بالشهادة, عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.

وكان يقول:


" ان طلحة بن عبيد الله يسمي
بنيه بأسماء الأنبياء, وقد علم ألا نبي بعد محمد...

واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء
لعلهم يستشهدون".!

وهكذا سمى ولده, عبدالله بن
الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.

وسمى ولده المنذر, تيمنا
بالشهيد المنذر بن عمرو.

وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة
بن عمرو.

وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل
عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.

وسمّى جعفر, تيمنا بالشهيد
الكبير جعفر بن أبي طالب.

وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب
بن عمير.

وسمى خالد تيمنا بالصحابي
الشهيد خالد بن سعيد..

وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء
الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.

ولقد قيل في تاريخه:


" انه ما ولي امارة قط, ولا
جباية, ولا خراجا ولا شيئا الا الغزو في سبيل الله".

وكانت ميزته كمقاتل, تتمثل في
اعتماده التام على نفسه, وفي ثقته التامة بها.

فلو كان يشاركه في القتال مائة
ألف, لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله
وحده.

وكان فضيلته كمقاتل, تتمثل في
الثبات, وقوة الأعصاب..

رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد
كثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة, فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه, وضاغطا
على قبضة سيفه, لا يفكر الا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين
عن مجرّد التفكير فيه..!!

وحين طال حصار بني قريظة دون أن
يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب, فوقف أمام الحصن
المنيع يردد مع علي قوله:

" والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة,
أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..

ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل
الحصن..

وبقوة أعصاب مذهلة, أحكما انزال
الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!

ويوم حنين أبصر مالك بن عوف
زعيم هوازن وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط
فيلق من أصحابه, وبقايا جيشه المنهزم, فاقتحم حشدهم وحده, وشتت شملهم وحده, وأزاحهم
عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين, العائدين من
المعركة..!!


ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره
عظيما..

وكان الرسول عليه الصلاة
والسلام يباهي به ويقول:

" ان لكل نبي حواريا
وحواريي الزبير ن العوّام"..


ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب,
ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين, بل كان ذلك الوفي القوي, والشجاع الأبيّ,
والجوّاد السخيّ, والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:

ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه
حين قال:

أقام على عهد النبي وهديه


حواريّه والقول
بالفعل يعدل

أقام على منهاجه وطريقه

يوالي وليّ الحق,
والحق أعدل

هو الفارس المشهور والبطل
الذي

يصول, اذا ما كان
يوم محجّل

له من رسول الله قربى
قريبة

ومن نصرة الاسلام
مجد موثّل

فكم كربة ذبّ الزبير بسيفه


عن المصطفى, والله
يعطي ويجزل


وكان رفيع الخصال, عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته
وسخاؤه كفرسي رهان..!!

فلقد كان يدير تجارة رابحة
ناجحة, وكان ثراؤه عريضا, ولكنه أنفقه في الاسلام حتى مات مدينا..!!


وكان توكله على الله منطلق
جوده, ومنطلق شجاعته وفدائيته..

حتى وهو يجود بروحه, ويوصي ولده
عبدالله بقضاء ديونه قال له:

" اذا أعجزك دين, فاستعن
بمولاي"..

وسال عبدالله: أي مولى
تعني..؟

فأجابه: الله, نعم المولى ونعم
النصير"..

يقول عبدالله فيما بعد:


" فوالله ما وقعت في كربة من
دينه الا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه, فيقضيه".

وفي يوم الجمل, على النحو الذي
ذكرنا في حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..


فبعد أن رأى الحق نفض يديه من
القتال, وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال, وطعنه القاتل
الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..

وذهب القاتل الى الامام علي يظن
أنه يحمل اليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير, وحين يضع بين يديه سيفه الذي
استلبه منه, بعد اقتراف جريمته..

لكن عليّا صاح حين علم أن
بالباب قاتل الزبير يستأذن, صاح آمرا بطرده قائلا:

" بشّر قاتل ابن صفيّة
بالنار"..

وحين أدخلوا عليه سيف الزبير,
قبّله الامام وأمعن بالبكاء وهو يقول:

" سيف طالما والله جلا به صاحبه
الكرب عن رسول الله"..!!

أهناك تحيّة نوجهها للزبير في
ختام حديثنا عنه, أجمل وأجزل من كلمات الامام..؟؟

سلام على الزبير في مماته بعد
محياه..

سلام, ثم سلام, على حواري رسول
الله...





خبيب بن عديّ


بطل.. فوق
الصليب..!!




والآن..

افسحوا الطريق لهذا البطل يا
رجال..

وتعالوا من كل صوب ومن كل
مكان..

تعالوا, خفاقا وثقالا..


تعاولوا مسرعين, وخاشعين..


وأقبلوا, لتلقنوا في الفداء
درسا ليس له نظير..!!

تقولون: أوكل هذا الذي قصصت
علينا من قبل لم تكن دروسا في الفداء ليس لها نظير..؟؟



أجل كانت دروسا..

وكانت في روعتها تجلّ عن المثيل
وعن النظير..

ولكنكم الآن أمام أستاذ جديد في
فن التضحية..

أستاذ لوفاتكم مشهده, فقد فاتكم
خير كثير, جدّ كثير..

الينا يا أصحاب العقائد في كل
أمة وبلد..

الينا يا عشاق السموّ من كل عصر
وأمد..

وأنتم أيضا يا من أثقلكم
الغرور, وظننتم بالأديان والايمان ظنّ السّوء..

تعالوا بغروركم..!


تعالوا وانظروا أية عزة, وأية
منعة, وأي ثبات, وأيّ مضاء.. وأي فداء, وأي ولاء..

وبكلمة واحدة, أية عظمة خارقة
وباهرة يفيئها الايمان بالحق على ذويه المخلصين..!!

أترون هذا الجثمان المصلوب..؟؟

انه موضوع درسنا اليوم, يا كلّ
بني الانسان...!

هذا الجثمان المصلوب أمامكم هو
الموضوع, وهو الدرس, وهو الاستاذ..

اسمه خبيب بن عديّ.


احفظوا هذا الاسم الجليل
جيّدا.

واحفظوه وانشدوه, فانه شرف لكل
انسان.. من كل دين, ومن كل مذهب, ومن كل جنس, وفي كل زمان..!!

انه من أوس المدينة وأنصارها.


تردد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم مذ هاجر اليهم, وآمن بالله رب العالمين.

كان عذب الروح, شفاف النفس,
وثيق الايمان, ريّان الضمير.

كان كما وصفه حسّان بن
ثابت:

صقرا توسّط في الأنصار
منصبه

سمح
الشجيّة محضا غير مؤتشب

ولما رفعت غزوة بدر أعلامها,
كان هناك جنديا باسلا, ومقاتلا مقداما.

وكان من بين المشركين الذين
وقعوا في طريقه ابّان المعركة فصرعهم بسيفه الحارث بن عمرو بن نوفل.


وبعد انتهاء المعركة, وعودة
البقايا المهزومة من قريش الى مكة عرف بنو الحارث مصرع أبيهم, وحفظوا جيدا اسم
المسلم الذي صرعه في المعركة: خبيب بن عديّ..!!


وعاد المسلمون من بدر الى المدينة, يثابرون على
بناء مجتمعهم الجديد..

وكان خبيب عابدا, وناسكا, يحمل
بين جبينه طبيعة الناسكين, وشوق العابدين..

هناك أقبل على العبادة بروح
عاشق.. يقوم الليل, ويصوم النهار, ويقدّس لله رب العالمين..


وذات يوم أراد الرسول صلوات الله وسلامه عليه
أن يبلو سرائر قريش, ويتبيّن ما ترامى اليه من تحرّكاتها, واستعدادها لغزو جديد..
فاختار من أصحابه عشرة رجال.. من بينهم خبيب وجعل أميرهم عاصم بن ثابت.


وانطلق الركب الى غايته حتى اذا
بلغوا مكانا بين عسفان ومكة, نمي خبرهم الى حيّ من هذيل يقال لهم بنو حيّان فسارعوا
اليهم بمائة رجل من أمهر رماتهم, وراحوا يتعقبونهم, ويقتفون آثارهم..


وكادوا يزيغون عنهم, لولا أن
أبصر أحدهم بعض نوى التمر ساقطا على الرمال.. فتناول بعض هذا النوى وتأمله بما كان
للعرب من فراسة عجيبة, ثم صاح في الذين معه:

" انه نوى يثرب, فلنتبعه حتى
يدلنا عليهم"..

وساروا مع النوى المبثوث على
الأرض, حتى أبصروا على البعد ضالتهم التي ينشدون..

وأحس عاصم أمير العشرة أنهم
يطاردون, فدعا أصحابه الى صعود قمة عالية على رأس جبل..

واقترب الرماة المائة, وأحاطوا
بهم عند سفح الجبل وأحكموا حولهم الحصار..

ودعوهم لتسليم أنفسهم بعد أن
أعطوهم موثقا ألا ينالهم منهم سوء.

والتفت العشرة الى أميرهم عاصم
بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.

وانتظروا بما يأمر..


فاذا هو يقول:" أما أنا, فوالله
لا أنزل في ذمّة مشرك..

اللهم أخبر عنا نبيك"..


وشرع الرماة المائة يرمونهم بالنبال.. فأصيب
أميرهم عاصم واستشهد, وأصيب معه سبعة واستشهدوا..

ونادوا الباقين, أنّ لهم العهد
والميثاق اذا هم نزلوا.

فنزل الثلاثة: خباب بن عديّ
وصاحباه..

واقترب الرماة من خبيب وصاحبه
زيد بن الدّثنّة فأطلقوا قسيّهم, وربطوهما بها..

ورأى زميلهم الثالث بداية
الغدر, فقرر أن يموت حيث مات عاصم واخوانه..

واستشهد حيث أراد..


وهكذا قضى ثمانية من أعظم
المؤمنين ايمانا, وأبرّهم عهدا, وأوفاهم لله ولرسوله ذمّة..!!


وحاول خبيب وزيد أن يخلصا من
وثاقهما, ولكنه كان شديد الاحكام.

وقادهما الرماة البغاة الى مكة,
حيث باعوهما لمشركيها..

ودوّى في الآذان اسم
خبيب..

وتذكّر بنوالحارث بن عامر قتيل
بدر, تذكّروا ذلك الاسم جيّدا, وحرّك في صدورهم الأحقاد.

وسارعوا الى شرائه. ونافسهم على
ذلك بغية الانتقام منه أكثر أهل مكة ممن فقدوا في معركة بدر آباءهم وزعماءهم.


وأخيرا تواصوا عليه جميعا وأخذوا
يعدّون لمصير يشفي أحقادهم, ليس منه وحده, بل ومن جميع المسلمين..!!


وضع قوم أخرون أيديهم على صاحب
خبيب زيد بن الدّثنّة وراحوا يصلونه هو الآخر عذابا..


أسلم خبيب قلبه, وأمره,ومصيره لله رب
العالمين.

وأقبل على نسكه ثابت النفس,
رابط الجأش, معه من سكينة الله التي افاءها عليه ما يذيب الصخر, ويلاشي الهول.


كان الله معه.. وكان هو مع
الله..

كانت يد الله عليه, يكاد يجد
برد أناملها في صدره..!

دخلت عليه يوما احدى بنات
الحارث الذي كان أسيرا في داره, فغادرت مكانه مسرعة الى الناس تناديهم لكي يبصروا
عجبا..

" والله لقد رأيته يحمل قطفا
كبيرا من عنب يأكل منه..

وانه لموثق في الحديد.. وما
بمكة كلها ثمرة عنب واحدة..

ما أظنه الا رزقا رزقه الله
خبيبا"..!!


أجل آتاه الله عبده الصالح, كما آتى من قبل
مريم بنت عمران, يوم كانت:

( كلما دخل عليها زكريا المحراب
وجد عندها رزقا..

قال يا مريم أنّى لك هذا قالت
هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)..



وحمل المشركون الى خبيب نبأ مصرع زميله وأخيه
زيد رضي الله عنه.

ظانين أنهم بهذا يسحقون أعصابه,
ويذيقونه ضعف الممات وما كانوا يعلمون أن الله الرحيم قد استضافه, وأنزل عليه
سكينته ورحمته.

وراحوا يساومونه على ايمانه,
ويلوحون له بالنجاة اذا ما هو كفر بمحمد, ومن قبل بربه الذي آمن به.. لكنهم كانوا
كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل..!!

أجل, كان ايمان خبيب كالشمس
قوة, وبعدا, ونارا ونورا..

كان يضيء كل من التمس منه
الضوء, ويدفئ كل من التمس منه الدفء, أما الذي يقترب منه ويتحدّاه فانه يحرقه
ويسحقه..

واذا يئسوا مما يرجون, قادوا
البطل الى مصيره, وخرجوا به الى مكان يسمى التنعيم حيث يكون هناك مصرعه..


وما ان بلغوه حتى استأذنهم خبيب
في أن يصلي ركعتين, وأذنوا له ظانين أنه قد يجري مع نفسه حديثا ينتهي باستسلامه
واعلان الكفران بالله وبرسوله وبدينه..

وصلى خبيب ركعتين في خشوع وسلام
واخبات...

وتدفقت في روحه حلاوة الايمان, فودّ لو يظل
يصلي, ويصلي ويصلي..

ولكنه التفت صوب قاتليه وقال
لهم:

" والله لاتحسبوا أن بي جزعا من
الموت, لازددت صلاة"..!!

ثم شهر ذراعه نحو السماء
وقال:

" اللهم احصهم عددا.. واقتلهم
بددا"..

ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله
مصرعي

وذلك في ذات الاله وان يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع



ولعله لأول مرة في تاريخ العرب يصلبون رجلا ثم
يقتلونه فوق الصليب..

ولقد أعدّوا من جذوع النخل
صليبا كبيرا أثبتوا فوقه خبيبا.. وشدّوا فوق أطرافه وثاقه.. واحتشد المشركون في
شماتة ظاهرة.. ووقف الرماة يشحذون رماحهم.

وجرت هذه الوحشية كلها في بطء
مقصود امام البطل المصلوب..!!

لم يغمض عينيه, ولم تزايل
السكينة العجيبة المضيئة وجهه.

وبدأت الرماح تنوشه, والسيوف
تنهش لحمه.

وهنا اقترب منه أحد زعماء قريش
وقال له:

" أتحب أن محمدا مكانك, وأنت
سليم معافى في أهلك"..؟؟

وهنا لا غير انتفض خبيب
كالاعصار وصاح, في قاتليه:

" والله ما أحبّ أني في اهلي
وولدي, معي عافية الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة"..

نفس الكلمات العظيمة التي قالها صاحبه زيد وهم
يهمّون بقتله..! نفس الكلمات الباهرة الصادعة التي قالها زيد بالأمس.. ويقولها خبيب
اليوم.. مما جعل أبا سفيان, وكان لم يسلم بعد, يضرب كفا بكف ويقول مشدوها:" والله
ما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا"..!!




كانت كلمات خبيب هذه ايذانا للرماح وللسيوف بأن
تبلغ من جسد البطل غايتها, فتناوشه في جنون ووحشية..

وقريبا من المشهد كانت تحوم
طيور وصقور. كأنها تنتظر فراغ الجزارين وانصرافهم حتى تقترب هي فتنال من الجثمان
وجبة شهيّة..

ولكنها سرعان ما تنادت وتجمّعت,
وتدانت مناقيرها كأنها تتهامس وتتبادل الحديث والنجوى.

وفجأة طارت تشق الفضاء, وتمضي
بعيدا.. بعيدا..


لكأنها شمّت بحاستها وبغريزتها عبير رجل صالح
أوّاب يفوح من الجثمان المصلوب, فخدلت أن تقترب منه أو تناله بسوء..!!


مضت جماعة الطير الى رحاب
الفضاء متعففة منصفة.



وعادت جماعة المشركين الى أوكارها الحاقدة في
مكة باغية عادية..

وبقي الجثمان الشهيد تحرسه فرقة
من القرشيين حملة الرماح والسيوف..!!

كان خبيب عندما رفعوه الى جذوع النخل التي
صنعوا منها صليبا, قد يمّم وجهه شطر السماء وابتهل الى ربه العظيم قائلا:


" اللهم انا قد بلّغنا رسالة
رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا"..

واستجاب الله دعاءه..


فبينما الرسول في المدينة اذ
غمره احساس وثيق بأن أصحابه في محنة..

وتراءى له جثمان أحدهم
معلقا..

ومن فوره دعا المقداد بن عمرو,
والزبير بن العوّام..

فركبا فرسيهما, ومضيا يقطعان
الأرض وثبا.

وجمعهما الله بالمكان المنشود,
وأنزلا جثمان صاحبهما خبيب, حيث كانت بقعة طاهرة من الأرض في انتظاره لتضمّه تحت
ثراها الرطيب.


ولا يعرف أحد حتى اليوم أين قبر خبيب.


ولعل ذلك أحرى به وأجدر, حتى
يظل مكانه في ذاكرة التاريخ, وفي ضمير الحياة, بطلا.. فوق الصليب..!!!


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله زيد بن حارثه و عمير بن سعد   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 25, 2011 5:54 pm

زيد بن ثابت

جامع القرآن



اذا حملت المصحف بيمينك, واستقبلته بوجهك, ومضيت تتأنق في روضاته اليانعات, سورة سورة, وآية آية, فاعلم أن من بين الذين يدينونك بالشكر والعرفان على هذا الصنع العظيم, رجل كبير اسمه: زيد بن ثابت...!!

وان وقائع جمع القرآن في مصحف, لا تذكر الا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل..

وحين تنثر زهور التكريم على ذكرى المباركين الذين يرجع اليهم فضل جمع القرآن وترتيبه وحفظه, فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور, لحظ عظيم..


هو أنصاري من المدينة..

وكان سنّه يوم قدمها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا, احدى عشرة سنة, وأسلم الصبي الصغير مع المسلمين من أهله, وبورك بدعوة من الرسول له..

وصحبه آباؤه معهم الى غزوة بدر, لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه, وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من اترابه الى الرسول يحملون اليه ضراعتهم كي يقبلهم في أي مكان من صفوف المجاهدين..

وكان أهلوهم أكثر ضراعة والحاحا ورجاء..

ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة, وبدا كأنه سيعتذر عن تجنيدهم في هذه الغزوة أيضا..

لكن أحدهم وهو رافع بن خديج, تقدم بين يدي رسول الله, يحمل حربة, ويحركها بيمينه حركات بارعة,وقال للرسول عليه الصلاة والسلام:

" اني كما ترى رام, أجيد الرمي فأذن لي"..

وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة, النضرة, بابتسامة راضية, ثم أذن له..

وانتفضت عروق أتلاتبه..

وتقد ثانيهم وهو سمرة بن جندب, وراح يلوّح في أدب بذراعيه المفتولين, وقال بعض اهله للرسول:

" ان سمرة يصرع رافعا"..

وحيّاه الرسول بابتسامته الحانية, وأذن له..



كانت سن كل من رافع وسمرة قد بلغت الخامسة عشرة, الى جانب نموهما الجسماني القوي..

وبقي من الأتراب ستة أشبال, منهم زيد بن ثابت, وعبدالله بن عمر..

ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة, وبالدمع تارة, وباستعراض عضلاتهم تارة..

لكن أعمارهم كانت باكرة, وأجسامهم غضة, فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة..

بدأ زيد مع احزانه دوره كمقاتل في سبيل الله بدءا من غزوة الخندق, سنة خمس من الهجرة.



كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّا سريعا وباهرا, فهو لم يبرع كمجاهد فحسب, بل كمثقف متنوع المزايا أيضا, فهو يتابع القرآن حفظا, ويكتب الوحي لرسوله, ويتفوق في العلم والحكمة, وحين يبدأ رسول الله في ابلاغ دعوته للعالم الخارجي كله, وارسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها, يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فيتعلمها في وقت وجيز..

وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمع مكانا عليّا, وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم..

يقول الشعبي:

" ذهب زيد بن ثابت ليركب, فأمسك ابن عباس بالرّكاب.

فقال له زيد: تنحّ يا ابن عم رسول الله.. فأجابه ابن عباس: لا, هكذا نصنع بعلمائنا"..

ويقول قبيصة:

" كان زيدا رأسا بالمدينة في القضاء, والفتوى والقراءة, والفرائض"..

ويقول ثابت بن عبيد:

" ما رأيت رجلا أفكه في بيته, ولا أوقر في مجلسه من زيد".

ويقول ابن عباس:

" لقد علم المحفوظين من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم"..

ان هذه النعوت التي يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي تدّخر له المقادير شرف مهمة من أنبل المهام في تاريخ الاسلام كله..

مهمة جمع القرآن..



منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه الى رسول الله ليكون من المنذرين, مستهلا موكب القرآن والدعوة بهذه الآيات الرائعة..

( اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الانسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الانسان ما لم يعلم)..

منذ تلك البداية, والوحي يصاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام, ويخف اليه كلما ولّى وجهه شطر الله راجيا نوره وهداه..

وخلال سنوات الرسالة كلها, حيث يفرغ النبي من غزوة ليبدأ بأخرى, وحيث يحبط مكيدة وحربا, ليواجه خصومة بأخرى, وأخرى. وحيث يبني عالما جديدا بكل ما تحمله من الجدّة من معنى..



كان الوحي يتنزل, والرسول يتلو, ويبلّغ, وكان هناك ثلة مباركة تحرّك حرصها على القرآن من أول يوم, فراح بعضهم يحفظ منه ما استطاع, وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة, يحتفظون بالآيات مسطورة.

وخلال احدى وعشرين سنة تقريبا, نزل القرآن خلالها آية آية, أو آيات, تلو آيات, ملبيا مناسبات النزول وأسبابها, كان أولئك الحفظة, والمسجلون, يوالون عملهم في توفيق من الله كبير..

ولم يجيء القرآن مرة واحدة وجملة واحدة, لأنه ليس كتابا مؤلفا, ولا موضوعا.

انما هو دليل أمة جديدة تبني على الطبيعة, لبنة لبنة, ويوما يوما, تنهض عقيدتها, ويتشكل قلبها, وفكرها, وارادتها وفق مشيئة الهية, لا تفرض نفسها من عل, وانما تقود التجربة البشرية لهذه الأمة في طريق الاقتناع الكامل بهذه المشيئة..

ومن ثمّ, كان لا بد للقرآن أن يجيء منجّما, ومجرأ, ليتابع التجربة في سيرها النامي, ومواقفها المتجددة. وأزماتها المتصديّة.

توافر الحفاظ, والكتبة, كما ذكرنا من قبل, على حفظ القرآن وتسجيله,وكان على رأسهم علي ابن ابي طالب, وأبيّ بن كعب, وعبدالله ابن مسعود, وعبدالله بن عباس, وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين..



وبعد أن تمّ نزولا, وخلال الفترة الأخيرة من فترات تنزيله, كان الرسول يقرؤه على المسلمين.. مرتبا سوره وآياته.

وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شغل المسلمون من فورهم بحروب الردّة..

وفي معركة اليمامة.. التي تحدثنا عنها من قبل خلال حديثنا عن خالد بن الوليد وعن زيد بن الخطاب كان عدد الشهدا من قرّاء القرآن وحفظته كبيرا.. فما كادت نار الردّة تخبو وتنطفئ حتى فزع عمر الى الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما راغبا اليه في الحاح أن يسارعوا الى جمع القرآن قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاء والحفاظ.

واستخار الخليفة ربه.. وشاور صحبه.. ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:

" انك شاب عاقل لا نتهمك".

وأمره أن يبدأ بجمع القرآن الكريم, مستعينا بذوي الخبرة في هذا الموضوع..

ونهض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصير الاسلام كله كدين..!

وأبلى بلاء عظيما في انجاز أشق المهام وأعظمها, فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ, ومن مواطنها المكتوبة, ويقابل, ويعارض, ويتحرّى, حتى جمع القرآن مرتبا ومنسقا..

ولقد زكّى عمله اجماع الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا يسمعونه من رسولهم صلى الله عليه وسلم خلال سنوات الرسالة جميعها, لا سيّما العلماء منهم والحفاظ والكتبة..

وقال زيد وهو يصوّر الصعوبة الكبرى التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها..

" والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه, لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن"..!!

أجل..

فلأن يحمل زيد فوق كاهله جبلا, أو جبالا, أرضى لنفسه من أن يخطئ أدنى خطأ, في نقل آية أو اتمام سورة..

كل هول يصمد له ضميره ودينه.. الا خطأ كهذا مهما يكن ضعيفا وغير مقصود..

ولكن توفيق الله كان معه, كان معه كذلك وعده القائل:

( انا نحن نزلنا الذكر وان له لحافظون)..

فنجح في مهمته, وأنجز على خير وجه مسؤوليته وواجبه.




كانت هذه هي المرحلة الأولى في جمع القرآن..

بيد أنه جمع هذه المرة مكتوبا في أكثر من مصحف..



وعلى الرغم من أن مظاهر التفاوت والاختلاف بين هذه المصاحف كانت شكلية,
فان التجربة أكّدت لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وجوب
توحيدها جميعها في مصحف واحد.

ففي خلافة عثمان رضي الله عنه, والمسلمون يواصلون فتوحاتهم وزحوفهم, مبتعدين عن المدينة مغتربين عنها..

في تلك الأيام, والاسلام يستقبل كل يوم أفواجا تلو أفواج من الداخلين فيه, المبايعين اياه, ظهر جليّا ما يمكن أن يفضي اليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين..

هنالك تقدم الى الخليفة عثمان فريق من الأصحاب رضي الله عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان مفسرين الضرورة التي تحتم توحيد المصحف..


واستخار الخليفة ربه وشاور صحبه..


وكما استنجد أبو بكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت, استنجد به عثمان أيضا..

فجمع زيد أصحابه وأعوانه, وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها, وكانت محفوظة لديها, وباشر زيد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة..

كان كل الذين يعوانون زيدا من كتاب الوحي, ومن حفظة القرآن..

ومع هذا فما كانوا يختلفون , وقلما كانوا يختلفون, الا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجة والفيصل.



والآن نحن نقرأ القرآن العظيم ميسّرا, أو نسمعه مرتلا, فان الصعوبات الهائلة التي عاناها الذين اصطنعهم الله لجمعه وحفظه لا تخطر لنا على بال..!!

تماما مثل الأهوال التي كابدوها, والأرواح التي بذلوها, وهم يجاهدون في سبيل الله, ليقرّوا فوق الأرض دينا قيّما, وليبددوا ظلامها بنوره المبين..


[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]


عمير بن سعد


نسيج وحده





أتذكرون سعيد بن عامر..؟؟


ذلك الزاهد العابد الأوّاب الذي
حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها..

لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا,
ورأينا من زهده وترفعه, ومن ورعه العجب كله..

وها نحن أولاء, نلتقي على هذه
الصفات بأخ له, بل توأم, في الورع وفي الزهد, وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل
عن النظير..!!

انه عمير بن سعد..


كان المسلمون يلقبونه نشيج
وحده!!

وناهيك برجل يجمع على تلقيبه
بهذا اللقب أصحاب رسول الله, وبما معهم من فضل وفهم ونور..!!





أبوه سعد القارئ رضي الله عنه..
شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا
في موقعة القادسية.

ولقد اصطحب ابنه الى الرسول,
فبايع النبي وأسلم..

ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم
في محراب الله.

يهرب من الأضواء, ويفيئ الى
سكينة الظلال.

هيهات أن تعثر عليه في الصفوف
الأولى, الا أن تكون صلاة, فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن
يكون جهاد, فهو يهرول الى الصفوف الأولى, راجيا أن يكون من المستشهدين..!


وفيما عدا هذا, فهو هناك عاكف
على نفسه ينمي برّها, وخيرها وصلاحها وتقاها..!!

متبتل, ينشد أوبه..!!


أوّاب, يبكي ذنبه..!!


مسافر الى الله في كل ظعن, وفي
كل مقام...




ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّا, فكان
قرّة أعينهم ومهوى أفئدتهم..

ذلم أن قوة ايمانه, وصفاء نفسه,
وهدوء سمته, وعبير خصاله, واشراق طلعته, كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه, أو
يراه.

ولم يكن يؤثر على دينه أحدا,
ولا شيئا.

سمع يوما جلاس بن سويد بن
الصامت, وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا, لنحن
شرّ من الحمر"..!!

وكان يعني بالرجل رسول الله صلى
الله عليه وسلم.

وكان جلاس من الذين دخلوا
الاسلام رهبا.

سمع عمير بن سعد هذه العبارات
ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ
والحيرة..

الغيظ, لأن واحدا يزعم أنه من
المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة..

والحيرة, لأن خواطره دارت سريعا
على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر..

ينقل ما سمع الى رسول
الله؟؟

كيف, والمجالس
بالأمانة..؟؟

أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟


كيف؟؟

وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي
هداهم الله به من ضلالة, وأخرجهم من ظلمة..؟

لكن حيرته لم تطل, فصدق النفس
يجد دائما لصاحبه مخرجا..

وعلى الفور تصرّف عمير كرجل
قوي, وكمؤمن تقي..

فوجه حديثه الى جلاس بن
سويد..

" والله يا جلاس, انك لمن أحب
الناس الي, وأحسنهم عندي يدا, وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه..


ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها
عنك لآذتك.. وان صمتّ عليها, ليهلكن ديني, وان حق الدين لأولى بالوفاء, واني مبلغ
رسول الله ما قلت"..!

وأرضى عمير ضميره الورع
تماما..

فهو أولا أدّى أمانة المجلس
حقها, وارتفع بنفسه الكبيرة عن ان يقوم بدور المتسمّع الواشي..


وهو ثانيا أدى لدينه حقه, فكشف
عن نفاق مريب..

وهو ثالثا أعطى جلاس فرصة
للرجوع عن خطئه واستغفار الله منه حين صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم,
ولو أنه فعل آنئذ, لاستراح ضمير عمير ولم تعد به حاجة لابلاغ الرسول عليه
السلام..

بيد أن جلاسا أخذته العزة
بالاثم, ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار, وغادرهم عمير وهو يقول:


" لأبلغنّ رسول الله قبل أن
ينزل وحي يشركني في اثمك"...

وبعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم في طلب جلاس فأنكر أنه قال, بل حلف بالله كاذبا..!!

لكن آية القرآن جاءت تفصل بين
الحق والباطل:

( يحلفون بالله ما قالوا.. ولقد
قالوا كلمة الكفر, وكفروا بعد اسلامهم, وهمّوا بما لم ينالوا.. وما نقموا الا أن
أغناهم الله ورسوله من فضله.. فان يتوبوا خيرا لهم, وان يتولوا يعذبهم الله عذابا
أليما في الدنيا والآخرة,وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير)..




واضطر جلاس أن يعترف بمقاله, وأن يعتذر عن
خطيئته, لا سيما حين رأى الآية الكريمة التي تقرر ادانته, تعده في نفس اللحظة برحمة
اله ان تاب هو وأقلع:

" فان يتوبوا, يك خيرا
لهم"..

وكان تصرّف عمير هذا خيرا وبركة
على جلاس فقد تاب وحسن اسلامه..

وأخذ النبي بأذن عمير وقال له
وهو يغمره بسناه:

" يا غلام..


وفت اذنك..


وصدّقك ربك"..!!






لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة, وأنا أكتب كتابي
بين يدي عمر.

وبهرني, كما لم يبهرني شيء,
نبأه مع أمير المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم, لتشهدوا من خلاله العظمة
في أبهى مشارقها..




تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان
يختار ولاته وكأنه يختار قدره..!!

كان يختارهم من الزاهدين
الورعين, والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الامارة والولاية, ولا يقبلونها الا
حين يكرههم عليها أمير المؤمنين..

وكان برغم بصيرته النافذة
وخبرته المحيطة يستأني طويلا, ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه..


وكان لا يفتأ يردد عبارته
المأثورة:

" أريد رجلا اذا كان في القوم,
وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير, بدا وكأنه واحد
منهم..!!

أريد واليا, لا يميز نفسه على
الناس في ملبس, ولا في مطعم, ولا في مسكن..

يقيم فيهم الصلاة.. ويقسم بينهم
بالحق.. ويحكم فيهم بالعدل.. ولا يغلق بابه دون حوائجهم"..

وفي ضوء هذه المعايير الصارمة,
اختار ذات يوم عمير بن سعد واليا على حمص..

وحاول عمير أن يخلص منها وينجو,
ولكن أمير المؤمنين ألزمه بها الزاما, وفرضها عليه فرضا..

واستخار الله ,ومضى الى واجبه
وهمه..

وفي حمص مضى عليه عام كامل, لم
يصل الى المدينة منه خراج..

بل ولم يبلغ أمير المؤمنين رضي
الله عنه منه كتاب..

ونادى أمير المؤمنين كاتبه وقال
له:

" اكتب الى عمير ليأتي
الينا"..

وهنا أستأذنكم في أن أنقل صورة
اللقاء بين عمر وعمير, كما هي في كتابي بين يدي عمر.

" ذات يوم شهدت شوارع المدينة
رجلا أشعث أغبر, تغشاه وعثاء السفر, يكاذ يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا, من طول ما
لاقى من عناء, وما بذل من جهد..

على كتفه اليمنى جراب
وقصعة..

وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة
فيها ماء..!

وانه ليتوكأ على عصا, لا يؤدها
حمله الضامر الوهنان..!!

ودلف الى مجلس عمر فى خطى
وئيدة..

السلام عليك يا امير
المؤمنين..

ويرد عمر السلام, ثم يسأله, وقد
آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء:

ما شأنك يا عمير..؟؟


شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح
البدن, طاهر الدم, معي الدنيا أجرّها بقرنيها..؟؟!!

قال عمر: وما معك..؟


قال عمير: معي جرابي أحمل فيه
زادي..

وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل
فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها, وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما
الدنيا الا تبع لمتاعي..!!

قال عمر: أجئت ماشيا..


عمير: نعم..


عمر: أولم تجد من يعطيك
دابة تركبها..؟

عمير: انهم لم يفعلوا.. واني لم
أسألهم..

عمر: فماذا عملت فيما عهدنا
اليك به...؟

عمير: أتيت البلد الذي يعثتني
اليه, فجمعت صلحاء أهله, ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم, حتى اذا جمعوها وضعوها في
مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..!!

عمر: فما جئتنا بشيء..؟


عمير: لا..


فصاح عمر وهو منبهر سعيد:


جدّدوا لعمير عهدا..


وأجابه عمير في استغناء
عظيم:

تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك,
ولا لأحد بعدك"..!!

هذه الصورة ليست سيناريو نرسمه,
وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية, شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة
الاسلام في أيام خلده وعظمته.

فأي طراز من الرجال كان أولئك
الأفذاذ الشاهقون..؟!!





وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول:


" وددت لو أن لي رجالا مثل عمير
أستعين بهم على أعمال المسلمين"..

ذلك أن عميرا الذي وصفه أصحابه
بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف انساني يسببه وجودنا المادي, وحياتنا
الشائكة..

ويوم كتب على هذا القدّيس
العظيم أن يجتاز تجربة الولاية والحكم, لم يزدد ورعه بها الا مضاء ونماء
وتألقا..

ولقد رسم وهو أمير على حمص
واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها في حشود المسلمين من فوق
المنبر.

وها هي ذي:


" ألا ان الاسلام حائط منيع,
وباب وثيق

فحائط الاسلام العدل.. وبابه
الحق..

فاذا نقض الحائط, وحطّم الباب,
استفتح الاسلام.

ولا يزال الاسلام منيعا ما
اشتدّ السلطان

وليست شدّة السلطان قتلا
بالسيف, ولا ضربا بالسوط..

ولكن قضاء بالحق, وأخذا
بالعدل"..!!



والآن نحن نودّع عميرا.. ونجييه في اجلال
وخشوع, تعالوا نحن رؤوسنا وجباهنا:

لخير المعلمين: محمد..


لامام المتقين: محمد..


لرحمة الله المهداة الى الناس
في قيظ الحياة

عليه من الله صلاته.
وسلامه..

وتحياته وبركاته..


وسلام على آله الآطهار..


وسلام على أصحابه
الأبرار...

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اسيا امير
راكب نشيط
راكب نشيط



الجنس : انثى
عدد المساهمات : 169
نقاط : 521
تاريخ التسجيل : 17/02/2011
العمر : 34
الموقع : الفيوم / جمهورية مصر العربية

رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول رسول الله أبو أيوب ألآنصارى و خالد بن سعيد   رجال حول رسول الله   مصعب  بن  عمير  و  سعد بن ابى  وقاص Emptyالجمعة مارس 25, 2011 5:57 pm


أبو أيوب
الأنصاري

انفروا خفافا
وثقالا

كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما
بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة, ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر
لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..

وسار الرسول وسط الجموع التي
اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة, ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس
حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..

وبلغ الموكب دور بني سالم بن
عوف, فاعترضوا طريق الناقة قائلين:

" يا رسول الله, أقم عندنا,
فلدينا العدد والعدة والمنعة"..

ويجيبهم الرسول وقد قبضوا
بأيديهم على زمام الناقة:

" خلوا سبيلها فانها
مأمورة".

ويبلغ الموكب دور بني بياضة,
فحيّ بني ساعدة, فحي بني الحارث بن الخزرج, فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من
هؤلاء يعترض سبيل الناقة, وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في
دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:

" خلوا سبيلها فانها
مأمورة..

لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث
سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا
بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حجرات من طين وطوب.. ليس بها
من متاع الدنيا سوى كفاف, أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم, ورسول جاء لينفخ الحياة في
روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين
آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم لله.. للذين يصلحون في الأرض
ولا يفسدون.

أجل كان الرسول عليه الصلاة
والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..

من اجل هذا, ترك هو أيضا زمام
ناقته وأرسله, فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه,
وابتهل اليه بلسانه:

" اللهم خر لي, واختر
لي"..

وأمام دار بني مالك بن النجار
بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان, ثم عادت الى مبركها الأول, وألقت جرانها.
واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن
والبركة..

أتدرون من كان هذا السعيد
الموعود الذي بركت الناقة أمام داره, وصار الرسول ضيفه, ووقف أهل المدينة جميعا
يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟

انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب
الأنصاري خالد بن زيد, حفيد مالك بن النجار..

لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب
مع رسول الله..

فمن قبل, وحين خرج وفد المدينة
لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان
أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين,
مناصرين.



والآن رسول الله يشرف المدينة, ويتخذها عاصمة
لدين الله, فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر
العظيم, والرسول الكريم.

ولقد آثر الرسول أن ينزل في
دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته
الرجفة, ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما, وفي مكان أعلى من المكان الذي
يقوم فيه رسول الله وينام..!!

وراح يلح على النبي ويرجوه ان
ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..

ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ
المسجد, وبناء حجرة له بجواره..

ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام
وتشن غاراتها على دار الهجرة بالمدينة, وتؤلب القبائل, وتجيش الجيوش لتطفئ نور
الله..

منذ تلك البداية, واحترف أبو
أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.

ففي بدر, وأحد والخندق, وفي كل
المشاهد والمغازي, كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله رب العالمين..


وبعد وفاة الرسول, لم يتخلف عن
معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها, مهما يكن بعد الشقة, وفداحة المشقة..!


وكان شعاره الذي يردده دائما,
في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:

( انفروا خفافا وثقالا)..


مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل
الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين, ولم يقتنع أبو أيوب بامارته.


مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان
الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه, ويقول:

" ما عليّ من استعمل
عليّ"..؟؟

ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!

كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام, يقاتل
تحت رايته, ويذود عن حرمته..

ولما وقع الخلاف بين علي
ومعاوية, وقف مع علي في غير تردد, لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما
استشهد وانتهت الخلافة لمعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة, الصامدة التقية لا يرجو
من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى, وبين صفوف المجاهدين..


وهكذا, لم يكد يبصر جيش الاسلام
يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه, وحمل سيفه, وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما
حنّ اليه واشتاق..!!



وفي هذه المعركة أصيب.

وذهب قائد جيشه ليعوده, وكانت
أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..

فسأله القائد, وكان يزيد بن
معاوية:

" ما حاجتك أبا أيوب"؟


ترى, هل فينا من يستطيع أن
يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟

كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود
بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر, وكل تخيّل لبني الانسان..!!


لقد طلب من يزيد, اذا هو مات أن
يحمل جثمانه فوق فرسه, ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو, وهنالك يدفنه,
ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق, حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره,
فيدرك آنئذ أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!

أتحسبون هذا شعرا..؟


لا.. ولا هو بخيال, بل واقع,
وحق شهدته الدنيا ذات يوم, ووقفت تحدق بعينيها, وبأذنيها, لا تكاد تصدق ما تسمع
وترى..!!

ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي
أيوب..

وفي قلب القسطنطينية, وهي اليوم
استامبول, ثوى جثمان رجل عظيم, جدّ عظيم..!!



وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع, كان أهل
القسطنطينية من الروم, ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...


وانك لتعجب اذ ترى جميع
المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:

" وكان الروم يتعاهدون قبره,
ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!



وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي
أيوب, والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح, على الرغم من ذلك, فان حياته كانت
هادئة, نديّة كنسيم الفجر..



ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم
حديثا فوعاه:

" واذا صليت فصل صلاة
مودّع..

ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر
منه..

والزم اليأس مما في أيدي
الناس"...

وهكذا لم يخض في لسانه
فتنة..

ولم تهف نفسه الى مطمع..


وقضى حياته في أشواق عابد,
وعزوف مودّع..

فلما جاء أجله, لم يكن له في
طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها
وعظمتها:

" اذهبوا بجثماني بعيدا..
بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...

كان يؤمن بالنصر, وكان يرى بنور
بصيرته هذه البقاع, وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام, ودخلت مجال نوره وضيائه..

ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه
الأخير هناك, في عاصمة تلك البلاد, حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة, وحيث يستطيع
تحت ثراه الطيّب, أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها, فيسمع خفق أعلامها, وصهيل خيلها,
ووقع أقدامها, وصلصلة سيوفها..!!

وانه اليوم لثاو هناك..


لا يسمع صلصلة السيوف, ولا صهيل
الخيول..

قد قضي الأمر, واستوت على
الجوديّ من أمد بعيد..

لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى
مسائه, روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..

أن:

الله أكبر..


الله أكبر..


وتجيب روحه المغتبطة في دار
خلدها, وسنا مجدها:

هذا ما وعدنا الله ورسوله


وصدق الله ورسوله....





خالد بن سعيد


فدائيّ, من الرعيل
الأول


في بيت وارف النعمة, مزهو بالسيادة, ولأب له في
قريش صدارة وزعامة, ولد خالد بن سعيد بن العاص, وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا: ابن
اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف..

ويوم بدأت خيوط النور تسري في
أنحاء مكة على استحياء, هامسة بأن محمدا الأمين يتحدث عن وحي جاءه في غار حراء, وعن
رسالة تلقاها من الله ليبلغها الى عباده, كان قلب خالد يلقي للنور الهامس سمعه وهو
شهيد..!!

وطارت نفسه فرحا, كأنما كان
وهذه الرسالة على موعد.. وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها ومسراها.. وكلما سمع ملأ
من قومه يتحدثون عن الدين الجديد, جلس اليهم وأصغى في حبور مكتوم, وبين الحين
والحين يطعّم الحديث بكلمة منه, أو كلمات تدفعه في طريق الذيوع, والتأثير,
والايحاء..!

كان الذي يراه أنئذ, يبصر شابا
هادئ السمت, ذكيّ الصمت, بينما هو في باطنه وداخله, مهرجان حافل بالحركة والفرح..
فيه طبول تدق.. ورايات ترتفع.. وأبواق تدوّي.. وأناشيد تصلي.. وأغاريد تسبّح..


عيد بكل جمال العيد, وبهجة
العيد وحماسة العيد, وضجة العيد..!!!

وكان الفتى يطوي علىهذا العيد
الكبير صدره, ويكتم سرّه, فان أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه الحفاوة بدعوة
محمد, لأزهق حياته قربانا لآلهة عبد مناف..!!

ولكن أنفسنا الباطنة حين تفعم
بأمر, ويبلغ منها حدّ الامتلاء فانها لا تملك لافاضته دفعا..


وذات يوم..


ولكن لا.. فان النهار لم يطلع
بعد, وخالد ما زال في نومه اليقظان, يعالج رؤيا شديدة الوطأة, حادة التأثير, نفاذة
العبير..



نقول اذن: ذات ليلة, رأى خالد بن سعيد في نومه
أنه واقف على شفير نار عظيمة, وأبوه من ورائه يدفعه بكلتا يديه, ويريد أن يطرحه
فيها, ثم رأى رسول الله يقبل عليه, ويجذبه بيمينه المباركة من ازاره فيأخذه بعيدا
عن النار واللهب..

ويصحو من نومه مزوّدا بخطة
العمل في يومه الجديد, فيسارع من فوره الى دار أبي بكر, ويقصّ عليه الرؤيا.. وما
كانت الرؤيا بحاجة الى تعبير..د

وقال له أبو بكر:


" انه الخير أريد لك.. وهذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه, فان الاسلام حاجزك عن النار".


وينطلق خالد باحثا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى يهتدي الى مكانه فيلقاه, ويسأل النبي عن دعوته, فيجيبه عليه
السلام:

" تؤمن بالله وحده, ولا تشرك به
شيئا..

وتؤمن بمحمد عبده ورسوله..
وتخلع عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر, ولا تضر ولا تنفع"..


ويبسط خالد يمينه, فتلقاها يمين
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفاوة, ويقول خالد:

" اني أشهد أن لا اله الا
الله...

وأشهد أن محمدا رسول
الله"..!!

وتنطلق أغاريد نفسه
وأناشيدها..

ينطلق لمهرجان كله الذي كان في
باطنه.. ويبلغ النبأ أباه.


يوم أسلم خالد, لم يكن قد سبقه الى الاسلام سوى
اربعة أو خمسة,فهو اذن من الخمسة الأوائل المبكرين الى الاسلام.


وحين يباكر بالاسلام واحد من
ولد سعيد بن العاص, فان ذلك في رأي سعيد, عمل يعرّضه للسخرية والهوان من قريش, ويهز
الأرض تحت زعامته.

وهكذا دعا اليه خالد, وقال له:"
أصحيح أنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يعيب آلهتنا"..؟؟

قال خالد: " انه والله
لصادق..

ولقد آمنت به واتبعته"..


هنالك انهال عليه أبوه ضربا, ثم
زجّ به في غرفة مظلمة من داره, حيث صار حبيسها, ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا
وضنكأ..

وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب
المغلق عليه:

" والله انه لصادق, واني به
لمؤمن".

وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من
ضرر لا يكفي, فخرج به الى رمضاء مكة, حيث دسّه بين حجارتها الثقيلة الفادحة
الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل..!!

ولا يبلل شفتيه قطرة
ماء..!!

ويئس الوالد من ولده, فعاد به
الى داره, وراح يغريه, ويرهبه.. يعده, ويتوعّده.. وخالد صامد كالحق, يقول
لأبيه:

" لن أدع الاسلام لشيء, وسأحيا
به وأموت عليه"..

وصاح سعيد:


" اذن فاذهب عني يا لكع,
فواللات لأمنعنّك القوت"..

وأجابه خالد:


".. والله خير
الرازقين"..!!

وغادر الدار التي تعجّ بالرغد,
من مطعم وملبس وراحة..

غادرها الى الخصاصة
والحرمان..

ولكن أي بأس..؟؟


أليس ايمانه معه..؟؟


ألم يحتفظ بكل سيادة ضميره,
وبكل حقه في مصيره..؟؟

ما الجوع اذن, وما الحرمان, وما
العذاب..؟؟



واذا وجد انسان نفسه مع حق عظيم كهذا الحق الذي
يدعو اليه محمد رسول الله, فهل بقي في العالم كله شيء ثمين لم يمتلكه من ربح نفسه
في صفقة, الله صاحبها وواهبها...؟؟

وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر
العذاب بالتضحية, ويتفوق على الحرمان بالايمان..

وحين أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة الثانية الى الحبشة, كان خالد بن سعيد, ممن
شدّوا رحالهم اليها..



ويمكث خالد هناك الى ما شاء الله ان يمكث, ثم
يعود مع اخوانه راجعين الى بلادهم, سنة سبع, فيجدون المسلمين قد فرغوا لتوهم من فتح
خيبر..

ويقيم خالد بالمدينة وسط
المجتمع المسلم الجديد الذي كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده, وأسسوا
بناءه, ولا يغزو النبي غزوة, ولا يشهد مشهدا, الا وخالد بن سعيد من السابقين..


وكان خالد بسبقه الى الاسلام,
وباستقامة ضميره ونهجه موضع الحب والتكريم..

كان يحترم اقتناعه فلا يزيفه
ولا يضعه موضع المساومة.

قبل وفاة الرسول جعله عليه
السلام واليا على اليمن..

ولما ترامت اليه أنباء استخلاف
أبي بكر, ومبايعته غادر عمله قادما الى المدينة..

وكانه يعرف لأبي بكر الفضل الذي
لا يطاول..

بيد أنه كان يرى أن أحق
المسلمين بالخلافة واحد من بين هاشم:

العباس مثلا, أو عليّ ابن أبي طالب..


ووقف الى جانب اقتناعه فلم
يبايع أبا بكر..

وظل أبو بكر على حبه له,
وتقديره اياه لا يكرهه على أن يبايع, ولا يكرهه لأنه لم يبايع, ولا يأتي ذكره بين
المسلمين الا أطراه الخليفة العظيم, وأثنى عليه بما هو أهله..


ثم تغيّر اقتناع خالد بن سعيد,
فاذا هو يشق الصفوف في المسجد يوما وأبو بكر فوق المنبر, فيبايعه بيعة صادقة
وثقى..




ويسيّر أبا بكر جيوشه الى الشام, ويعقد لخالد
بن سعيد لواء, فيصير أحد أمراء الجيش..

ولكن يحدث قبل أن تتحرك القوات
من المدينة أن يعارض عمر في امارة خالد بن سعيد, ويظل يلح على الخليفة أن يغيّر
قراره بشأن امارة خالد..

ويبلغ النبأ خالد, فلا يزيد على
قول:

" والله ما سرّتنا ولايتكم, ولا
ساءنا عزلكم"..!!

ويخفّ الصدّيق رضي الله عنه الى
دار خالد معتذرا له, ومفسرا له موقفه الجديد, ويسأله مع من من القوّاد والأمراء يجب
أن يكون: مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه, أو مع شرحبيل بن حسنة؟


فيجيب خالد اجابة تنمّ على عظمة
نفسه وتقاها:

" ابن عمّي أحبّ اليّ في
قرابته, وشرحبيل أحبّ اليّ في دينه"..

ثم اختار أن يكون جنديا في
كتيبة شرحبيل بن حسنة..



ودعا ابو بكر شرحبيل اليه قبل أن يتحرّك الجيش,
وقال له:

" انظر خالد بن سعيد, فاعرف له
من الحق عليك, مثل مل كنت تحبّ أن يعرف من الحق لك, لو كنت مكانه, وكان
مكانك..

انك لتعرف مكانته في
الاسلام..

وتعلم أن رسول الله توفى وهو له
وال..

ولقد كنت وليته ثم رأيت غير
ذلك..

وعسى أن يكون ذلك خيرا له في
دينه, فما أغبط أحد بالامارة..!!

وقد خيّرته في أمراء الجند
فاختارك على ابن عمّه..

فاذا نزل بك أمر تحتاج فيه الى
رأي التقي الناصح, فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجرّاح, ومعاذ بن جبل..
وليكن خالد بن سعيد ثالثا, فانك واجد عندهم نصحا وخيرا..

واياك واستبداد الرأي دونهم, أو
اخفاءه عنهم"..



وفي موقعه مرج الصفر بأرض الشام, حيث كانت
المعارك تدور بين المسلمين والروم, رهيبة ضارية, كان في مقدمة الذين وقع أجرهم على
الله, شهيد جليل, قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده في مسيرة
صادقة مؤمنة شجاعة..

ورآه المسلمون وهم يفحصون شهداء
المعركة, كما كان دائما, هادئ السّمت, ذكي الصمت, قوي التصميم, فقاول:


" اللهم ارض عن خالد بن
سعيد"..!!

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رجال حول رسول الله مصعب بن عمير و سعد بن ابى وقاص
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رجال حول رسول الله 34
» جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اصحابه رضي الله عنهم وسألهم
» (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) البخيل من ذكرت عمده ولم يصلي علي
» هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ
» كيف هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقهر ابليس

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات مترو :: محطه الدين :: رصيف اولى الالباب-
انتقل الى: